فصل: تفسير الآيات (26- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 35):

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
قوله: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا.
وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. ثم نزه عزّ وجلّ نفسه. فقال: {سبحانه} أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أي ليسوا كما قالوا، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقرّبون عنده. وقرئ: {مكرمون} بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى: بل اتخذ عباداً، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرئ: {لا يسبقونه} بضم الباء من سبقته أسبقه {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أي: يشفع الشافعون له، وهو من رضي عنه، وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية: الخوف مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر، أي لا يأمنون مكر الله.
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إله مّن دُونِهِ} أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون: عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إله إلا إبليس؛ وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة {فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فذلك القائل على سبيل الفرض، والتقدير: نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين {كذلك نَجْزِي الظالمين} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين: المشركون.
{أَوَ لَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ} الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا {أن السموات والأرض * كَانَتَا رَتْقاً} قال الأخفش: إنما قال: {كانتا}، لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] وقال الزجاج: إنما قال: {كانتا} لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد، لأن السموات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. والرتق. السد ضدّ الفتق، يقال: رتقت الفتق أرتقه فارتتق، أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني: أنهما كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما، وقال: {رتقاً} ولم يقل (رتقين) لأنه مصدر، والتقدير: كانتا ذواتي رتق، ومعنى {ففتقناهما} ففصلناهما، أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل: المراد بالماء هنا: النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} أي جبالاً ثوابت {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} الميد التحرّك والدوران، أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الرواسي، أو في الأرض {فِجَاجاً} قال أبو عبيدة: هي المسالك.
وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و{سُبُلاً} تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} إلى مصالح معاشهم، وما تدعو إليه حاجاتهم {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65].
وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: {وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ} [الحجر: 17]. وقيل: محفوظاً: لا يحتاج إلى عماد، وقيل: المراد بالمحفوظ هنا: المرفوع. وقيل: محفوظاً عن الشرك والمعاصي. وقيل: محفوظاً عن الهدم والنقض {وَهُمْ عَنْ ءاياتها مُعْرِضُونَ} أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما، ومعنى الإعراض: أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان.
{وَهُوَ الذي خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر} هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون، أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء.
وقال الكسائي: إنما قال: {يسبحون} لأنه رأس آية. والفلك واحد أفلاك النجوم. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} أي دوام البقاء في الدنيا {أَفَإِيْن مّتَّ} بأجلك المحتوم {فَهُمُ الخالدون} أي أفهم الخالدون؟ قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى: إن متّ فهم يموتون أيضاً، فلا شماتة في الموت. وقرئ: {مت} بكسر الميم وضمها لغتان: وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أي ذائقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان. {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} أي نختبركم بالشدّة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد: أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم، و{فتنة} مصدر {لنبلوكم} من غير لفظه {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود: إن الله عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته. {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} يثني عليهم {وَلاَ يَشْفَعُونَ} قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: لأهل التوحيد لمن رضي عنه.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: قول لا إله إلا الله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال: الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إله إلا الله.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} قال: «إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه {كَانَتَا رَتْقاً} قال: لا يخرج منهما شيء، وذكر مثل ما تقدم.
وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى.
وأخرج ابن جرير عنه {كَانَتَا رَتْقاً} قال: ملتصقتين.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْء حَيّ} قال: نطفة الرجل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} قال: بين الجبال.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} قال: دوران {يَسْبَحُونَ} قال: يجرون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} قال: فلك كفلكة المغزل {يَسْبَحُونَ} قال: يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو فلك السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال: دخل أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} الآية، وقوله: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 30].
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} قال: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.

.تفسير الآيات (36- 43):

{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}
قوله: {وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ} يعني المستهزئين من المشركين {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً} أي ما يتخذونك إلا مهزوءاً بك، والهزؤ: السخرية، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {المشركين إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] والمعنى: ما يفعلون بك إلا اتخذوك هزؤاً {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} هو على تقدير القول، أي يقولون: أهذا الذي، فعلى هذا هو جواب إذا، ويكون قوله: {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هزواً} اعتراضاً بين الشرط وجوابه، ومعنى يذكرها: يعيبها. قال الزجاج: يقال فلان يذكر الناس، أي يغتابهم، ويذكرهم بالعيوب، وفلان يذكر الله، أي يصفه بالتعظيم ويثني عليه، وإنما يحذف مع الذكر ما عقل معناه، وعلى ما قالوا لا يكون الذكر في كلام العرب العيب، وحيث يراد به العيب يحذف منه السوء، قيل: ومن هذا قول عنترة:
لا تذكري مهري وما أطعمته ** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب

أي لا تعيبي مهري، وجملة {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون} في محل نصب على الحال، أي وهم بالقرآن كافرون، أو هم بذكر الرحمن الذي خلقهم كافرون، والمعنى: أنهم يعيبون على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يذكر آلهتهم التي لا تضرّ ولا تنفع بالسوء، والحال أنهم بذكر الله سبحانه بما يليق به من التوحيد، أو القرآن كافرون، فهم أحق بالعيب لهم والإنكار عليهم، فالضمير الأوّل مبتدأ خبره كافرون، وبذكر متعلق بالخبر، والضمير الثاني تأكيد.
{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي جعل لفرط استعجاله كأنه مخلوق من العجل. قال الفراء: كأنه يقول: بنيته وخلقته من العجلة وعلى العجلة.
وقال الزجاج: خوطبت العرب بما تعقل، والعرب تقول للذي يكثر منه الشيء: خلقت منه كما تقول: أنت من لعب، وخلقت من لعب، تريد المبالغة في وصفه بذلك. ويدل على هذا المعنى قوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11]. والمراد بالإنسان: الجنس. وقيل: المراد بالإنسان: آدم، فإنه لما خلقه الله ونفخ فيه الروح صار الروح في رأسه، فذهب لينهض قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه فوقع، فقيل: خلق الإنسان من عجل، كذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والسديّ والكلبي ومجاهد وقال أبو عبيدة وكثير من أهل المعاني: العجل: الطين بلغة حمير. وأنشدوا:
والنخل تنبت بين الماء والعجل

وقيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32]. وقيل: نزلت في قريش لأنهم استعجلوا العذاب.
وقال الأخفش: معنى خلق الإنسان من عجل أنه قيل له كن فكان. وقيل: إن هذه الآية من المقلوب، أي خلق العجل من الإنسان وقد حكي هذا عن أبي عبيدة والنحاس، والقول الأوّل أولى {سأريكم آياتي} أي: سأريكم نقماتي منكم بعذاب النار {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} أي لا تستعجلوني بالإتيان به، فإنه نازل بكم لا محالة، وقيل: المراد بالآيات ما دل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وما جعله الله له من العاقبة المحمودة، والأوّل أولى، ويدل عليه قولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي متى حصول هذا الوعد، الذي تعدنا به من العذاب، قالوا ذلك على جهة الاستهزاء والسخرية.
وقيل: المراد بالوعد هنا: القيامة، ومعنى {إِن كُنتُمْ صادقين}: إن كنتم يا معشر المسلمين صادقين في وعدكم، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين يتلون الآيات القرآنية المنذرة بمجيء الساعة وقرب حضور العذاب.
وجملة: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ} وما بعدها مقرّرة لما قبلها، أي لو عرفوا ذلك الوقت، وجواب لو محذوف، والتقدير: لو علموا الوقت الذي {لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} لما استعجلوا الوعيد.
وقال الزجاج: في تقدير الجواب لعلموا صدق الوعد. وقيل: لو علموه ما أقاموا على الكفر.
وقال الكسائي: هو تنبيه على تحقيق وقوع الساعة، أي لو علموه علم يقين لعلموا أن الساعة آتية، ويدلّ عليه قوله: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى الأمام والخلف لكونهما أشهر الجوانب الجوانب في استلزام الإحاطة بها للإحاطة بالكلّ، بحيث لا يقدرون على دفعها من جانب من جوانبهم، ومحل {حين لا يكفون} النصب على أنه مفعول العلم، وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، ومعنى {ولا هم ينصرون}: ولا ينصرهم أحد من العباد فيدفع ذلك عنهم، وجملة {بل تأتيهم بغتة} معطوفة على {يكفون} أي لا يكفونها بل تأتيهم العدّة أو النار أو الساعة بغتة، أي فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} قال الجوهري: بهته بهتاً أخذه بغتة، وقال الفراء: فتبهتهم، أي تحيرهم. وقيل: فتفجؤهم {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} أي صرفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فالضمير راجع إلى النار. وقيل: راجع إلى الوعد بتأويله بالعدة. وقيل: راجع إلى الحين بتأويله بالساعة {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يمهلون ويؤخرون لتوبة واعتذار.
وجملة {وَلَقَدِ استهزيء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيته، كأنه قال: إن استهزأ بك هؤلاء فقد فعل ذلك بمن قبلك من الرسل على كثرة عددهم وخطر شأنهم {فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي أحاط ودار بسبب ذلك بالذين سخروا من أولئك الرسل وهزئوا بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}: {ما} موصولة، أو مصدرية، أي فأحاط بهم الأمر الذي كانوا يستهزئون به، أو فأحاط بهم استهزاؤهم، أي جزاؤه على وضع السبب موضع المسبب، أو نفس الاستهزاء، إن أريد به العذاب الأخروي. {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم باليل والنهار مِنَ الرحمن} أي يحرسكم ويحفظكم.
والكلاءة: الحراسة والحفظ، يقال: كلأه الله كلاء بالكسر، أي حفظه وحرسه. قال ابن هرمة:
إن سليمى والله يكلؤها ** ضنت بشيء ما كان يرزؤها

أي قل يا محمد لأولئك المستهزئين بطريق التقريع والتوبيخ: من يحرسكم ويحفظكم بالليل والنهار من بأس الرحمن وعذابه الذي تستحقون حلوله بكم ونزوله عليكم؟ وقال الزجاج: معناه: من يحفظكم من بأس الرحمن.
وقال الفراء: المعنى: من يحفظكم مما يريد الرحمن إنزاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة.
وحكى الكسائي والفراء: من يكلوكم بفتح اللام وإسكان الواو {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} أي عن ذكره سبحانه فلا يذكرونه ولا يخطرونه ببالهم، بل يعرضون عنه، أو عن القرآن، أو عن مواعظ الله، أو عن معرفته.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا}: {أم} هي المنقطعة التي بمعنى بل، والهمزة للإضراب والانتقال عن الكلام السابق المشتمل على بيان جهلهم بحفظه سبحانه إياهم إلى توبيخهم وتقريعهم باعتمادهم على من هو عاجز عن نفع نفسه، والدفع عنها. والمعنى: بل لهم آلهة تمنعهم من عذابنا. وقيل: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم. ثم وصف آلهتهم هذه التي زعموا أنها تنصرهم بما يدلّ على الضعف والعجز فقال: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} أي هم عاجزون عن نصر أنفسهم فكيف يستطيعون أن ينصروا غيرهم {ولا هم منا يصحبون} أي ولا هم يجارون من عذابنا. قال ابن قتيبة: أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار، والعرب تقول: صحبك الله، أي حفظك وأجارك، ومنه قول الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوّذا ** ليصحب منا والرماح دواني

تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير منه. قال المازني: هو من أصحبت الرجل: إذا منعته.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبيّ بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبيّ، فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوّفه وقال: ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمك، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية»، فنزلت هذه الآية: {وَإِذَا رَآكَ الذين كَفَرُواْ}. قلت: ينظر من الذي روى عنه السديّ؟.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: لما نفخ في آدم الروح صار في رأسه فعطس فقال: الحمد لله، فقالت الملائكة: يرحمك الله، فذهب لينهض قبل أن تمور في رجليه فوقع، فقال الله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ}.
وقد أخرج نحو هذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد، وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} قال: يحرسكم، وفي قوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} قال: لا ينصرون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} قال: لا يجارون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية: قال لا يمنعون.