فصل: تفسير الآيات (71- 77):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 77):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}
قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال الزجاج: يعني يوم القيامة، وهو منصوب على معنى أذكر يوم ندعوا. وقرى: {يدعو} بالياء التحتية على البناء للفاعل و{يدعى} على البناء للمفعول، والباء في {بإمامهم} للإلصاق كما تقول: أدعوك باسمك، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال، والتقدير: ندعو كل أناس متلبسين بإمامهم، أي: يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده، والأوّل أولى. والإمام في اللغة كل ما يؤتمّ به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب.
وقد اختلف المفسرون في تعيين الإمام الذي تدعى كل أناس به، فقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك إنه كتاب كلّ إنسان الذي فيه عمله أي: يدعى كل إنسان بكتاب عمله، ويؤيد هذا قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه} [الحاقة: 19]. الآية، وقال ابن زيد: الإمام هو الكتاب المنزل عليهم فيدعى أهل التوراة بالتوراة، وأهل الإنجيل بالإنجيل، وأهل القرآن بالقرآن، فيقال: يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل، يا أهل القرآن.
وقال مجاهد وقتادة: إمامهم: نبيهم فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد، وبه قال الزجاج.
وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المراد بالإمام إمام عصرهم، فيدعى أهل كل عصر بإمامهم الذي كانوا يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه.
وقال الحسن وأبو العالية: المراد {بإمامهم}: أعمالهم، فيقال مثلاً: أين المجاهدون، أين الصابرون، أين الصائمون، أين المصلون؟ ونحو ذلك.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة.
وقال أبو عبيدة، المراد بإمامهم صاحب مذهبهم، فيقال مثلاً: أين التابعون للعالم فلان بن فلان، وهذا من البعد بمكان.
وقال محمد بن كعب: {بإمامهم}: بأمهاتهم، على أن إمام جمع أمّ كخف وخفاف، وهذا بعيد جدّاً. وقيل: الإمام: هو كل خلق يظهر من الإنسان حسن كالعلم والكرم والشجاعة، أو قبيح كأضدادها، فالداعي إلى تلك الأفعال خلق باطن هو كالإمام، ذكر معناه الرازي في تفسيره {فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} من أولئك المدعوّين، وتخصيص اليمين بالذكر للتشريف والتبشير {فَأُوْلَئِكَ} الإشارة إلى {من} باعتبار معناه. قيل: ووجه الجمع الإشارة إلى أنهم مجتمعون على شأن جليل، أو الإشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد {يَقْرَءونَ كتابهم} الذي أوتوه {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة، أو هو عبارة عن أقلّ شيء، ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحاً، ولكنه ذكر سبحانه ما يدلّ على حالهم القبيح فقال: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى} أي: من كان من المدعوّين في هذه الدنيا أعمى أي: فاقد البصيرة. قال النيسابوري: لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب، وأما قوله: {فَهُوَ في الآخرة أعمى} فيحتمل أن يراد به: عمى البصر كقوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} [طه: 124 125] وفي هذا زيادة العقوبة، ويحتمل أن يراد عمى القلب؛ وقيل: المراد بالآخرة: عمل الآخرة، أي: فهو في عمل، أو في أمر الآخرة أعمى؛ وقيل: المراد: من عمي عن النعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى؛ وقيل: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى، وقد قيل: إن قوله: {فَهُوَ في الآخرة أعمى} أفعل تفضيل، أي: أشدّ عمى، وهذا مبنيّ على أنه من عمى القلب، إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل وسيبويه: لأنه خلقه بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال: ما أيداه.
وقال الأخفش: لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من ثلاثة أحرف.
وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول: ما أسود شعره، ومن ذلك قول الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ** لؤما وأبيضهم سربال طباخ

والبحث مستوفي في النحو. وقرأ أبو بكر، وحمزة، والكسائي، وخلف: {أعمى} بالإمالة في الموضعين. وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة، وأمال أبو عبيد الأوّل دون الثاني {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يعني: أن هذا أضلّ سبيلاً من الأعمى لكونه لا يجد طريقاً إلى الهداية، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال. ثم لما عدد سبحانه في الآيات المتقدّمة أقسام النعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء فقال: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: (أن) هي المخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير شأن محذوف، واللام: هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى: وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة: الاختبار، ومنه فتن الصائغ الذهب، ثم استعمل في كل من أزال الشيء عن حدّه وجهته، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك {عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتتقوّل علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي: لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلاً لهم أي: والوك وصافوك، مأخوذ من الخلة بفتح الخاء. {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} على الحق وعصمناك عن موافقتهم {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل، والركون هو الميل اليسير، ولهذا قال: {شَيْئًا قَلِيلاً} لكن أدركته صلى الله عليه وسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم، فضلاً عن نفس الركون، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم، ذكر معناه القشيري وغيره، وقيل: المعنى وإن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم، فنسب فعلهم إليه مجازاً واتساعاً كما تقول للرجل: كدت تقتل نفسك، أي: كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت، ذكر معناه المهدوي.
ثم توعده سبحانه في ذلك أشدّ الوعيد فقال: {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} أي: لو قاربت أن تركن إليهم، أي: مثلي ما يعذب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين، والمعنى: عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات أي: مضاعفاً، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت، وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه: {يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. وضعف الشيء: مثلاه، وقد يكون الضعف النصيب كقوله: {لِكُلّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] أي: نصيب. قال الرازي: حاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون همك لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب. قال النيسابوري: اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها، والتهديد على المعصية لا يدلّ على الإقدام عليها، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة. {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} الكلام في هذا كالكلام في {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} أي: وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها، ولكنه لم يقع ذلك منهم، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن هموا به، وقيل: إنه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزاً {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلفك إِلاَّ قَلِيلاً} معطوف على {ليستفزونك} أي: لا يبقون بعد إخراجك إلاّ زمناً قليلاً، ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعاً. وقرأ عطاء بن أبي رباح: {لا يلبثوا} بتشديد الباء الموحدة. وقرئ: {لا يلبثوا} بالنصب على إعمال (إذ)، على أن الجملة معطوف على جملة: {وَإِن كَادُواْ} لا على الخبر فقط. وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو بكر، وأبو عمرو: {خلفك} ومعناه: بعدك. وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي {خلافك} ومعناه أيضاً: بعدك.
وقال ابن الأنباري: {خلافك} بمعنى: مخالفتك، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ خلاف رَسُولِ الله} [التوبة: 81] ومما يدلّ على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما ** بسط الشواطب بينهنّ حصيرا

يقال: شطبت المرأة الجريد: إذا شققته لتعمل منه الحصير. قال أبو عبيدة: ثم تلقيه الشاطبة إلى المثقبة.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} {سنّة} منتصبة على المصدرية، أي: سنّ الله سنّة.
وقال الفراء: أي يعذبون كسنّة من قد أرسلنا فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل: المعنى: سنّتنا سنّة من قد أرسلنا. قال الزجاج: يقول إن سنّتنا هذه السنّة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه أن ينزل العذاب بهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي: ما أجرى الله به العادة لم يتمكن أحد من تحويله ولا يقدر على تغييره.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والخطيب في تاريخه عن أنس في الآية قال: نبيهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: بكتاب أعمالهم.
وأخرج ابن مردويه عن عليّ في الآية قال: يدعى كل قوم بإمام زمانهم، وكتاب ربهم وسنّة نبيهم.
وأخرج الترمذي وحسنه، والبزار، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً ويبيض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم ائتنا بهذا وبارك لنا في هذا، حتى يأتيهم فيقول: أبشروا لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه ويمدّ له في جسمه ستين ذراعاً على صورة آدم، ويلبس تاجاً فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللّهم لا تأتنا بهذا، قال: فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال البزار بعد إخراجه: لا يروى إلا من هذا الوجه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {وَمَن كَانَ في هذه أعمى} يقول: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا {فَهُوَ} عما وصفت له {فِى الآخرة} ولم يره {أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} يقول: أبعد حجة.
وأخرج الفريابي، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه نحو هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً يقول: من عمي عن قدرة الله في الدنيا فهو في الآخرة أعمى.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً قال: إن أمية بن خلف وأبا جهل بن هشام ورجالاً من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تعال فتمسح آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتدّ عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} إلى قوله: {نَصِيراً}.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن ياذان، عن جابر بن عبد الله مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا لا ندعك تستلمه حتى تستلم بآلهتنا، فقال رسول الله: «وما عليّ لو فعلت والله يعلم مني خلافه»؟ فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير: أن قريشاً أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فأوحى الله إليه {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1]. فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى} [النجم: 19]. فألقى عليه الشيطان: تلك الغراييق العلى. وأين شفاعتهم لترتجى، فقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي من السورة وسجد، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية، فما زال مهموماً مغموماً حتى أنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى} الآية [الحج: 52].

وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس: أن ثقيفاً قالوا للنبيّ: أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدى للآلهة أحرزناه ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة فهمّ أن يؤجلهم، فنزلت: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} الآية.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات} يعني: ضعف عذاب الدنيا والآخرة.
وأخرج البيهقي عن الحسن في الآية قال: هو عذاب القبر.
وأخرج أيضاً عن عطاء مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهمّ أن يشخص، فأنزل الله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود فذكر نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم، أن اليهود أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت نبياً فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء، فصدّق النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، فتحرّى غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ} إلى قوله: {تَحْوِيلاً} فأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وقال له جبريل: سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال: «ما تأمرني أن أسأل؟» قال: {قُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا} فهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك.
قال ابن كثير: وفي هذا الإسناد نظر، والظاهر أنه ليس بصحيح، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، وإنما غزاها امتثالاً لقوله: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} [التوبة: 123]. وغزاها ليقتصّ وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارض} قال: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وقد فعلوا بعد ذلك، فأهلكهم الله يوم بدر، ولم يلبثوا بعده إلاّ قليلاً حتى أهلكهم الله يوم بدر، وكذلك كانت سنّة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً} قال: يعني بالقليل: يوم أخذهم ببدر، فكان ذلك هو القليل الذين لبثوا بعده.