فصل: تفسير الآيات (27- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 33):

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)}
لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها {أَتَتْ بِهِ} أي بعيسى، وجملة: {تَحْمِلُهُ} في محل نصب على الحال، وكان إتيانها إليهم من المكان القصيّ التي انتبذت فيه، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين {فَقَالُواْ} منكرين لذلك {يا مريم لَقَدْ جِئْتَ} أي فعلت {شَيْئاً فَرِيّاً} قال أبو عبيدة: الفرّي: العجيب النادر، وكذا قال الأخفش. والفرّي: القطع، كأنه مما يخرق العادة، أو يقطع بكونه عجيباً نادراً.
وقال قطرب: الفرّي الجديد من الأسقية، أي جئت بأمر بديع جديد لم تسبقي إليه.
وقال سعيد بن مسعدة: الفرّي: المختلق المفتعل، يقال: فريت وأفريت بمعنى واحد، والولد من الزنا كالشيء المفترى، قال تعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] وقال مجاهد: الفرّي: العظيم. {يا أخت هارون}.
قد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوّة، وفي هارون المذكور من هو؟ فقيل: هو هارون أخو موسى، والمعنى: أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا وقيل: كانت مريم من ولد هارون أخي موسى، فقيل: لها يا أخت هارون، كما يقال لمن كان من العرب: يا أخا العرب وقيل: كان لها أخ من أبيها اسمه هارون وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت وقيل: بل كان في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون، فنسبوها إليه على وجهة التعيير والتوبيخ، حكاه ابن جرير ولم يسمّ قائله وهو ضعيف {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} هذا فيه تقريره لما تقدّم من التعيير والتوبيخ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرّية الصالحين مما لا ينبغي أن تكون.
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي إلى عيسى، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوماً عن الكلام كما تقدّم، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها، وعلى تقدير أنها قد خرجت من أيام نذرها، فيمكن أن يقال: إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم. قال أبو عبيدة: في الكلام حشو زائد. والمعنى: كيف نكلم صبياً في المهد كقول الشاعر:
وجيران لنا كانوا كرام

وقال الزجاج: الأجود أن تكون من في معنى الشرط والجزاء، والمعنى: من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه. ورجحه ابن الأنباري وقال: لا يجوز أن يقال: إن {كان} زائدة وقد نصبت {صبياً}، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل، وهو {نكلم} كما سبق تقديره.
وقيل: إن {كان} هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود. وردّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر، والمهد هو: شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي. والمعنى: كيف نكلم من سبيله أن ينوّم في المهد لصغره. وقيل: هو هنا حجر الأمّ. وقيل: سرير كالمهد، فلما سمع عيسى كلامهم {قَالَ إِنّي عَبْدُ الله} فكان أوّل ما نطق به، الاعتراف بالعبودية لله {آتاني الكتاب} أي الإنجيل، أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوّة في الأزل، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً وقيل: إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال، وهو بعيد {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} أي حيثما كنت، والبركة أصلها من بروك البعير، والمعنى: جعلني ثابتاً في دين الله، وقيل: البركة هي: الزيادة والعلوّ، فكأنه قال: جعلني في جميع الأشياء زائداً عالياً منجحاً. وقيل: معنى المبارك: النفاع للعباد، وقيل: المعلم للخير، وقيل: الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. {وأوصاني بالصلاة} أي أمرني بها {والزكواة} زكاة المال، أو تطهير النفس {مَا دُمْتُ حَيّاً} أي مدة دوام حياتي، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقيق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم.
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} معطوف على {مباركاً} واقتصر على البرّ بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب، وقرئ: {وبراً} بكسر الباء على أنه مصدر وصف به مبالغة {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً، والشقيّ العاصي لربه. وقيل الخائب. وقيل العاقّ. {والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} قال المفسرون: السلام هنا بمعنى السلامة أي: السلامة عليّ يوم ولدت، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت ولا أغواني عند الموت ولا عند البعث. وقيل: المراد به التحية. قيل: واللام للجنس. وقيل: للعهد، أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في هذه المواطن الثلاثة موجه إليّ. قيل: إنه لم يتكلم المسيح بعد هذا الكلام حتى بلغ المدّة التي تتكلم فيها الصبيان في العادة.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} قال: بعد أربعين يوماً بعد ما تعافت من نفاسها.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرؤون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟».
وهذا التفسير النبوّي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أنس قال: كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه، فذلك قوله: {قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ}.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {آتاني الكتاب} الآية، قال: قضى أن أكون كذلك.
وأخرج الإسماعيلي في معجمه، وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وابن النجار عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول عيسى: {وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} قال: «جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت».
وأخرج ابن عديّ وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} قال: معلماً ومؤدّباً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} يقول: عصياً.

.تفسير الآيات (34- 40):

{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المتصف بالأوصاف السابقة. قال الزجاج: ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله. وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: {قَوْلَ الحق} بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع. فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح، أو على أنه مصدر مؤكد لقال: إني عبد الله، قاله الزجاج. ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ، قاله الكسائي. وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله، والحق هو الله عزّ وجلّ.
وقال أبو حاتم: المعنى: هو قول الحق. وقيل التقدير: هذا لكلام قول الحق. وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين. وقيل: الإضافة للبيان. وقرئ: {قال الحق} وروي ذلك عن ابن مسعود، وقرأ الحسن: {قول الحق} بضم القاف، والقول والقول والقال والمقال بمعنى واحد، و{الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} صفة لعيسى أي: ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق، ومعنى {يمترون}: يختلفون، على أنه من المماراة، أو يشكوا على أنه من المرية.
وقد وقع الاختلاف في عيسى؛ فقالت اليهود: هو ساحر، وقالت النصارى: هو ابن الله.
{مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما صحّ ولا استقام ذلك، ف {أن} في محل رفع على أنها اسم كان. قال الزجاج: {من} في {من ولد} مؤكدة تدلّ على نفي الواحد والجماعة؛ ثم نزّه سبحانه نفسه فقال: {سبحانه} أي: تنزّه وتقدّس عن مقالتهم هذه، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه فقال: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: إذا قضى أمراً من الأمور فيكون حينئذٍ بلا تأخير.
وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ {وَإِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح {أن}. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها، وهو من تمام كلام عيسى، وقرأ أبيّ: {إن الله} بغير واو، قال الخليل وسيبويه: في توجيه قراءة النصب بأن المعنى: ولأن الله ربي وربكم، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض عطفاً على الصلاة، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على {أمراً}. {هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضلّ سالكه.
{فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ}.
{من} زائد للتوكيد، والأحزاب: اليهود والنصارى، أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى، فاليهود قالوا إنه ساحر، كما تقدّم، وقالوا: إنه ابن يوسف النجار، والنصارى اختلفت فرقهم فيه، فقالت النسطورية منهم: هو ابن الله. وقالت الملكانية: هو ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله تعالى، فأفرطت النصارى وغلت، وفرّطت اليهود وقصرت {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم المختلفون في أمره {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والعقاب، أو من مكان الشهود فيه، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم. وقيل: المعنى: فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب، فيقولون: أسمع تريد وأبصر به، أي ما أسمعه وأبصره، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم منهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} أي للحساب والجزاء {لكن الظالمون اليوم} أي: في الدنيا {فِي ضلال مُّبِينٍ} أي واضح ظاهر، ولكنهم أغفلوا التفكر، والاعتبار والنظر في الآثار. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي يوم يتحسرون جميعاً، فالمسيء يتحسر على إساءته، والمحسن على عدم استكثاره من الخير {إِذْ قُضِيَ الأمر} أي فرغ من الحساب وطويت الصحف، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، وجملة: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} في محل نصب على الحال أي غافلين عما يعمل بهم، وكذلك جملة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} في محل نصب على الحال {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعاً {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي يردّون إلينا يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدّم مثل هذا في سورة الحجر.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {قَوْلَ الحق} قال: الله الحقّ عزّ وجلّ.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} قال: اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية؛ فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، فقال: هو ابن الله، وهم النسطورية؛ فقال اثنان كذبت؛ ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله، وعيسى إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، وهم ملوك النصارى؛ فقال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته، وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، فذلك قول الله سبحانه: {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} [آل عمران: 21]. قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً، فاختصم القوم، فقال المرء المسلم: أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا: اللّهم نعم، قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا: اللّهم نعم، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذٍ وأصيب المسلمون، فأنزل الله: {فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} يقول الكفار يومئذٍ: أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} قال: ذلك يوم القيامة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} الآية، وأشار بيده وقال: «أهل الدنيا في غفلة».
وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الحسرة: هو من أسماء يوم القيامة، وقرأ: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] وعلى هذا ضعيف، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام.

.تفسير الآيات (41- 50):

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)}
قوله: {واذكر} معطوف على {وأنذر}، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم} [الشعراء: 69]، وجملة {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً} تعليل لما تقدّم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصدّيق: كثير الصدق، وانتصاب {نبياً} على أنه خبر آخر لكان، أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، و{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ} بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدّم تقريره، التاء في {يا أبت} عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في {لِمَ تَعْبُدُ} للإنكار والتوبيخ {مَا لاَ يَسْمَعُ} ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له {وَلاَ يَبْصِرُ} ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، يجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعمّ من ذلك، أي لا يسمع شيئاً من المسموعات، ولا يبصر شيئاً من المبصرات {وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} من الأشياء، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر. أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه. ثم كرّر دعوته إلى الحق فقال: {ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدّد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق، ويقتدر به على إرشاد الضالّ، ولهذا أمره باتباعه فقال: {فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه. ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال: {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} أي لا تطعه، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} حين ترك ما أمر به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاصٍ لله سبحانه فهو عاصٍ لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحلّ به النقم. قال الكسائي: العصيّ والعاصي بمعنى واحد.
ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: {ياأبت إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن} قال الفراء: معنى أخاف هنا: أعلم.
وقال الأكثرون: إن الخوف هنا محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير: هو أن يظنّ وصول الضرر إلى ذلك الغير {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً} أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب موالياً، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: {الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]. وقيل: الوليّ بمعنى التالي. وقيل: الوليّ بمعنى القريب، أي تكون للشيطان قريباً منه في النار، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، فقال: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم} والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، والمعنى: أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} أي بالحجارة. وقيل: باللسان، فيكون معناه: لأشتمنك. وقيل: معناه لأضربنك. وقيل: لأظهرنّ أمرك {واهجرني مَلِيّاً} أي زماناً طويلاً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى: الملاوة من الزمان، وهو الطويل، ومنه قول مهلهل:
فتصدّعت صمّ الجبال لموته ** وبكت عليه المرملات ملياً

وقيل: معناه اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة، واختار هذا ابن جرير، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد {قَالَ سلام عَلَيْكَ} أي تحية توديع ومتاركة كقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63]. وقيل: معناه: أمنة مني لك، قاله ابن جرير. وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأوّل أولى، وبه قال الجمهور. وقيل: معناه الدعاء له بالسلامة، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته:
والشيخ لا يترك أخلاقه ** حتى يوارى في ثرى رمسه

وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}. بعد قوله: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وجملة: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} تعليل لما قبلها؛ والمعنى: سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف. يقال: حفي به وتحفّى إذا برّه. قال الكسائي: يقال حفي بي حفاوة وحفوة.
وقال الفراء: إنه كان بي حفياً، أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته.
ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي {وادعوا رَبّي} وحده {عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أي خائباً. وقيل: عاصياً. قيل: أراد بهذا الدعاء: هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته. وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا، والأوّل أولى لقوله: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له، أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي كل واحد منهما، وانتصاب {كلا} على أنه المفعول الأوّل لجعلنا قدّم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم أي كل واحد منهم جعلنا نبياً، لا بعضهم دون بعض {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوّة هي من باب الرحمة.
وقيل: المراد بالرحمة هنا: المال، وقيل: الأولاد، وقيل: الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} لسان الصدق: الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد.
وقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لأرْجُمَنَّكَ} قال: لأشتمنك {واهجرني مَلِيّاً} قال: حيناً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه {واهجرني مَلِيّاً} قال: اجتنبني سوياً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة.
وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة {مَلِيّاً} دهراً.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: سالماً.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قال: لطيفاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} قال: يقول: وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} قال: الثناء الحسن.