فصل: تفسير الآيات (18- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 24):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}
قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} هذا تأكيد لما سلف من جملة {كل إنسان ألزمناه} ومن جملة {من اهتدى} والمراد بالعاجلة: المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمعنى: من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون {عَجَّلْنَا لَهُ} أي: عجلنا لذلك المريد {فِيهَا}: أي: في تلك العاجلة، ثم قيد المعجل بقيدين: الأوّل: قوله: {مَا نَشَاء} أي: ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا، وجملة: {لمن نريد} بدل من الضمير في {له} بإعادة الجار بدل البعض من الكل. لأن الضمير يرجع إلى {من} وهو للعموم، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20]. وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
وقد قيل: إنه قرئ: {ما يشاء} بالياء التحتية، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ، وعلى هذه القراءة فقيل: الضمير لله سبحانه، أي: ما يشاؤه الله، فيكون معناها معنى القراءة بالنون، وفيه بعد لمخالفته لما قبله، وهو {عجلنا} وما بعده وهو {لمن نريد}. وقيل: الضمير راجع إلى {من} في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ} فيكون ذلك مقيداً بقوله: {لمن نريد}: أي: عجلنا له ما يشاؤه، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلاّ إذا أراد الله له ذلك. ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي: جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه {يصلاها} في محل نصب على الحال أي: يدخلها {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} أي: مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة} أي: أراد بأعماله الدار الآخرة {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي: السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27]، والجملة في محل نصب على الحال، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} عند الله، أي: مقبولاً غير مردود، وقيل: مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة: الأول: إرادة الآخرة، الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث: أن يكون مؤمناً. ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} التنوين في {كلاً} عوض عن المضاف إليه، والتقدير كل واحد من الفريقين نمدّ، أي: نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق ب {نمد} {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً، يقال: حظره يحظره حظراً: منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء، فقد حظره عليك، و{هؤلاء} بدل من {كلا} وهؤلاء معطوف على البدل. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم الكافر وأنه يرزقهما جميعاً الفريقين فقال: {هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ}. {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى: انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها. {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، وقيل: المراد: أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، تهييجاً وإلهاباً، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه، وقيل: هو على إضمار القول، والتقدير: قل لكل مكلف: لا تجعل، وانتصاب {تقعد} على جواب النهي، والتقدير: لا يكون منك جعل فقعود؛ ومعنى {تقعد}: تصير، من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام؛ وقيل: هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب؛ وقيل: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} على خبرية تقعد أو على الحال: أي فتصير جامعاً بين الأمرين: الذم لك من الله ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بين الأمرين.
ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال: {وقضى رَبُّكَ} أي: أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} أي: بأن لا تعبدوا، فتكون {أن} ناصبة، ويجوز أن تكون مفسرة، و{لا} نهي. وقرئ: {ووصى ربك} أي: وصى عباده بعبادته وحده، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال: {وبالوالدين إحسانا} أي: وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، أو وأحسنوا بهما إحساناً، ولا يجوز أن يتعلق {بالوالدين} ب {إحسانا} لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به. قيل: ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} [لقمان: 14]. ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها، فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}: {إما} مركبة من (إن) الشرطية و(ما) الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير، كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة. قال النحويون: إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي: {يبلغان}. قال الفراء: ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} على الاستئناف، وأما على قراءة {يبلغن} فأحدهما فاعل بالاستقلال. وقوله: {أَوْ كِلاَهُمَا} فاعل أيضاً، لكن لا بالاستقلال، بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة: {يبلغان} بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل، ويكون {كلاهما} عطفاً على البدل، ولا يصحّ جعل {كلاهما} تأكيداً للضمير، لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى {عندك} في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في {عندك} و{لا تقل} وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ}: لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط.
وفي {أف} لغات: ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفى ممالاً، وأفه بالهاء. قال الفراء: تقول العرب: فلان يتأفف من ريح وجدها، أي: يقول أف أف.
وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف: وسخ الأظفار، يقال ذلك: عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به.
وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف: الضجر، وقال القتيبي: أصله: أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل: أفّ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم.
وقال الزجاج: معناه النتن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف: وسخ بين الأظفار، والثف: قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوت ينبئ عن ذلك، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} النهر: الزجر والغلظة، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما. {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلاً كَرِيمًا} أي: ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام {واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد: أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك. والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان: الأوّل: أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك: حاتم الجود، فالأصل فيه: الجناح الذليل، والثاني: سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً. وقرأ الجمهور: {الذلّ} بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل. وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير بكسر الذال، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم، من قولهم: دابة ذلول، بنية الذل، أي: منقادة سهلة لا صعوبة فيها، و{من الرحمة} فيه معنى التعليل، أي: من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ثم كأنه قال له سبحانه: ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن {قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما لي، أو مثل رحمتهما لي، وقيل: ليس المراد رحمة مثل الرحمة، بل الكاف لاقترانهما في الوجود، فلتقع هذه كما وقعت تلك.
والتربية: التنمية، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، أي: لأجل تربيتهما، لي كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} قال: من كان يريد بعمله الدنيا، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} ذاك به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله: {كُلاًّ نُّمِدُّ} الآية، قال: كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {مَحْظُورًا} ممنوعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}»، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين: «أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَذْمُومًا} يقول: ملوماً.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ: {ووصى ربك} مكان {وقضى} وقال: التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرءونها: {وقضى ربك}.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله.
وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد: «ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد». وأقول: إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله: {قُضِىَ الامر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}
[يوسف: 41]. وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} [البقرة: 200]. {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} [النساء: 103]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى: الخلق، ومنه {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12]. وبمعنى الإرادة كقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]. وبمعنى العهد كقوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44].
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وقضى رَبُّكَ} قال: أمر.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: عهد ربك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وبالوالدين إحسانا} يقول: برّاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} لما تميط عنهما من الأذى: الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول.
وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً: لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} قال: إذا دعواك فقل: لبيكما وسعديكما.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال: قولاً ليناً سهلاً.
وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} قال: يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال: اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَقُل رَّبّ ارحمهما} ثم أنزل الله بعد هذا {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} [التوبة: 113].
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.