فصل: تفسير الآيات (125- 128):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (125- 128):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قوله: {عَهِدْنَا} معناه هنا: أمرنا أو أوجبنا. وقوله: {أَن طَهّرَا} في موضع نصب بنزع الخافض، أي: بأن طهراً قاله الكوفيون، وقال سيبويه: هو: بتقدير أي: المفسرة: أي: أن طهراً، فلا موضع لها من الإعراب، والمراد بالتطهير قيل: من الأوثان، وقيل من الآفات، والريب. وقيل: من الكفار. وقيل: من النجاسات، وطواف الجنب، والحائض، وكل خبيث. والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير، فهو يتناوله، إما تناولاً شمولياً أو بدلياً. والإضافة في قوله: {بَيْتِىَ} للتشريف والتكريم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وأهل المدينة، وهشام، وحفص: {بيتي} بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها. والطائف: الذي يطوف به. وقيل: الغريب الطارئ على مكة. والعاكف: المقيم: وأصل العكوف في اللغة: اللزوم، والإقبال على الشيء، وقيل: هو: المجاور دون المقيم من أهلها، والمراد بقوله: {والركع السجود} المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر؛ لأنهما أشرف أركان الصلاة.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} ستأتي الأحاديث الدالة على أن إبراهيم هو الذي حرّم مكة، والأحاديث الدالة على أن الله حرّمها يوم خلق السموات والأرض، والجمع بين هذه الأحاديث في هذا البحث. وقوله: {بَلَدًا آمِنًا} أي: مكة، والمراد الدعاء لأهله من ذريته وغيرهم كقوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي: راض صاحبها. وقوله: {مَنْ ءامَنَ} بدل من قول أهلَه، أي: ارزق من آمن من أهله دون من كفر. وقوله: {وَمَن كَفَرَ} الظاهر أن هذا من كلام الله سبحانه ردّاً على إبراهيم حيث طلب الرزق للمؤمنين دون غيرهم، أي: وارزق من كفر، فأمتعه بالرزق قليلاً، ثم أضطره إلى عذاب النار، ويحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً بياناً لحال من كفر، ويكون في حكم الإخبار عن حال الكافرين بهذه الجملة الشرطية، أي: من كفر، فإني أمتعه في هذه الدنيا بما يحتاجه من الرزق، {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بعد هذا التمتيع {إلى عَذَابِ النار} فأخبر سبحانه أنه لا ينال الكفرة من الخير إلا تمتيعهم في هذه الدنيا، وليس لهم بعد ذلك إلا ما هو شرّ محض، وهو: عذاب النار؛ وأما على قراءة من قرأ: {فَأُمَتّعُهُ} بصيغة الأمر، وكذلك قوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بصيغة الأمر، فهي مبنية على أن ذلك من جملة كلام إبراهيم، وأنه لما فرغ من الدعاء للمؤمنين دعا للكافرين بالإمتاع قليلاً، ثم دعا عليهم بأن يضطرهم إلى عذاب النار. ومعنى: {أَضْطَرُّهُ} ألزمه حتى صيره مضطراً لذلك لا يجد عنه مخلصاً، ولا منه متحوّلاً.
قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ} هو: حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة. والقواعد: الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء.
وقال الكسائي: هي الجدر.
والمراد برفعها رفع ما هو مبنيّ فوقها لا رفعها في نفسها، فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال ارتفع البناء، ولا يقال ارتفع أعالي البناء، ولا أسافله. قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} في محل الحال بتقدير القول، أي: قائلين ربنا. وقرأ أبيّ، وابن مسعود: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا}. وقوله: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي: اجعلنا ثابتين عليه، أو زدنا منه. قيل: المراد بالإسلام هنا مجموع الإيمان، والأعمال. وقوله: {وَمِن ذُرّيَّتِنَا} أي: واجعل من ذريتنا، و{من} للتبعيض، أو للتبيين.
وقال ابن جرير: إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهيلي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف؛ لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به. والأمة: الجماعة في هذا الموضع، وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ} [النحل: 120] وتطلق على الدين، ومنه: {إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أمة} [الزخرف: 22] وتطلق على الزمان، ومنه {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45]. وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} هي من الرؤية البصرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وقتادة، وابن كثير، وابن محيصن، وغيرهم: {أرنا} بسكون الراء، ومنه قول الشاعر:
أرِنَا إدَاوةَ عَبْد الله يَمْلؤُهَا ** مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إنَّ القَوْمَ قَدْ ظَمِئواُ

والمناسك جمع نسك، وأصله في اللغة: الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله. وهو في الشرع: اسم للعبادة، والمراد هنا: مناسك الحج. وقيل مواضع الذبح. وقيل: جميع المتعبدات. وقوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} قيل: المراد بطلبهما للتوبة: التثبيت؛ لأنهما معصومان لا ذنب لهما. وقيل: المراد: تب على الظلمة منا.
وقد أخرج ابن جرير، عن عطاء قال: {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم} أي: أمرناه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} قال: من الأوثان.
وأخرج أيضاً عن مجاهد، وسعيد بن جبير مثله، وزادوا الريب، وقول الزور، والرجس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إذا كان قائماً، فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً، فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً، فهو من الركع السجود.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال: هم العاكفون.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرّمت المدينة ما بين لابَتَيْها، فلا يصاد صيدها، ولا يقطع عضاهها» كما أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي، وغيرهم من حديث جابر.
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة، منهم رافع بن خديج عند مسلم، وغيره، ومنهم أبو قتادة عند أحمد، ومنهم أنس عند الشيخين، ومنهم أبو هريرة عند مسلم، ومنهم عليّ بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط، ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد، والبخاري، ومنهم عائشة عند البخاري.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات، والأرض، وهي حرام إلى يوم القيامة» أخرجه البخاري تعليقاً، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة.
وأخرجه الشيخان، وغيرهما من حديث ابن عباس.
وأخرجه الشيخان، وأهل السنن من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرّمها، وأنها لم تزل حرماً، آمناً نسب إليه أنه حرّمها، أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية، وابن كثير.
وقال ابن جرير: إنها كانت حراماً، ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم، فحرّمها، وتعبَّدهم بذلك. انتهى. وكلا الجمعين حسن.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} نقل الله الطائف من فلسطين.
وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، والأزرقي، عن الزهري.
وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم.
وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر.
وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم للمؤمنين، وترك الكفار، ولم يدع لهم بشيء، قال الله: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ} الآية.
وأخرج نحوه سفيان بن عيينة، عن مجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {مَنْ ءامَنَ بالله} قال: كأنّ إبراهيم احتجرها على المؤمنين دون الناس: فأنزل الله: {وَمَن كَفَرَ} أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً، ثم أضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ ابن عباس: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء} الآية [الإسراء: 20].
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: قال أبَيّ بن كعب في قوله: {وَمَن كَفَرَ} أن هذا من قول الربّ.
وقال ابن عباس: هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر، فأمتعه قليلاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: القواعد أساس البيت، وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وغيرهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قصة مطوّلة، وآخرها في بناء البيت. قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد} قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.
وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت، ومن أي أحجار الأرض بني، وفي أي زمان عرف، ومن حجه؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله، أو فضل بعضه كالحجر الأسود. وفي الدرّ المنثور من ذلك مالم يكن في غيره، فليرجع إليه، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} قال: كانا مسلمين، ولكن سألاه الثبات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم، قال: مخلصين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وَمِن ذُرّيَّتِنَا} قال: يعنيان العرب.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: قال إبراهيم: ربّ، أرنا مناسكنا، فأتاه جبريل، فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد، وأتمّ البنيان، ثم أخذ بيده، فأخرجه، فانطلق به نحو مِنىً، فلما كان عند العتبة، فإذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى، ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى، ثم كذلك في الجمرة الثالثة، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات، قال: وقد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاثاً، قال: نعم. قال: فأذِّن في الناس بالحج، قال: وكيف أؤذن؟ قال: قل: ياأيها الناس، أجيبوا ربكم ثلاث مرات، فأجاب العباد: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق، فهو حاجّ.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب، عن عليّ؛ قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي ربّ، فأرنا مناسكنا: أبرزها لنا عَلِّمْنَاها، فبعث الله جبريل، فحجّ به. وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة، ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرّض له كما تقدّم عن مجاهد.
وقد أخرج ابن خزيمة، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس نحو ذلك، وكذلك أخرج عنه أحمد، وابن أبي حاتم، والبيهقي.

.تفسير الآيات (129- 132):

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
الضمير في قوله: {وابعث فِيهِمْ} راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً. وقرأ أبيّ: {وابعث في آخرهم} ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية.
وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته {رَسُولاً مّنْهُمْ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله، ومراده هذه الدعوة. والرسول هو: المرسل. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال، ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال جاء القوم أرسالاً، أي: بعضهم في أثر بعض، والمراد بالكتاب: القرآن. والمراد بالحكمة: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم للشريعة، وقوله: {يُزَكّيهِمْ} أي: يطهرهم من الشرك، وسائر المعاصي. وقيل: إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب معانيها، والحكمة: الحكم، وهو: مراد الله بالخطاب، والعزيز: الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان.
وقال الكسائي: العزيز الغالب.
{وَمَن يَرْغَبُ} في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار. وقوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} في موضع الخبر. وقيل: هو: بدل من فاعل يرغب، والتقدير: وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه. قال الزجاج: سفه بمعنى جهل، أي: جهل أمر نفسه، فلم يفكر فيها.
وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه.
وحكى ثعلب، والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفَّه بفتح الفاء مشدّدة. قال الأخفش: {سَفِهَ نَفْسَهُ} أي: فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقيل: إن نفسه منتصب بنزع الخافض. وقيل: هو: تمييز، وهذان ضعيفان جداً، وأما سفُه بضم الفاء، فلا يتعدى قاله المبرد، وثعلب. والاصطفاء: الاختيار، أي: اخترناه في الدنيا، وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب؟
وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ} يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: {اصطفيناه} أي: اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو: اذكر. قال في الكشاف: كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، والضمير في قوله: {ووصى بِهَا} راجع إلى الملة أو إلى الكلمة: أي: أسلمت لربّ العالمين. قال القرطبي: وهو أصوب؛ لأنه أقرب مذكور، أي: قولوا أسلمنا. انتهى. والأوّل أرجح؛ لأن المطلوب ممن بعده هو: إتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم، وأولى بهم. ووصى وأوصى بمعنى، وقرئ بهما، وفي مصحف عثمان: {وأوصى} وهي قراءة أهل الشام، والمدينة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود {ووصى} وهي قراءة الباقين. {وَيَعْقُوبَ} معطوف على إبراهيم أي: وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه. وقرأ عمر بن فايد الأسواري، وإسماعيل ابن عبد الله المكي، بنصب يعقوب، فيكون داخلاً فيمن أوصاه إبراهيم.
قال القشيري: وهو بعيد، لأن يعقوب لم يدرك جدّه إبراهيم، وإنما ولد بعد موته. وقوله: {يا بني} هو بتقدير (أن).
وقد قرأ أبيّ، وابن مسعود، والضحاك بإثباتها. قال الفراء: ألغيت (أن)، لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول (أن) وجاز فيه إلغاؤها. وقيل: إنه على تقدير القول أي قائلاً: يا بنيّ. روى ذلك عن البصريين. وقوله: {اصطفى لَكُمُ الدين} أي: اختاره لكم، والمراد: ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} فيه إيجاز بليغ. والمراد: الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم} قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية، والنصرانية بدعة ليست من الله؛ تركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {وَلَقَدِ اصطفياه} قال: اخترناه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} قال: وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك.
وأخرج الثعلبي، عن فضيل بن عياض في قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي: محسنون بربكم الظنّ.