فصل: تفسير الآيات (61- 65):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (61- 65):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}
لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة، سنها إبليس اللعين، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ، فقوله: {طِينًا} منتصب بنزع الخافض، أي: من طين، أو على الحال. قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طيناً، وهو منصوب على الحال. {أَرَءيْتَكَ} أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الاعراف: 12] فحذف هذا للعلم به {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} أي: لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال. قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً؛ وقيل معناه: لأسوقنّهم حيث شئت، وأقودنّهم حيث أردت، من قولهم: حنكت الفرس أحنكه حنكاً: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت ** جهدا إلى جهد بنا وأضعفت

واحتنكت أموالنا واختلفت

أي: استأصلت أموالنا، واللام في {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله، وهم المرادون بقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20]. فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]، وقيل: علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن. {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي: أطاعك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} أي: إبليس ومن أطاعه {جَزَاء مَّوفُورًا} أي: وافراً مكملاً، يقال: وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم

ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي: استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستفزه أي: أزعجه واستخفه، والمعنى: أستخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل: هو الغناء واللهو واللعب والمزامير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح، أي: صح عليهم.
وقال الزجاج أي: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك. فالإجلاب: الجمع. والباء في {بخيلك} زائدة.
وقال ابن السكيت: الإجلاب: الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»، وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب. وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله. {وَشَارِكْهُمْ في الأموال والأولاد} أما المشاركة في الأموال، فهي: كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد: دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: {وعدهُمْ} قال الفراء: قل لهم: لا جنة ولا نار.
وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلاً، وأصل الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل: هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه. {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} يعني: عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل: المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع {إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] والمراد بالسلطان: التسلط {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين، خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} فصدق ظنّه عليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأستولينّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد {لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ} قال: لأحتوينّهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنّهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {مَّوفُورًا} قال: وافراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} قال: صوته: كل داع دعا إلى معصية الله {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ} قال: كل راكب في معصية الله {وَرَجِلِكَ} قال: كل راجل في معصية الله {وَشَارِكْهُمْ في الأموال} قال: كل مال في معصية الله {والأولاد} قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: {الأموال} ما كانوا يحرّمون من أنعامهم {والأولاد} أولاد الزنا.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: {الأموال} البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله {والأولاد} سموا عبد الحارث وعبد شمس.

.تفسير الآيات (66- 70):

{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)}
قوله: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك في البحر} الإزجاء: السوق والإجراء والتسيير، ومنه قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} [النور: 43]. وقول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ** سائل بني أسد ما هذه الصور

وقول الآخر:
عوذا تزجي خلفها أطفالها

والمعنى: أن الله سبحانه يسيّر الفلك في البحر بالريح، والفلك ها هنا جمع، وقد تقدّم، والبحر هو الماء الكثير عذباً كان أو مالحاً، وقد غلب هذا الاسم على المشهور {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي: من رزقه الذي تفضل به على عباده، أو من الربح بالتجارة، و{من} زائدة أو للتبعيض، وفي هذه الآية تذكير لهم بنعم الله سبحانه عليهم حتى لا يعبدوا غيره ولا يشركوا به أحداً، وجملة: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} تعليل لما تقدّم أي: كان بكم رحيماً فهداكم إلى مصالح دنياكم. {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر} يعني: خوف الغرق {فِى البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} من الآلهة وذهب عن خواطركم، ولم يوجد لإغاثتكم ما كنتم تدعون من دونه من صنم، أو جنّ، أو ملك، أو بشر {إِلاَّ إِيَّاهُ} وحده فإنكم تعقدون رجاءكم برحمته وإغاثته، والاستثناء منقطع، ومعنى الآية: أن الكفار إنما يعتقدون في أصنامهم وسائر معبوداتهم أنها نافعة لهم في غير هذه الحالة، فأما في هذه الحالة فإن كل واحد منهم يعلم بالفطرة علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام ونحوها لا فعل لها {فَلَمَّا نجاكم إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن الإخلاص لله وتوحيده ورجعتم إلى دعاء أصنامكم والاستغاثة بها {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} أي: كثير الكفران لنعمة الله، وهو تعليل لما تقدّمه، والمعنى: أنهم عند الشدائد يتمسكون برحمة الله، وفي الرخاء يعرضون عنه. ثم أنكر سبحانه عليهم سوء معاملتهم قائلاً: {أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض، فبين لهم أنه قادر على هلاكهم في البرّ وإن سلموا من البحر. والخسف أن تنهار الأرض بالشيء، يقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها، وعين خاسف: أي. غائرة حدقتها في الرأس، وخسفت عين الماء: إذا غار ماؤها، وخسفت الشمس: إذا غابت عن الأرض، و{جانب البرّ} ناحية الأرض، وسماه جانباً، لأنه يصير بعد الخسف جانباً، وأيضاً فإن البحر جانب من الأرض والبرّ جانب؛ وقيل: إنهم كانوا على ساحل البحر، وساحله جانب البرّ فكانوا فيه آمنين من مخاوف البحر، فحذرهم ما أمنوه من البرّ كما حذرهم ما خافوه من البحر {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} قال أبو عبيدة والقتيبي: الحصب: الرمي أي: ريحاً شديدة حاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغار.
وقال الزجاج: الحاصب: التراب الذي فيه حصباء، فالحاصب: ذو الحصباء كاللابن، والتامر؛ وقيل: الحاصب: حجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط، ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد: حاصب، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين جبال الشام تضربنا ** بحاصب كنديف القطن منثور

{ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} أي: حافظاً ونصيراً يمنعكم من بأس الله. {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى} أي: في البحر مرة أخرى بأن يقوي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى ركوبه، وجاء بفي ولم يقل إلى البحر، للدلالة على استقرارهم فيه {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الريح} القاصف: الريح الشديدة التي تكسر بشدّة، من قصف الشيء يقصفه أي: كسره بشدّة، والقصف: الكسر، أو هو الريح التي لها قصيف أي: صوت شديد من قولهم رعد قاصف أي: شديد الصوت {فَيُغْرِقَكُم} قرأ أبو جعفر، وشيبة، ورويس، ومجاهد: {فتغرقكم} بالتاء الفوقية على أن فاعله الريح. وقرأ الحسن وقتادة، وابن وردان {فيغرقكم} بالتحتية والتشديد في الراء. وقرأ أبو جعفر أيضاً: {الرياح}. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في جميع هذه الأفعال. وقرأ الباقون بالياء التحتية في جميعها أيضاً، والباء في {بما كفرتم} للسببية أي: بسبب كفركم {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي: ثائراً يطالبنا بما فعلنا. قال الزجاج: لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم. قال النحاس: وهو من الثأر، وكذا يقال لكل من طلب بثأر أو غيره تبيع وتابع. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} هذا إجمال لذكر النعمة التي أنعم الله بها على بني آدم أي: كرّمناهم جميعاً، وهذه الكرامة يدخل تحتها خلقهم على هذه الهيئة الحسنة وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس على وجه لا يوجد لسائر أنواع الحيوان مثله.
وحكى ابن جرير عن جماعة أن هذا التكريم هو أنهم يأكلون بأيديهم، وسائر الحيوانات تأكل بالفم، وكذا حكاه النحاس. وقيل: ميزهم بالنطق والعقل والتمييز، وقيل: أكرم الرجال باللحى والنساء بالذوائب.
وقال ابن جرير: أكرمهم بتسليطهم على سائر الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل: بالكلام والخط والفهم، ولا مانع من حمل التكريم المذكور في الآية على جميع هذه الأشياء. وأعظم خصال التكريم العقل، فإن به تسلطوا على سائر الحيوانات، وميزوا بين الحسن والقبيح، وتوسعوا في المطاعم والمشارب، وكسبوا الأموال التي تسببوا بها إلى تحصيل أمور لا يقدر عليها الحيوان، وبه قدروا على تحصيل الأبنية التي تمنعهم مما يخافون، وعلى تحصيل الأكسية التي تقيهم الحرّ والبرد، وقيل تكريمهم: هو أن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم {وحملناهم في البر والبحر} هذا تخصيص لبعض أنواع التكريم، حملهم سبحانه في البرّ على الدواب، وفي البحر على السفن، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسف بهم ولم نغرقهم {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي: لذيذ المطاعم والمشارب وسائر ما يستلذونه وينتفعون به {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته.
وقد جعل بعض أهل العلم الكثير هنا بمعنى الجميع وهو تعسف لا حاجة إليه.
وقد شغل كثير من أهل العلم بما لم تكن إليه حاجة ولا تتعلق به فائدة، وهو مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء أو الأنبياء على الملائكة، ومن جملة ما تمسك به مفضلو الأنبياء على الملائكة هذه الآية، ولا دلالة لها على المطلوب لما عرفت من إجمال الكثير وعدم تبيينه، والتعصب في هذه المسألة هو الذي حمل بعض الأشاعرة على تفسير الكثير هنا بالجميع حتى يتم له التفضيل على الملائكة، وتمسك بعض المعتزلة بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولا دلالة بها على ذلك، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلاً عليه. فيحتمل أن يكون مساوياً للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله: {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُزْجِى} قال: يجري، وأخرجوا عن قتادة قال: يسيرها في البحر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حاصبا} قال: مطر الحجارة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: حجارة من السماء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {قَاصِفًا مّنَ الريح} قال: التي تغرق.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن عبد الله بن عمرو قال: القاصف والعاصف في البحر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قَاصِفًا} قال: عاصفاً، وفي قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} قال: نصيراً.
وأخرج الطبراني، والبيهقي في الشعب، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر»، وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفاً قال: وهو الصحيح.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله من ملائكته.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت: يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان».
وأخرجه عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة. وإسناد الطبراني هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدّثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة.
وأخرج نحوه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم.
وأخرج الحاكم في التاريخ، والديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «الكرامة الأكل بالأصابع».