فصل: تفسير الآيات (92- 101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (92- 101):

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}
جملة: {قَالَ يَا هارون} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والمعنى: أن موسى لما وصل إليهم أخذ بشعور رأس أخيه هارون وبلحيته وقال: {مَا مَنَعَكَ} من اتباعي واللحوق بي عند أن وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة. وقيل: معنى {مَا مَنَعَكَ} {ألا تتبعن}: ما منعك من اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم. وقيل: معناه: هلا فارقتهم. و{لا} في {ألا تتبعن} زائدة، وهو في محل نصب على أنه مفعول ثانٍ لمنع، أي أيّ شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من اتباعي، والاستفهام في: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} للإنكار والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، والمعنى: كيف خالفت أمري لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ وقيل: المراد بقوله: {أمري} هو قوله الذي حكى الله عنه: {وَقَالَ موسى لأخِيهِ هارون اخلفنى في قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] فلما أقام معهم ولم يبالغ في الإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه.
{قَالَ يَا ابن أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} قرئ بالفتح والكسر للميم، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة الأعراف. ونسبه إلى الأمّ مع كونه أخاه لأبيه وأمه، عند الجمهور؛ استعطافاً له وترقيقاً لقلبه، ومعنى {وَلاَ بِرَأْسِي}: ولا بشعر رأسي، أي لا تفعل هذا بي عقوبة منك لي، فإن لي عذراً هو {إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ} أي خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يتفرقوا فتقول: إني فرقت جماعتهم وذلك لأن هارون لو خرج لتبعه جماعة منهم وتخلف مع السامريّ عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، ومعنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: ولم تعمل بوصيتي لك فيهم، إني خشيت أن تقول: فرّقت بينهم، وتقول لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، ومراده بوصية موسى له هو قوله: {اخلفنى في قَوْمِى وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142]. قال أبو عبيد: معنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}: ولم تنتظر عهدي وقدومي لأنك أمرتني أن أكون معهم، فاعتذر هارون إلى موسى ها هنا بهذا، واعتذر إليه في الأعراف بما حكاه الله عنه هنالك حيث قال: {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} [الأعراف: 150]. ثم ترك موسى الكلام مع أخيه وخاطب السامريّ فقَال: {فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} أي ما شأنك وما الذي حملك على ما صنعت {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي قال السامريّ مجيباً على موسى: رأيت ما لم يروا أو علمت بما لم يعلموا وفطنت لما لم يفطنوا له، وأراد بذلك: أنه رأى جبريل على فرس الحياة فألقى في ذهنه أن يقبض قبضة من أثر الرسول، وأن ذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حياً.
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف: {ما لم تبصروا به} بالمثناة من فوق على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية، وهي أولى؛ لأنه يبعد كلّ البعد أن يخاطب موسى بذلك ويدّعي لنفسه أنه علم ما لم يعلم به موسى، وقرئ بضم الصاد فيهما وبكسرها في الأوّل وفتحها في الثاني، وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة: {فقبضت قبصة} بالصاد المهملة فيهما، وقرأ الباقون بالضاد المعجمة فيهما، والفرق بينهما أن القبض بالمعجمة: هو الأخذ بجميع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع. والقبضة بضم القاف: القدر المقبوض. قال الجوهري: هي ما قبضت عليه من شيء، قال: وربما جاء بالفتح، وقد قرئ: {قبضة} بضم القاف وفتحها، ومعنى الفتح: المرّة من القبض، ثم أطلقت على المقبوض وهو معنى القبضة بضم القاف، ومعنى {مِّنْ أَثَرِ الرسول}: من المحل الذي وقع عليه حافر فرس جبريل، ومعنى {فَنَبَذْتُهَا}: فطرحتها في الحليّ المذابة المسبوكة على صورة العجل {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} قال الأخفش: أي زينت، أي ومثل ذلك التسويل: سوّلت لي نفسي. وقيل: معنى {سوّلت لي نفسي}: حدّثتني نفسي.
فلما سمع موسى منه قال: {فاذهب فَإِنَّ لَكَ في الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} أي: فاذهب من بيننا واخرج عنا فإن لك في الحياة، أي ما دمت حياً، وطول حياتك أن تقول: لا مساس. المساس مأخوذ من المماسة، أي لا يمسك أحد ولا تمسّ أحداً، لكن لا بحسب الاختيار منك، بل بموجب الاضطرار الملجئ إلى ذلك؛ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينفي السامريّ عن قومه، وأمر بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قيل: إنه لما قال له موسى ذلك هرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه، حتى صار كمن يقول: لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا ** حتى تقول الأزد لا مسايسا

قال سيبويه: وهو مبني على الكسر. قال الزجاج: كسرت السين؛ لأن الكسرة من علامة التأنيث. قال الجوهري في الصحاح: وأما قول العرب: لا مساس، مثل قطام، فإنما بني على الكسر؛ لأنه معدول عن المصدر، وهو المس. قال النحاس: وسمعت عليّ بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد المبرد يقول: إذا اعتلّ الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبنى، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف، لأنه ليس بعد الصرف إلا البناء، فمساس، دراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، ومنها أنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين.
وقد رأيت أبا إسحاق، يعني الزجاج، ذهب إلى أن هذا القول خطأ وألزم أبا العباس إذا سميت امرأة بفرعون أن يبنيه وهذا لا يقوله أحد.
وقد قرأ بفتح الميم أبو حيوة والباقون بكسرها. وحاصل ما قيل في معنى {لا مساس} ثلاثة أوجه: الأوّل: أنه حرّم عليه مماسة الناس، وكان إذا ماسه أحد حمّ الماس والممسوس، فلذلك كان يصيح إذا رأى أحداً: لا مساس. والثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته؛ واعترض بأن الرجل إذا صار مهجوراً فلا يقول هو: لا مساس، وإنما يقال له.
وأجيب بأن المراد الحكاية، أي أجعلك يا سامريّ بحيث إذا أخبرت عن حالك قلت: لا مساس. والقول الثالث: أن المراد انقطاع نسله، وأن يخبر بأنه لا يتمكن من مماسة المرأة، قاله أبو مسلم وهو ضعيف جداً.
ثم ذكر حاله في الآخرة فقال: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} أي لن يخلفك الله ذلك الموعد، وهو يوم القيامة، والموعد مصدر، أي إن لك وعداً لعذابك، وهو كائن لا محالة، قال الزجاج: أي يكافئك الله على ما فعلت في القيامة والله لا يخلف الميعاد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن واليزيدي والحسن: {لن تخلفه} بكسر اللام، وله على هذه القراءة معنيان: أحدهما: ستأتيه ولن تجده مخلفاً كما تقول أحمدته، أي وجدته محموداً. والثاني: على التهديد، أي لابد لك من أن تصير إليه. وقرأ ابن مسعود: {لن نخلفه} بالنون، أي لن يخلفه الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وبالفوقية مبنياً للمفعول، معناه ما قدّمناه.
{وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} ظلت أصله: ظللت فحذفت اللام الأولى تخفيفاً، والعرب تفعل ذلك كثيراً. وقرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود: {ظلت} بكسر الظاء. والمعنى: انظر إلى إلهك الذي دمت وأقمت على عبادته، والعاكف: الملازم. {لَّنُحَرّقَنَّهُ} قرأ الجمهور بضم النون وتشديد الراء من حرّقه يحرّقه. وقرأ الحسن بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ عليّ وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب والعقيلي: {لنحرقنه} بفتح النون وضم الراء مخففة، من حرقت الشيء أحرقه حرقاً: إذا بردته وحككت بعضه ببعض أي: لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد: المحرق. والقراءة الأولى أولى، ومعناها: الإحراق بالنار، وكذا معنى القراءة الثانية، وقد جمع بين هذه الثلاث القراءات بأنه أحرق، ثم برد بالمبرد، وفي قراءة ابن مسعود: {لنذبحنه ثم لنحرقنه} واللام هي الموطئة للقسم. {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ في اليم نَسْفاً} النسف: نفض الشيء ليذهب به الريح. قرأ أبو رجاء: {لننسفنه} بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان. والمنسف: ما ينسف به الطعام، وهو شيء منصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة: ما يسقط منه.
{إِنَّمَا إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ} لا هذا العجل الذي فتنتم به السامريّ {وَسِعَ كُلَّ شَيْء عِلْماً} قرأ الجمهور: {وسع} بكسر السين مخففة. وهو متعدّ إلى مفعول واحد، وهو {كل شيء}. وانتصاب {علماً} على التمييز المحوّل عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء. وقرأ مجاهد وقتادة: {وسع} بتشديد السين وفتحها فيتعدى إلى مفعولين، ويكون انتصاب {علماً} على أنه المفعول الأوّل وإن كان متأخراً؛ لأنه في الأصل فاعل، والتقدير: وسع علمه كل شيء، وقد مرّ نحو هذا في الأعراف.
{كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف، أي كما قصصنا عليك خبر موسى كذلك نقصّ عليك {مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} أي من أخبار الحوادث الماضية في الأمم الخالية لتكون تسلية لك ودلالة على صدقك، و{من} للتبعيض، أي بعض أخبار ذلك {وَقَدْ آتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} المراد بالذكر: القرآن، وسمي ذكراً؛ لما فيه من الموجبات للتذكر والاعتبار. وقيل: المراد بالذكر: الشرف كقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
ثم توعد سبحانه المعرضين على هذا الذكر فقال: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي أعرض عنه فلم يؤمن به ولا عمل بما فيه وقيل: أعرض عن الله سبحانه، فإن المعرض عنه يحمل يوم القيامة وزراً، أي إثماً عظيماً وعقوبة ثقيلة بسبب إعراضه {خالدين فِيهِ} في الوزر، والمعنى: أنهم يقيمون في جزائه. وانتصاب: {خالدين} على الحال {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي بئس الحمل يوم القيامة، والمخصوص بالذمّ محذوف، أي ساء لهم حملاً وزرهم، واللام للبيان، كما في: {هيت لك} [يوسف: 23].
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {ياهارون مَا مَنَعَكَ} إلى قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} قال: أمره موسى أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين، فكان من إصلاحه أن ينكر العجل.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} قال: لم تنتظر قولي ما أنا صانع، وقال ابن عباس: {لم ترقب}: لم تحفظ قولي.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أن تقول مساس} قال: عقوبة له {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} قال: لن تغيب عنه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} قال: أقمت {لَّنُحَرّقَنَّهُ} قال: بالنار {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم} قال: لنذرينه في البحر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {لَّنُحَرّقَنَّهُ} خفيفة، ويقول: إن الذهب والفضة لا تحرق بالنار، بل تسحل بالمبرد ثم تلقى على النار فتصير رماداً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: {اليم}: البحر.
وأخرج أيضاً عن عليّ قال: {اليم} النهر.
وأخرج أيضاً عن قتادة في قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَئ عِلْماً} قال: ملأ.
وأخرج أيضاً عن ابن زيد في قوله: {مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} قال: القرآن.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وِزْراً} قال: إثماً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} يقول: بئس ما حملوا.

.تفسير الآيات (102- 112):

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}
الظرف وهو: {يَوْمَ يُنفَخُ} متعلق بمقدّر هو اذكر. وقيل: هو بدل من يوم القيامة، والأوّل أولى. قرأ الجمهور: {ينفخ} بضم الياء التحتية مبنياً للمفعول، وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق بالنون مبنياً للفاعل، واستدلّ أبو عمرو على قراءته هذه بقوله: {ونحشر} فإنه بالنون، وقرأ ابن هرمز: {ينفخ} بالتحتية مبنياً للفاعل على أن الفاعل هو الله سبحانه أو إسرافيل، وقرأ أبو عياض: {في الصور} بفتح الواو جمع صورة، وقرأ الباقون بسكون الواو. وقرأ طلحة بن مصرف والحسن: {يُحْشَرُ} بالياء التحتية مبنياً للمفعول ورفع {المجرمين} وهو خلاف رسم المصحف، وقرأ الباقون بالنون.
وقد سبق تفسير هذا في الأنعام. والمراد بالمجرمين: المشركون والعصاة المأخوذون بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، والمراد ب {يَوْمَئِذٍ}: يوم النفخ في الصور. وانتصاب {زرقاً} على الحال من المجرمين، أي زرق العيون، والزرقة الخضرة في العين كعين السنور والعرب تتشاءم بزرقة العين، وقال الفراء: {زرقاً} أي عميا.
وقال الأزهري: عطاشاً، وهو قول الزجاج، لأن سواد العين يتغير بالعطش إلى الزرقة. وقيل: إنه كني بقوله: {زرقاً} عن الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة. وقيل: هو كناية عن شخوص البصر من شدّة الخوف، ومنه قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا بن معكبر ** كما كل ضبي من اللؤم أزرق

والقول الأوّل أولى، والجمع بين هذه الآية وبين قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97].
ما قيل من أن ليوم القيامة حالات ومواطن تختلف فيها صفاتهم ويتنوع عندها عذابهم، وجملة {يتخافتون بَيْنَهُمْ} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة لبيان ما هم فيه في ذلك اليوم، والخفت في اللغة السكون، ثم قيل لمن خفض صوته: خفته. والمعنى يتساررون، أي يقول بعضهم لبعض سرّاً: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليالِ. وقيل: في القبور. وقيل: بين النفختين، والمعنى: أنهم يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا، أو في القبور، أو بين النفختين لشدّة ما يرون من أهوال القيامة. وقيل: المراد بالعشر: عشر ساعات. ثم لما قالوا هذا القول قال الله سبحانه: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعدلهم قولاً وأكملهم رأياً وأعلمهم عند نفسه: {إن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} أي ما لبثتم إلا يوماً واحداً، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم؛ لكونه أدلّ على شدّة الهول، لا لكونه أقرب إلى الصدق.
{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} أي عن حال الجبال يوم القيامة، وقد كانوا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً} قال ابن الأعرابي وغيره: يقلعها قلعاً من أصولها، ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً، ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ثم كالهباء المنثور.
والفاء في قوله: {فَقُلْ} جواب شرط مقدّر، والتقدير: إن سألوك فقل، أو للمسارعة إلى إلزام السائلين. والضمير في قوله: {فَيَذَرُهَا} راجع إلى الجبال باعتبار مواضعها، أي فيذر مواضعها بعد نسف ما كان عليها من الجبال {قَاعاً صَفْصَفاً} قال ابن الأعرابي: القاع الصفصف: الأرض الملساء بلا نبات ولا بناء، وقال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والصفصف: القرعاء الملساء التي لا نبات فيها.
وقال الجوهري: القاع: المستوي من الأرض، والجمع أقوع وأقواع وقيعان. والظاهر من لغة العرب أن القاع: الموضع المنكشف، والصفصف: المستويّ الأملس، وأنشد سيبويه:
وكم دون بيتك من صفصف ** ودكداك رمل وأعقادها

وانتصاب: {قاعاً} على أنه مفعول ثانٍ ليذر على تضمينه معنى التصيير، أو على الحال والصفصف صفة له. ومحل: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} النصب على أنه صفة ثانية ل {قاعاً}، والضمير راجع إلى الجبال بذلك الاعتبار. والعوج بكسر العين: التعوّج، قاله ابن الأعرابي. والأمت: التلال الصغار. والأمت في اللغة: المكان المرتفع. وقيل: العوج: الميل، والأمت: الأثر مثل الشراك. وقيل: العوج: الوادي، والأمت: الرابية. وقيل: هما الارتفاع. وقيل: العوج: الصدوع، والأمت: الأكمة. وقيل: الأمت: الشقوق في الأرض. وقيل: الأمت: أن يغلظ في مكان ويدق في مكان. ووصف مواضع الجبال بالعوج بكسر العين ها هنا يدفع ما يقال: إن العوج بكسر العين في المعاني وبفتحها في الأعيان، وقد تكلف لذلك صاحب الكشاف في هذا الموضع بما عنه غني، وفي غيره سعة.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى لاَ عِوَجَ لَهُ} أي يوم نسف الجبال يتبع الناس داعي الله إلى المحشر.
وقال الفراء: يعني صوت الحشر، وقيل: الداعي هو إسرافيل إذا نفخ في الصور لا عوج له، أي لا معدل لهم عن دعائه فلا يقدرون على أن يزيغوا عنه، أو ينحرفوا منه بل يسرعون إليه كذا قال أكثر المفسرين. وقيل لا عوج لدعائه {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي خضعت لهيبته، وقيل: ذلت. وقيل: سكتت، ومنه قول الشاعر:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ** سور المدينة والجبال الخشع

{فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} الهمس: الصوت الخفي. قال أكثر المفسرين: هو صوت نقل الأقدام إلى المحشر، ومنه قول الشاعر:
وهنّ يمشين بنا هميسا

يعني صوت أخفاف الإبل.
وقال رؤبة يصف نفسه:
ليث يدق الأسد الهموسا ** ولا يهاب الفيل والجاموسا

يقال للأسد: الهموس؛ لأنه يهمس في الظلمة، أي يطأ وطئاً خفياً. والظاهر أن المراد هنا: كل صوت خفيّ سواء كان بالقدم، أو من الفم، أو غير ذلك، ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب: {فلا ينطقون إلا همساً}.
{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة} أي يوم يقع ما ذكر لا تنفع الشفاعة من شافع كائناً من كان {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} أي إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع له {وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً} أي: رضي قوله في الشفاعة أو رضي لأجله قول الشافع. والمعنى: إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضى، ومثل هذه الآية قوله: {لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28]، وقوله: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87]، وقوله: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} [المدثر: 48].
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما بين أيديهم من أمر الساعة، وما خلفهم من أمر الدنيا، والمراد هنا: جميع الخلق. وقيل: المراد بهم: الذين يتبعون الداعي، وقال ابن جرير: الضمير يرجع إلى الملائكة، أعلم الله من يعبدها أنها لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي بالله سبحانه، لا تحيط علومهم بذاته، ولا بصفاته، ولا بمعلوماته. وقيل: الضمير راجع إلى ما في الموضعين فإنهم لا يعلمون جميع ذلك {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيّ القيوم} أي ذلت وخضعت، قاله ابن الأعرابي. قال الزجاج: معنى عنت في اللغة: خضعت، يقال: عنى يعنو عنواً إذا خضع، ومنه قيل للأسير: عان، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن ** لعزته تعنو الوجوه وتسجد

وقيل: هو من العناء، بمعنى التعب {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي خسر من حمل شيئاً من الظلم. وقيل: هو الشرك. {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي الأعمال الصالحة {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله؛ لأن العمل لا يقبل من غير إيمان، بل هو شرط في القبول {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً} يصاب به من نقص ثواب في الآخرة {وَلاَ هَضْماً} الهضم: النقص والكسر، يقال: هضمت لك من حقي، أي حططته وتركته. وهذا يهضم الطعام، أي: ينقص ثقله. وامرأة هضيم الكشح، أي ضامرة البطن. وقرأ ابن كثير ومجاهد: {لا يخف} بالجزم جواباً لقوله: {ومن يعمل من الصالحات} وقرأ الباقون: {يخاف} على الخبر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجلاً أتاه، فقال: رأيت قوله: {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} وأخرى عمياً قال: إن يوم القيامة فيه حالات يكونون في حال زرقاً، وفي حال عمياً.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {يتخافتون بَيْنَهُمْ} قال: يتساررون.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} قال: أوفاهم عقلاً، وفي لفظ قال: أعلمهم في نفسه.
وأخرج ابن المنذر وابن جريج قال: قالت قريش: كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} الآية.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} قال: لا نبات فيه {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} قال: وادياً {وَلا أَمْتاً} قال: رابية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه سئل عن قوله: {قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} قال: كان ابن عباس يقول: هي الأرض الملساء التي ليس فيها رابية مرتفعة ولا انخفاض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس {عِوَجَا} قال: ميلاً {وَلا أَمْتاً} قال: الأمت: الأثر مثل الشراك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة تطوي السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي منادٍ فيتبع الناس الصوت يؤمونه. فذلك قول الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح في الآية: قال لا عوج عنه.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَخَشَعَتِ الأصوات} قال: سكتت {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} قال: الصوت الخفيّ.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {إِلاَّ هَمْساً} قال: صوت وطء الأقدام.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد قال: الصوت الخفيّ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: سر الحديث وصوت الأقدام.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَعَنَتِ الوجوه} قال: ذلت.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: خشعت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: خضعت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {وَعَنَتِ الوجوه}: الركوع والسجود.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} قال: شركاً.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} قال: شركاً {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} قال: ظلماً أن يزاد في سيئاته {وَلاَ هَضْماً} قال: ينقص من حسناته.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: لا يخاف أن يظلم في سيئاته، ولا يهضم في حسناته.
وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن أبي حاتم عنه {وَلاَ هَضْماً} قال: غصباً.