فصل: تفسير الآيات (60- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (60- 70):

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)}
قوله: {فتولى فِرْعَوْنُ} أي انصرف من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعدوا عليه وقيل: معنى: تولى أعرض عن الحق، والأوّل أولى {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي جمع ما يكيد به من سحره وحيلته. والمراد: أنه جمع السحرة. قيل: كانوا اثنين وسبعين. وقيل: أربعمائة. وقيل: اثنا عشر ألفاً. وقيل: أربعة عشر ألفاً.
وقال ابن المنذر: كانوا ثمانين ألفاً {ثُمَّ أتى} أي أتى الموعد الذي تواعدا إليه مع جمعه الذي جمعه، وجملة {قَالَ لَهُمْ موسى} مستأنفة جواب سؤال مقدّر {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} دعا عليهم بالويل، ونهاهم عن افتراء الكذب. قال الزجاج: هو منصوب بمحذوف، والتقدير: ألزمهم الله ويلاً. قال: ويجوز أن يكون نداء، كقوله: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [ياس: 52]. {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} السحت: الاستئصال، يقال: سحت وأسحت بمعنى، وأصله استقصاء الشعر. وقرأ الكوفيون إلا شعبة: {فيسحتكم} بضم حرف المضارعة من أسحت، وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بفتحه من سحت، وهي لغة الحجاز، وانتصابه على أنه جواب للنهي {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي: خسر وهلك، والمعنى: قد خسر من افترى على الله أي: كذب كان {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي السحرة لما سمعوا كلام موسى، تناظروا وتشاوروا وتجاذبوا أطراف الكلام في ذلك {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي من موسى، وكانت نجواهم هي قولهم: {إِنْ هاذان لساحران}. وقيل: إنهم تناجوا فيما بينهم فقالوا: إن كان ما جاء به موسى سحراً فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وقيل: الذي أسروه: أنه إذا غلبهم اتبعوه، قاله الفرّاء والزجاج. وقيل: الذي أسروه: أنهم لما سمعوا قول موسى: {ويلكم لا تفتروا على الله} قالوا: ما هذا بقول ساحر. والنجوى: المناجاة يكون اسماً ومصدراً.
قرأ أبو عمرو: {إن هذين لساحران} بتشديد الحرف الداخل على الجملة وبالياء في اسم الإشارة على إعمال إن عملها المعروف، وهو نصب الاسم ورفع الخبر. ورويت هذه القراءة عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة، وبها قرأ الحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم من التابعين، وبها قرأ عاصم الجحدري وعيسى بن عمر كما حكاه النحاس، وهذه القراءة موافقة للإعراب الظاهر مخالفة لرسم المصحف فإنه مكتوب بالألف. وقرأ الزهري والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه: {إن هذان} بتخفيف إن على أنها نافية، وهذه القراءة موافقة لرسم المصحف وللإعراب. وقرأ ابن كثير مثل قراءتهم إلا أنه يشدّد النون من هذان. وقرأ المدنيون والكوفيون وابن عامر: {إنّ هذان} بتشديد إن وبالألف، فوافقوا الرسم وخالفوا الإعراب الظاهر.
وقد تكلم جماعة من أهل العلم في توجيه قراءة المدنيين والكوفيين وابن عامر، وقد استوفى ذكر ذلك ابن الأنباري والنحاس، فقيل إنها لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وكنانة يجعلون رفع المثنى ونصبه وجره بالألف، ومنه قول الشاعر:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغاً لناباه الشجاع لصمما

وقول الآخر:
تزوّد منا بين أذناه ضربة

وقول الآخر:
إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها

ومما يؤيد هذا تصريح سيبويه والأخفش وأبي زيد والكسائي والفراء: إن هذه القراءة على لغة بني الحارث بن كعب وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنها لغة بني كنانة.
وحكى غيره أنها لغة خثعم. وقيل: إن {إن} بمعنى نعم ها هنا، كما حكاه الكسائي عن عاصم، وكذا حكاه سيبويه. قال النحاس: رأيت الزجاج والأخفش يذهبان إليه، فيكون التقدير: نعم هذان لساحران، ومنه قول الشاعر:
ليت شعري هل للمحبّ شفاء ** من جوى حبهنّ إنّ اللقاء

أي نعم اللقاء. قال الزجاج: والمعنى في الآية: أن هذا لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ وهو هما. وأنكره أبو علي الفارسي وأبو الفتح بن جني، وقيل: إن الألف في {هذان} مشبهة بالألف في يفعلان فلم تغير. وقيل: إن الهاء مقدّرة، أي إنه هذان لساحران، حكاه الزجاج عن قدماء النحويين، وكذا حكاه ابن الأنباري.
وقال ابن كيسان: إنه لما كان يقال: هذا بالألف في الرفع والنصب والجرّ على حال واحدة، وكانت التثنية لا تغير الواحد أجريت التثنية مجرى الواحد فثبت الألف في الرفع والنصب والجر، فهذه أقوال تتضمن توجيه هذه القراءة توجيها تصح به وتخرج به عن الخطأ، وبذلك يندفع ما روي عن عثمان وعائشة أنه غلط من الكاتب للمصحف.
{يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} وهي أرض مصر {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال الكسائي: بطريقتكم: بسنّتكم. و{المثلى} نعت، كقولك: امرأة كبرى، تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى، يعنون: على الهدى المستقيم. قال الفراء: العرب تقول هؤلاء طريقة قومهم وطرائق قومهم لأشرافهم، والمثلى تأنيث الأمثل، وهو الأفضل، يقال: فلان أمثل قومه، أي أفضلهم، وهم الأماثل. والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الي هو أمثل المذاهب.
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} الإجماع: الإحكام، والعزم على الشيء قاله الفراء. تقول: أجمعت على الخروج مثل أزمعت.
وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعاً عليه.
وقد اتفق القراء على قطع الهمزة في أجمعوا إلا أبا عمرو، فإنه قرأ بوصلها وفتح الميم من الجمع. قال النحاس: وفيما حكي لي عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجب على أبي عمرو أن يقرأ بخلاف هذه القراءة، وهي القراءة التي عليها أكثر الناس.
{ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي مصطفين مجتمعين ليكون أنظم لأمورهم وأشد لهيبتهم، وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال أبو عبيدة: الصف: موضع المجمع ويسمى المصلى الصف. قال الزجاج: وعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، يقال: أتيت الصف بمعنى: أتيت المصلى، فعلى التفسير الأول يكون انتصاب {صفاً} على الحال، وعلى تفسير أبي عبيدة يكون انتصابه على المفعولية. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى ثم ائتوا والناس مصطفون، فيكون على هذا مصدراً في موضع الحال، ولذلك لم يجمع. وقرئ بكسر الهمزة بعدها ياء، ومن ترك الهمزة أبدل منها ألفاً {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} أي من غلب، يقال: استعلى عليه: إذا غلبه، وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض. وقيل: من قول فرعون لهم.
وجملة: {قَالُواْ موسى إَمَا أَن تُلْقِيَ} مستأنفة جواباً لسؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا فعلوا بعدما قالوا فيما بينهم ما قالوا؟ فقيل: قالوا يا موسى، إما أن تلقي، وإن مع ما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر، أي اختر إلقاءك أولاً أو إلقاءنا، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا، ومفعول تلقي محذوف، والتقدير: إما أن تلقي ما تلقيه أوّلاً {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ} نحن {أَوَّلَ مَنْ ألقى} ما يلقيه، أو أوّل من يفعل الإلقاء. والمراد: إلقاء العصيّ على الأرض، وكانت السحرة معهم عصيّ، وكان موسى قد ألقى عصاه يوم دخل على فرعون، فلما أراد السحرة معارضته قالوا له هذا القول، فقال لهم موسى {بَلْ أَلْقُواْ} أمرهم بالإلقاء أوّلاً؛ لتكون معجزته أظهر إذا ألقوا هم ما معهم ثم يلقي هو عصاه فتبتلع ذلك، وإظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} في الكلام حذف، والتقدير: فألقوا فإذا حبالهم، والفاء فصيحة، وإذا للمفاجأة أو ظرفية. والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت أن {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} سعي حبالهم وعصيهم، وقرأ الحسن {عصيهم} بضم العين وهي لغة بني تميم، وقرأ الباقون بكسرها اتباعاً لكسرة الصاد، وقرأ ابن عباس، وابن ذكوان وروح عن يعقوب: {تخيل} بالمثناة؛ لأن العصيّ والحبال مؤنثة، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما أصابها حرّ الشمس ارتعشت واهتزّت، وقرئ: {نخيل} بالنون على أن الله سبحانه هو المخيل لذلك، وقرئ: {يخيل} بالياء التحتية مبنياً للفاعل، على أن المخيل هو الكيد. وقيل: المخيل هو أنها تسعى، فأن في موضع رفع، أي يخيل إليه سعيها، ذكر معناه الزجاج.
وقال الفراء: إنها في موضع نصب، أي بأنها ثم حذف الباء. قال الزجاج: ومن قرأ بالتاء: يعني: الفوقية جعل أنّ في موضع نصب، أي تخيل إليه ذات سعي. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع بدلاً من الضمير في تخيل، وهو عائد على الحبال والعصيّ، والبدل فيه بدل اشتمال، يقال: خيل إليه: إذا شبه له وأدخل عليه البهمة والشبهة.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} أي أحسّ. وقيل: وجد. وقيل: أضمر. وقيل: خاف، وذلك لما يعرض من الطباع البشرية عند مشاهدة ما يخشى منه. وقيل: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي عصاه. وقيل: إن سبب خوفه هو أن سحرهم كان من جنس ما أراهم في العصا، فخاف أن يلتبس أمره على الناس فلا يؤمنوا، فأذهب الله سبحانه ما حصل معه من الخوف بما بشّره به بقوله: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى} أي: المستعلي عليهم بالظفر والغلبة، والجملة تعليل للنهي عن الخوف.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني العصا، وإنما أبهمها تعظيماً وتفخيماً، وجزم {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} على أنه جواب الأمر، قرئ بتشديد القاف، والأصل تتلقف فحذف إحدى التاءين، وقرئ: {تلقف} بكسر اللام من لقفه إذا ابتلعه بسرعة، وقرئ: {تلقف} بالرفع على تقدير فإنها تتلقف، ومعنى {مَا صَنَعُواْ}: الذي صنعوه من الحبال والعصيّ. قال الزجاج: القراءة بالجزم جواب الأمر، ويجوز الرفع على معنى الحال، كأنه قال: ألقها متلقفة، وجملة {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} تعليل لقوله: {تلقف} وارتفاع كيد على أنه خبر لإن، وهي قراءة الكوفيين إلا عاصماً. وقرأ هؤلاء: {ساحر} بكسر السين وسكون الحاء، وإضافة الكيد إلى السحر على الاتساع من غير تقدير، أو بتقدير ذي سحر. وقرأ الباقون: {كيد ساحر} {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي لا يفلح جنس الساحر حيث أتى وأين توجه، وهذا من تمام التعليل {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} أي فألقي ذلك الأمر الذي شاهدوه من موسى والعصا السحرة سجداً لله تعالى، وقد مرّ تحقيق هذا في سورة الأعراف. {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} إنما قدّم هارون على موسى في حكاية كلامهم؛ رعاية لفواصل الآي وعناية بتوافق رؤوسها.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} قال: يهلككم. أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة {فَيُسْحِتَكُم} قال: يستأصلكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: فيذبحكم.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} قال: يصرفا وجوه الناس إليهما.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يقول: أمثلكم، وهم بنو إسرائيل.
وأخرج عبد بن حميد وعبد الرزاق في قوله: {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} ما يأفكون، عن قتادة قال: ألقاها موسى فتحوّلت حية تأكل حبالهم وما صنعوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة؛ أن سحرة فرعون كانوا تسعمائة، فقالوا لفرعون: إن يكن هذان ساحرين فإنا نغلبهما فإنه لا أسحر منا، وإن كانا من ربّ العالمين فإنه لا طاقة لنا بربّ العالمين، فلما كان من أمرهم أن خرّوا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي إليها يصيرون فعندها {قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} إلى قوله: {والله خَيْرٌ وأبقى}.

.تفسير الآيات (71- 76):

{قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}
قوله: {قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ} يقال: آمن له وآمن به، فمن الأوّل: قوله: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، ومن الثاني: قوله في الأعراف: {ءامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذن لكم} [الأعراف: 123]. وقيل: إن الفعل هنا متضمن معنى الاتباع. وقرئ على الاستفهام التوبيخي، أي كيف آمنتم به من غير إذن مني لكم بذلك؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} أي إن موسى لكبيركم، أي أسحركم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، أو معلمكم وأستاذكم كما يدلّ عليه قوله: {الذى عَلَّمَكُمُ السحر} قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري.
وقال محمد بن إسحاق: إنه لعظيم السحر. قال الواحدي: والكبير في اللغة: الرئيس، ولهذا يقال للمعلم: الكبير. أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس حتى لا يؤمنوا، وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيساً لهم، ولا بينه وبينهم مواصلة {فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي: والله لأفعلنّ بكم ذلك. والتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، و{من} للابتداء {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} أي على جذوعها كقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أي عليه، ومنه قول سويد بن أبي كاهل:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ** فلا عطست شيبان إلا بأجدعا

وإنما آثر كلمة {في} للدلالة على استقرارهم عليها كاستقرار المظروف في الظرف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أراد: لتعلمنّ هل أنا أشدّ عذاباً لكم أم موسى؟ ومعنى {أبقى}: أدوم، وهو يريد بكلامه هذا: الاستهزاء بموسى، لأن موسى لم يكن من التعذيب في شيء، ويمكن أن يريد: العذاب الذي توعدهم به موسى إن لم يؤمنوا. وقيل: أراد بموسى ربّ موسى على حذف المضاف.
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَاءنَا مِنَ البينات} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله سبحانه كاليد والعصا. وقيل: إنهم أرادوا بالبينات ما رأوه في سجودهم من المنازل المعدّة لهم في الجنة {والذي فَطَرَنَا} معطوف على {ما جاءنا} أي لن نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات وعلى الذي فطرنا، أي خلقنا. وقيل هو قسم، أي والله الذي فطرنا لن نؤثرك، أو لا نؤثرك، وهذان الوجهان في تفسير الآية ذكرهما الفراء والزجاج {فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ} هذا جواب منهم لفرعون لما قال لهم: {لأقطعنّ} إلخ، والمعنى: فاصنع ما أنت صانع، واحكم ما أنت حاكم، والتقدير: ما أنت صانعه {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي إنما سلطانك علينا ونفوذ أمرك فينا في هذه الدنيا ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، فاسم الإشارة في محل نصب على الظرفية أو على المفعولية و{ما} كافة، وأجاز الفراء الرفع على أن تجعل ما بمعنى الذي، أي أن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا فقضاؤك وحكمك منحصر في ذلك.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} التي سلفت منا من الكفر وغيره {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} معطوف على {خطايانا} أي ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من عمل السحر في معارضة موسى فما في محل نصب على المفعولية وقيل: هي نافية، قال النحاس: والأوّل أولى. قيل: ويجوز أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر مقدّر، أي وما أكرهتنا عليه من السحر موضوع عنا {والله خَيْرٌ وأبقى} أي خير منك ثواباً وأبقى منك عقاباً، وهذا جواب قوله: {ولتعلمنّ أينا أشدّ عذاباً وأبقى}. {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} المجرم هو المتلبس بالكفر والمعاصي، ومعنى {لا يموت فيها ولا يحيى}: أنه لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه. قال المبرد: لا يموت ميتة مريحة ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي، ويبلغ به حال الموت في المكروه، إلا أنه لا يبطل فيها عن إحساس الألم، والعرب تقول: فلان لا حيّ ولا ميت، إذا كان غير منتفع بحياته، وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا:
ألا من لنفس لا تموت فينقضي ** شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

وهذه الآية من جملة ما حكاه الله سبحانه من قول السحرة. وقيل: هو ابتداء كلام. والضمير في: {إنه} على هذا الوجه للشأن {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} أي ومن يأت ربه مصدّقاً به قد عمل الصالحات، أي الطاعات، والموصوف محذوف، والتقدير: الأعمال الصالحات، وجملة: {قد عمل} في محل نصب على الحال وهكذا {مؤمناً} منتصب على الحال، والإشارة ب {أولئك} إلى من باعتبار معناه {لَهُمُ الدرجات العلى} أي المنازل الرفيعة التي قصرت دونها الصفات {جنات عَدْنٍ} بيان للدرجات أو بدل منها، والعدن: الإقامة، وقد تقدّم بيانه، وجملة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات؛ لأنها مضافة إلى عدن، وعدن علم للإقامة كما سبق. وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال من ضمير الجماعة في لهم، أي ماكثين دائمين، والإشارة {ذلك} إلى ما تقدّم لهم من الأجر، وهو مبتدأ، و{جَزَاء مَن تزكى} خبره، أي جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي الموجبة للنار.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل، فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَما، قال: علموهم تعليماً لا يغلبهم أحد في الأرض.
قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {والله خَيْرٌ وأبقى} قال: خير منك إن أطيع، وأبقى منك عذاباً إن عصى.
وأخرج أحمد ومسلم وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له: الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل».
وأخرج أبو داود وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما»، وفي الصحيحين بلفظ: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء».