فصل: تفسير الآيات (17- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 35):

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)}
قوله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} قال الزجاج والفراء: إن {تلك} اسم ناقص وصلت {بيمينك} أي ما التي بيمينك؟ وروي عن الفراء أنه قال: تلك بمعنى هذه، ولو قال: ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء؟ وبالأوّل قال الكوفيون. قال الزجاج: ومعنى سؤال موسى عمّا في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها. قال الفراء: ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل {ما} الرفع على الابتداء، و{تلك} خبره، و{بيمينك} في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت اسماً موصولاً كان {بيمينك} صلة للموصول.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ} قرأ ابن أبي إسحاق: {عصى} على لغة هذيل. وقرأ الحسن: {عَصَايَ} بكسر الياء لالتقاء الساكنين {أتوكأ عليها} أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف، ومنه الاتكاء. {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} هش بالعصا يهش هشاً: إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق. قال الشاعر:
أهش بالعصا على أغنامي ** من ناعم الأوراك والشام

وقرأ النخعي {أهس} بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل: هما لغتان لمعنى واحد {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} أي حوائج، واحدها مَأْرَبَة ومَأْرُبُة ومأربة مثلث الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال.
وقد تعرّض قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء منها قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدّها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحرّ، وتدفيني من القرّ، وتدني إليّ ما بعد مني وهي تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيّ. انتهى.
وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة.
وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرّة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
{قَالَ أَلْقِهَا ياموسى} هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة {فألقاها} موسى على الأرض {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى، أي تمشي بسرعة وخفة، قيل: كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية، تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب، فعند ذلك {قَالَ} سبحانه: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} قال الأخفش والزجاج: التقدير: إلى سيرتها، مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]. قال: ويجوز أن يكون مصدراً؛ لأن معنى سنعيدها: سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي سائرة، أو بمعنى اسم المفعول، أي مسيرة. والمعنى: سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية. قيل: إنه لما قيل له: {لا تخف} بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها.
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} قال الفراء والزجاج: جناح الإنسان عضده، وقال قطرب: جناح الإنسان جنبه. وعبر عن الجنب بالجناح؛ لأنه في محل الجناح، وقيل: إلى بمعنى مع، أي مع جناحك، وجواب الأمر {تَخْرُجْ بَيْضَاء} أي تخرج يدك حال كونها بيضاء، ومحل {مِنْ غَيْرِ سُوء} النصب على الحال، أي كائنة من غير سوء. والسوء: العيب، كني به عن البرص، أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص. وانتصاب {آيةً أُخْرَى} على الحال أيضاً، أي معجزة أخرى غير العصا.
وقال الأخفش: إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء. قال النحاس: وهو قول حسن.
وقال الزجاج: المعنى: آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال: {تَخْرُجْ بَيْضَاء} دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} قيل: والتقدير: فعلنا ذلك لنريك، و{من آياتنا} متعلق بمحذوف وقع حالاً، و{الكبرى} معناها: العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير: لنريك من آياتنا الآية الكبرى، أي لنريك بهاتين الآيتين يعني: اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة.
ثم صرّح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات، فقال: {اذهب إلى فِرْعَوْنَ} وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ طغى} أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحدّ، وجملة {قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِي} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر: توسيعه، تضرّع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى} [الشعراء: 13]، ومعنى تيسير الأمر: تسهيله. {واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى} يعني: العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل: أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى}. وقيل: لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حلّ عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله: {مّن لّسَانِي} أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} [القصص: 34]، وقوله حكاية عن فرعون: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]، وجواب الأمر قوله: {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} أي يفهموا كلامي، والفقه في كلام العرب: الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري.
{واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي} الوزير: الموازر، كالأكيل المواكل، لأنه يحمل عن السلطان وزره، أي ثقله. قال الزجاج: واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينج من الهلكة. والوزير: الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه.

وقال الأصمعي: هو مشتق من الموازرة، وهي المعاونة. وانتصاب {وزيراً} و{هارون} على أنهما مفعولا اجعل، وقيل: مفعولاه: لي وزيراً، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأوّل أظهر، ويكون لي متعلقاً بمحذوف، أي: كائناً لي، و{من أهلي} صفة ل {وزيراً}، وأخي بدل من هارون. قرأ الجمهور: {اشدد} بهمزة وصل، و{أشركه} بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء، أي يا رب أحكم به قوّتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر: القوة، يقال: آزره، أي قوّاه. وقيل: الظهر، أي أشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق {أشدد} بهمزة قطع {وأشركه} بضم الهمزة، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري. قال النحاس: جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله: {اجعل لي وزيراً}، وقرأ بفتح الياء من: {أخي} ابن كثير وأبو عمرو. {كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدّم. والمراد التسبيح هنا باللسان. وقيل: المراد به: الصلاة، وانتصاب {كثيراً} في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال: أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهشّ بها على غنمه ورق الشجر.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} قال: أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ} قال: حوائج.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه.
وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام.
وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله: {فألقاها فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} قال: ولم تكن قبل ذلك حية فمرّت بشجرة فأكلتها، ومرّت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً، فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة: إنك من الآمنين فأخذها.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه: {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} قال: حالتها الأولى.
وأخرجا عنه أيضاً: {مِنْ غَيْرِ سُوء} قال: من غير برص.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هارون أَخِي} قال: كان أكبر من موسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} قال: نبئ هارون ساعتئذٍ حين نبئ موسى.

.تفسير الآيات (36- 44):

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}
لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي: أعطيت ما سألته، والسؤل المسؤول، أي المطلوب، كقولك: خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله: {يا موسى} لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل، وجملة: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمنّ: الإحسان والإفضال، والمعنى: ولقد أحسنا إليك مرّة أخرى قبل هذه المرّة، وهي حفظ الله سبحانه له من شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء، فإذ ظرف للإيحاء، والمراد بالإيحاء إليها: إما مجرّد الإلهام لها، أو في النوم بأن أراها ذلك، أو على لسان نبيّ، أو على لسان ملك، لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها، والمراد بما يوحى: ما سيأتي من الأمر لها، أبهمه أوّلاً، وفسّره ثانياً؛ تفخيماً لشأنه، وجملة: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت} مفسرة؛ لأن الوحي فيه معنى القول، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه، والقذف ها هنا: الطرح، أي اطرحيه في التابوت وقد مرّ تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت {فاقذفيه فِي اليم} أي اطرحيه في البحر، واليم: البحر أو النهر الكبير. قال الفراء: هذا أمر وفيه المجازاة، أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل، والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع. والساحل: هو شط البحر، سمي ساحلاً، لأن الماء سحله، قاله ابن دريد. والمراد هنا: ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له، وجملة: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} جواب الأمر بالإلقاء، والمراد بالعدوّ: فرعون، فإن أمّ موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه؛ وقيل: إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه. وقيل: وجدته ابنة فرعون، والأوّل أولى.
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه. وقيل: جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه.
وقال ابن جرير: المعنى وألقيت عليك رحمتي.
وقيل: كلمة {من} متعلقة ب {ألقيت}، فيكون المعنى: ألقيت مني عليك محبة أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس. {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال: صنع الرجل جاريته: إذا رباها، وصنع فرسه: إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير {على عَيْنِي}: بمرأى مني صحيح. قال النحاس: وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله.
وقال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول: أتخذ الأشياء على عيني، أي على محبتي. قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب: غدا فلان على عيني، أي على المحبة مني. قيل: واللام متعلقة بمحذوف، أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل: متعلقة ب {ألقيت}، وقيل: متعلقة بما بعده، أي ولتصنع على عيني قدّرنا مشي أختك. وقرأ ابن القعقاع: {ولتصنع} بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء. والمعنى: ولتكون حركتك وتصرّفك بمشيئتي، وعلى عين مني.
{إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من {إِذْ أَوْحَيْنَا} وأخته اسمها مريم {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} وذلك أنها خرجت متعرّفة لخبره، فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول، أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه؟ فقالا لها: ومن هو؟ قالت: أمي، فقالا: هل لها لبن؟ قالت: نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل: بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى: {فرجعناك إلى أُمّكَ} وفي مصحف أبيّ: {فرددناك}، والفاء فصيحة. {كَي تَقَرَّ عَيْنُها} قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه: {كي تقرّ} بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها. قال الجوهري: قررت به عيناً قرّة وقروراً، ورجل قرير العين، وقد قرّت عينه تقرّ وتقرّ، نقيض سخنت، والمراد بقرّة العين: السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه. {وَلاَ تَحْزَنْ} أي لا يحصل لها ما يكدّر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرّت عينها بزواله لقدّم نفي الحزن على قرّة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال: إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين. وقيل: المعنى: ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف {وَقَتَلْتَ نَفْساً} المراد بالنفس هنا: نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله له خطأ {فنجيناك مِنَ الغم} أي الغمّ الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً؛ وقيل: الغمّ هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا {وفتناك فُتُوناً} الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاقّ، وكل ما يبتلى به الإنسان.
والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور، أي ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختباراً، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة، أي خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته. ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو: الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} قال الفراء: تقدير الكلام: وفتناك فتوناً، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً. ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهي أتمّ الأجلين. وقيل: أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء في: {فَلَبِثْتَ} تدل على أن المراد بالمحن المذكورة: هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به. قال الشاعر:
نال الخلافة إذ كانت له قدرا ** كما أتى ربه موسى على قدر

وكلمة: {ثم} المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدّة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك. {واصطنعتك لِنَفْسِي} الاصطناع: اتخاذ الصنعة، وهي الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى: اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرّف على إرادتي. قال الزجاج: تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم. قيل: وهو تمثيل لما خوّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه. {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} أي وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع، ومعنى {بآياتي}: بمعجزاتي التي جعلتها لك آية، وهي التسع الآيات. {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال: ونى يني ونياً: إذا ضعف. قال الشاعر:
فما ونى محمد مذ أن غفر ** له الإله ما مضى وما غبر

وقال امرؤ القيس:
يسيح إذا ما السابحات على الوني ** أثرن غباراً بالكديد الموكل

قال الفراء: في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى: لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها. وقيل: معنى {لا تنيا}: لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفي قراءة ابن مسعود: {لا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليباً لموسى؛ لأنه الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله: {إِنَّهُ طغى} أي جاوز الحدّ في الكفر والتمرّد، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدّم، وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير. وقيل: إن في هذا دليلاً على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما. وقيل الأوّل: أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني: أمر لهما بالذهاب إلى فرعون. ثم مرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ ذي بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين: هو الذي لا خشونة فيه، يقال: لان الشيء يلين ليناً، والمراد: تركهما للتعنيف، كقولهما: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} [النازعات: 18]. وقيل: القول اللين هو الكنية له، وقيل: أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين: سيبويه وغيره.
وقد تقدّم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج: (لَعَلَّ) لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون. وقيل: لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام. والمعنى: فانظرا هل يتذكر أو يخشى؟ وقيل: بمعنى كي. والتذكر: النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة {أو} لمنع الخلوّ دون الجمع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} قال: هو النيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّي} قال: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال: حببتك إلى عبادي.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} قال: تربى بعين الله.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: لتغذى على عيني.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال: يقول أنت بعيني، إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، وإذ تمشي أختك.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ» يقول الله سبحانه: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم} قال: «من قتل النفس» {وفتناك فُتُوناً} قال: «أخلصناك إخلاصاً».
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفتناك فُتُوناً} قال: ابتليناك ابتلاءً.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: اختبرناك اختباراً.
وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير الآية، فمن أحبّ استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ} قال: لميقات.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة {على قَدَرٍ} قال: موعد.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وَلاَ تَنِيَا} قال: لا تبطئا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ في قوله: {قَوْلاً لَّيّناً} قال: كنَّه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: كنياه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} قال: هل يتذكر؟