فصل: تفسير الآيات (89- 97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (89- 97):

{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}
قوله: {وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبر زكريا وقت ندائه لربه قال: {رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} أي منفرداً وحيداً لا ولد لي.
وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في آل عمران {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} أي خير من يبقى بعد كل من يموت، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولداً فإني أعلم أنك لا تضيع دينك وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ: {فاستجبنا لَهُ} دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى}.
وقد تقدّم مستوفى في سورة مريم {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ}. قال أكثر المفسرين: إنها كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً. فهذا هو المراد بإصلاح زوجه. وقيل: كانت سيئة الخلق فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعاً، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها، فتكون ولوداً بعد أن كانت عاقراً، ويصلح أخلاقها فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، فالضمير المذكور راجع إليهم، وقيل: هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى. ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه {رَغَباً وَرَهَباً} أي يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة، وقيل الرغب: رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب: رفع ظهورها، وانتصاب رغباً ورهباً على المصدرية أي: يرغبون رغباً ويرهبون رهباً، أو على العلة أي للرّغب والرّهب، أو على الحال، أي راغبين وراهبين. وقرأ طلحة بن مصرِّف {ويدعونا} بنون واحدة، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده، وقرأ ابن وثاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي: متواضعين متضرّعين.
{والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر خبرها، وهي مريم، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ولم يمسسها بشر، وإنما ذكرها مع الأنبياء وإن لم تكن منهم لأجل ذكر عيسى، وما في ذكر قصتها من الآية الباهرة {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} أضاف سبحانه الروح إليه، وهو للملك تشريفاً وتعظيماً، وهو يريد روح عيسى {وجعلناها وابنها ءَايَةً للعالمين} قال الزجاج: الآية فيهما واحدة لأنها ولدته من غير فحل. وقيل: إن التقدير على مذهب سيبويه: وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية كقوله سبحانه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] والمعنى: أن الله سبحانه جعل قصتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما. وقيل: أراد بالآية الجنس الشامل، لما لكل واحد منهما من آيات، ومعنى: {أحصنت} عفت فامتنعت من الفاحشة وغيرها. وقيل: المراد بالفرج: جيب القميص، أي أنها طاهرة الأثواب، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم.
ثم لما ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلهم مجتمعون على التوحيد فقال: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} والأمة: الدّين كما قال ابن قتيبة، ومنه: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءنَا على أمة} [الزخرف: 22] أي على دين، كأنه قال: إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله، وقيل: المعنى إن هذه الشريعة التي بينتها لكم في كتابكم شريعة واحدة، وقيل: المعنى إن هذه ملتكم ملة واحدة، وهي ملة الإسلام. وانتصاب {أمة واحدة} على الحال، أي متفقة غير مختلفة، وقرئ: {إن هذه أمتكم} بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر أمة واحدة. وقرئ برفع {أمتكم} ورفع {أمة} على أنهما خبران؛ وقيل: على إضمار مبتدأ أي: هي أمة واحدة. وقرأ الجمهور برفع {أمتكم} على أنه الخبر ونصب {أمة} على الحال كما قدّمنا.
وقال الفراء والزجاج: على القطع بسبب مجيء النكرة بعد تمام الكلام {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون} خاصة، لا تعبدوا غيري كائناً ما كان.
{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرّقوا فرقاً في الدين حتى صار كالقطع المتفرّقة.
وقال الأخفش: اختلفوا فيه، وهو كالقول الأوّل. قال الأزهري: أي تفرّقوا في أمرهم، فنصب أمرهم بحذف في، والمقصود بالآية المشركون، ذمهم الله بمخالفة الحق واتخاذهم آلهة من دون الله. وقيل: المراد: جميع الخلق وأنهم جعلوا أمرهم في أديانهم قطعاً وتقسموه بينهم، فهذا موحّد، وهذا يهوديّ، وهذا نصرانيّ، وهذا مجوسيّ، وهذا عابد وثن. ثم أخبر سبحانه بأن مرجع الجميع إليه فقال: {كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون} أي: كل واحد من هذه الفرق راجع إلينا بالبعث، لا إلى غيرنا.
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي من يعمل بعض الأعمال الصالحة، لا كلها، إذ لا يطيق ذلك أحد {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله واليوم الآخر {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا جحود لعمله، ولا تضييع لجزائه، والكفر ضدّ الإيمان، والكفر أيضاً جحود النعمة وهو ضدّ الشكر، يقال: كفر كفوراً وكفراناً، وفي قراءة ابن مسعود: {فلا كفر لسعيه}. {وَإِنَّا لَهُ كاتبون} أي لسعيه حافظون، ومثله قوله سبحانه: {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195]. {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها}. قرأ زيد بن ثابت وأهل المدينة {وحرام} وقرأ أهل الكوفة: {وحرم} وقد اختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم، ورويت القراءة الثانية عن عليّ وابن مسعود وابن عباس: وهما لغتان مثل حلّ وحلال. وقرأ سعيد بن جبير {وحرم} بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم. وقرأ عكرمة وأبو العالية {حرم} بضم الراء وفتح الحاء والميم، ومعنى {أهلكناها}: قدّرنا إهلاكها، وجملة: {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره {حرام} أو على أنه فاعل له سادّ مسدّ خبره.
والمعنى: وممتنع ألبتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء، وقيل: إن {لا} في {لا يرجعون} زائدة أي حرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك إلى الدنيا، واختار هذا أبو عبيدة؛ وقيل: إن لفظ حرام هنا بمعنى الواجب، أي واجب على قرية، ومنه قول الخنساء:
وإن حراماً لا أرى الدهر باكياً ** على شجوه إلا بكيت على صخر

وقيل: حرام: أي ممتنع رجوعهم إلى التوبة، على أن لا زائدة. قال النحاس: والآية مشكلة، ومن أحسن ما قيل فيها وأجلّه ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل، وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية قال: واجب أنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون. قال الزجاج وأبو علي الفارسي: إن في الكلام إضماراً، أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوب أهلها، أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون، أي لا يتوبون. {حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ}: {حتى} هذه هي التي يحكى بعدها الكلام، ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس، والمراد بفتح يأجوج ومأجوج فتح السدّ الذي عليهم، على حذف المضاف، وقيل: إن حتى هذه هي التي للغاية. والمعنى: أن هؤلاء المذكورين سابقاً مستمرّون على ما هم عليه إلى يوم القيامة، وهي يوم فتح سدّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} الضمير ليأجوج ومأجوج، والحدب، كلّ أكمة من الأرض مرتفعة والجمع أحداب، مأخوذ من حدبة الأرض، ومعنى {يَنسِلُونَ} يسرعون. وقيل: يخرجون. قال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع. يقال: نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلاً ونسولاً ونسلاناً، أي أن يأجوج ومأجوج من كلّ مرتفع من الأرض يسرعون المشي ويتفرقون في الأرض؛ وقيل: الضمير في قوله: {وهم} لجميع الخلق، والمعنى: أنهم يحشرون إلى أرض الموقف وهم يسرعون من كلّ مرتفع من الأرض. وقرئ بضم السين. حكى ذلك المهدوي عن ابن مسعود.
وحكى هذه القراءة أيضاً الثعلبي، عن مجاهد، وأبي الصهباء.
{واقترب الوعد} عطف على {فتحت}، والمراد: ما بعد الفتح من الحساب.
وقال الفراء والكسائي وغيرهما: المراد بالوعد الحق: القيامة والواو زائدة؛ والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق وهو القيامة، فاقترب جواب إذا، وأنشد الفراء:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى، ومنه قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه} [الصافات: 103، 104]. وأجاز الفراء أن يكون جواب إذا {فَإِذَا هِيَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} وقال البصريون: الجواب محذوف، والتقدير: قالوا: يا ويلنا.
وبه قال الزجاج، والضمير في {فَإِذَا هِىَ} للقصة، أو مبهم يفسره ما بعده، وإذا للمفاجأة. وقيل: إن الكلام تمّ عند قوله: {هي}، والتقدير: فإذا هي، يعني: القيامة بارزة واقعة كأنها آتية حاضرة، ثم ابتدأ فقال: {شاخصة أبصار الذين كفروا} على تقديم الخبر على المبتدأ، أي أبصار الذين كفروا شاخصة، و{يا ويلنا} على تقدير القول: {قَدْ كُنَّا في غَفْلَةٍ مّنْ هذا} أي من هذا الذي دهمنا من العبث والحساب {بَلْ كُنَّا ظالمين} أضربوا عن وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن غافلين بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الانقياد للرسل.
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال: كان في لسان امرأة زكريا طول فأصلحه الله.
وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: وهبنا له ولدها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كانت عاقراً فجعلها الله ولوداً ووهب له منها يحيى، وفي قوله: {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} قال: أذلاء.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قال: رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله سبحانه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قال: «رغباً هكذا ورهباً هكذا وبسط كفيه»، يعني: جعل ظهرهما للأرض في الرغبة وعكسه في الرهبة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشعين}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: إن هذا دينكم ديناً واحداً.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} قال: تقطعوا: اختلفوا في الدين.
وأخرج الفريابي وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أهلكناها} قال: وجب إهلاكها {أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} قال: لا يتوبون.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَحَرَّمَ على قَرْيَةٍ} قال: وجب على قرية {أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} كما قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [ياس: 31].
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة وسعيد بن جبير مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مّن كُلّ حَدَبٍ} قال: شرف {يَنسِلُونَ} قال: يقبلون، وقد ورد في صفة يأجوج ومأجوج وفي وقت خروجهم أحاديث كثيرة لا يتعلق بذكرها ها هنا كثير فائدة.

.تفسير الآيات (98- 112):

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)}
بيّن سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة، والمراد بقوله: {وما تعبدون}: الأصنام التي كانوا يعبدون. قرأ الجمهور: {حصب} بالصاد المهملة، أي وقود جهنم وحطبها، وكل ما أوقدت به النار أو هيجتها به فهو حصب، كذا قال الجوهري. قال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به، ومثل ذلك قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24]. وقرأ عليّ بن أبي طالب وعائشة: {حطب جهنم} بالطاء، وقرأ ابن عباس: {حضب} بالضاد المعجمة. قال الفراء: ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن: الحطب، ووجه إلقاء الأصنام في النار مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحسّ به: التبكيت لمن عبدها وزيادة التوبيخ لهم وتضاعف الحسرة عليهم. وقيل: إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم، وجملة: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} إما مستأنفة أو بدل من {حصب جهنم} والخطاب لهم ولما يعبدون تغليباً، واللام في {لها} للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل. وقيل: هي بمعنى على، والمراد بالورود هنا: الدخول. قال كثير من أهل العلم: ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة، لأن {ما} لمن لا يعقل، ولو أراد العموم لقال: ومن يعبدون. قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.
{لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} أي لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون، ما وردوها أي: ما ورد العابدون هم والمعبودون النار، وقيل: ما ورد العابدون فقط، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد {وَكُلٌّ فِيهَا خالدون} أي: كلّ العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الذين وردوا النار، والزفير صوت نفس المغموم، والمراد هنا: الأنين والتنفس الشديد، وقد تقدّم بيان هذا في هود. {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدّة الهول. وقيل: لا يسمعون شيئاً، لأنهم يحشرون صماً كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا} [الإسراء: 97]. وإنما سلبوا السماع، لأن فيه بعض تروّح وتأنس، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون ما يسوؤهم.

ثم لما بيّن سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء فقال: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} أي الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة. وقيل: التوفيق، أو التبشير بالجنة، أو نفس الجنة. {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة {عَنْهَا} أي عن جهنم {مُبْعَدُونَ} لأنهم قد صاروا في الجنة.
{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} الحسّ والحسيس: الصوت تسمعه من الشيء يمرّ قريباً منك. والمعنى: لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها، وهذه الجملة بدل من {مبعدون} أو حال من ضميره {وَهُمْ فِيمَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون} أي دائمون، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ به الأعين كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]. {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} قرأ أبو جعفر وابن محيصن: {لا يحزنهم} بضم الياء وكسر الزاي، وقرأ الباقون {لا يحزنهم} بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم. والفزع الأكبر: أهوال يوم القيامة من البعث والحساب والعقاب {وتتلقاهم الملئكة} أي تستقبلهم على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم: {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي توعدون به في الدنيا وتبشرون بما فيه، هكذا قال جماعة من المفسرين إن المراد بقوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} إلى هنا هم كافة الموصوفين بالإيمان والعمل الصالح، لا المسيح وعزير والملائكة، وقال أكثر المفسرين: إنه لما نزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} الآية: «أتى ابن الزبعري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ألست تزعم أن عزيراً رجل صالح، وأن عيسى رجل صالح، وأن مريم امرأة صالحة؟ قال: بلى، فقال: فإن الملائكة وعيسى وعزيراً ومريم يعبدون من دون الله، فهؤلاء في النار، فأنزل الله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى}» وسيأتي بيان من أخرج هذا قريباً إن شاء الله.
{يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيّ السجل للكتب} قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج والزهري: {تطوي} بمثناة فوقية مضمومة ورفع السماء، وقرأ مجاهد: {يطوي} بالتحتية المفتوحة مبنياً للفاعل على معنى يطوي الله السماء، وقرأ الباقون {نطوي} بنون العظمة وانتصاب {يوم} بقوله: {نُّعِيدُهُ} أي نعيده يوم نطوي السماء، وقيل: هو بدل من الضمير المحذوف في توعدون، والتقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي. وقيل: بقوله: {لا يحزنهم الفزع} وقيل: بقوله: {تتلقاهم}. وقيل: متعلق بمحذوف، وهو اذكر، وهذا أظهر وأوضح، والطيّ ضد النشر. وقيل: المحو، والمراد بالسماء: الجنس، والسجل: الصحيفة، أي طياً كطيّ الطومار. وقيل: السجل: الصك، وهو مشتق من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل، وهو الدلو، يقال: ساجلت الرجل: إذا نزعت دلواً ونزع دلواً، ثم استعيرت للمكاتبة والمراجعة في الكلام، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجداً ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير: {السجل} بضم السين والجيم وتشديد اللام، وقرأ الأعمش وطلحة بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام، والطيّ في هذه الآية يحتمل معنيين أحدهما: الطيّ الذي هو ضدّ النشر، ومنه قوله: {والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو، لأن الله سبحانه يمحو ويطمس رسومها ويكدّر نجومها. وقيل: السجل اسم ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم. وقيل: هو اسم كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأوّل أولى. قرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحيى وخلف: {للكتب} جمعاً، وقرأ الباقون: {للكتاب} وهو متعلق بمحذوف حال من السجل، أي كطيّ السجل كائناً للكتب أو صفة له أي الكائن للكتب، فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها، فسجلها بعض أجزائها، وبه يتعلق الطيّ حقيقة. وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر، واللام للتعليل، أي كما يطوي الطومار للكتابة، أي ليكتب فيه، أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، وهذا على تقدير أن المراد بالطيّ المعنى الأوّل، وهو ضدّ النشر {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة، فأوّل خلق مفعول نعيد مقدّراً يفسره نعيده المذكور، أو مفعول لبدأنا، وما كافة أو موصولة، والكاف متعلقة بمحذوف، أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده، وعلى هذا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا، أو حال، وإنما خص أوّل الخلق بالذكر تصويراً للإيجاد عن العدم، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ للشمول الإمكاني الذاتي لهما، وقيل معنى الآية: نهلك كلّ نفس كما كان أوّل مرّة، وعلى هذا فالكلام متصل بقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السماء}. وقيل: المعنى نغير السماء، ثم نعيدها مرّة أخرى بعد طيها وزوالها، والأوّل أولى، وهو مثل قوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]. ثم قال سبحانه: {وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين} انتصاب {وعداً} على أنه مصدر أي وعدنا وعداً علينا إنجازه والوفاء به. وهو البعث والإعادة، ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: {إِنَّا كُنَّا فاعلين}. قال الزجاج: معنى {إنا كنا فاعلين}: إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل: إنا كنا فاعلين ما وعدناكم، ومثله قوله: {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل: 18].
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور} الزبر في الأصل: الكتب، يقال: زبرت، أي كتبت، وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور. وقيل: المراد به هنا: كتاب داود، ومعنى {مِن بَعْدِ الذكر} أي اللوح المحفوظ. وقيل: هو التوراة، أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون}. قال الزجاج: الزبور جميع الكتب: التوراة والإنجيل والقرآن، لأن الزبور والكتاب في معنى واحد، يقال: زبرت وكتبت، ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي، فإنه جمع زبر.
وقد اختلف في معنى {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} فقيل: المراد: أرض الجنة، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض} [الزمر: 74]. وقيل: هي الأرض المقدسة. وقيل: هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته بفتحها. وقيل: المراد بذلك: بنو إسرائيل، بدليل قوله سبحانه: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بوراثة أرض الكافرين، وعليه أكثر المفسرين. وقرأ حمزة: {عبادي} بتسكين الياء، وقرأ الباقون بتحريكها.
{إِنَّ فِي هذا لبلاغا} أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه {لبلاغاً}: لكفاية، يقال: في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبلغ، أي كفاية. وقيل: الإشارة بقوله: {إِنَّ فِي هذا} إلى القرآن {لّقَوْمٍ عابدين} أي مشغولين بعبادة الله مهتمين بها. والعبادة هي: الخضوع والتذلل، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورأس العبادة الصلاة. {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} أي وما أرسلناك يا محمد بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال والعلل، أي ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين، قيل: ومعنى كونه رحمة للكفار: أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال، وقيل: المراد بالعالمين: المؤمنون خاصة، والأوّل أولى بدليل قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33].
ثم بيّن سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك فقال: {قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله واحد} إن كانت {ما} موصولة فالمعنى: أن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادّها، وإن كانت {ما} كافة فالمعنى: أن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة، ووجه ذلك أن القصر أبداً يكون لما يلي إنما، فإنما الأولى لقصر الوصف على الشيء كقولك: إنما يقوم زيد، أي ما يقوم إلا زيد. والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك: إنما زيد قائم، أي ليس به إلا صفة القيام {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الإسلام {فَقُلْ} لهم {آذنكم على سَوَاء} أي: أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخصّ به بعضكم دون بعض كقوله سبحانه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} [الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضاً سوّيت بينهم فيه.
وقال الزجاج: المعنى: أعلمتكم ما يوحى إليّ على استواء في العلم به، ولا أظهر لأحد شيئاً كتمته على غيره {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} أي ما أدري أما توعدون به قريب حصوله أم بعيد، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله؛ وقيل: المراد بما توعدون: القيامة.
وقيل: آذنتكم بالحرب ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} أي ما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنعكم {ومتاع إلى حِينٍ} أي وتمتيع إلى وقت مقدّر تقتضيه حكمته.
ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {قَالَ رَبّ احكم بالحق} أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بما هو الحق عندك ففوّض الأمر إليه سبحانه. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن: {رب} بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم: رجل أقبل، حتى يقول: يا رجل. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب: {أحكم} بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم، أي قال محمد: ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم. وقرأ الجحدري: {أحكم} بصيغة الماضي، أي أحكم الأمور بالحق. وقرئ: {قل} بصيغة الأمر، أي قل يا محمد. قال أبو عبيدة: الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف، والتقدير: ربّ احكم بحكمك الحق، {وربّ} في موضع نصب، لأنه منادى مضاف إلى الضمير، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فعذبهم ببدر، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين. ثم قال سبحانه متمماً لتلك الحكاية {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} من الكفر والتكذيب، ف {ربنا} مبتدأ وخبره {الرحمن} أي هو كثير الرحمة لعباده، {المستعان} خبر آخر، أي المستعان به في الأمور التي من جملتها ما تصفونه من أن الشوكة تكون لكم، ومن قولكم: {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] وقولكم: {اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88] وكثيراً ما يستعمل الوصف في كتاب الله بمعنى الكذب كقوله: {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقوله: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام: 139] وقرأ المفضل والسلمي: {على ما يصفون} بالياء التحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال المشركون: فالملائكة وعيسى وعزير يعبدون من دون الله، فنزلت: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} عيسى وعزير والملائكة.
وأخرج ابن مردويه، والضياء في المختارة عنه قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا، فنزلت: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُواْ أآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57، 58]. ثم نزلت: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والطبراني من وجه آخر عنه أيضاً نحوه بأطول منه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} قال: «عيسى وعزير والملائكة».
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} قال: شجر جهنم، وفي إسناده العوفي.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه من وجه آخر أن {حَصَبُ جَهَنَّمَ} وقودها.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو حطب جهنم بالزنجية.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} قال: «حيات على الصراط تقول حس حس».
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي في قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} قال: حيات على الصراط تلسعهم، فإذا لسعتهم قالوا: حس حس.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن محمد بن حاطب قال: سئل عليّ عن هذه الآية: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} قال: هو عثمان وأصحابه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} يقول: لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزل منزلهم من الجنة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} قال: النفخة الآخرة، وفي إسناده العوفي.
وأخرج أحمد، والترمذي وحسنه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة على كثبان المسك لا يهولهم الفزع الأكبر يوم القيامة: رجل أمّ قوماً وهم به راضون، ورجل كان يؤذن في كل يوم وليلة. وعبد أدّى حق الله وحقّ مواليه».
وأخرج عبد بن حميد عن عليّ في قوله: {كَطَيّ السجل} قال: ملك.
وأخرج عبد بن حميد عن عطية مثله.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: السجل ملك، فإذا صعد بالاستغفار قال: اكتبوها نوراً.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر قال: السجل ملك.
وأخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، وابن منده في المعرفة، وابن مردويه، والبيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن المنذر وابن عديّ وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى: السجل، وهو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَىّ السجل} قال: كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء.
وأخرج ابن المنذر، وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن ابن عمر قال: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له: السجل، فأنزل الله: {يَوْمَ نَطْوِي السماء كَطَيّ السجل}.
قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا الحديث: وهذا منكر جداً من حديث نافع عن ابن عمر، لا يصح أصلاً. قال: وكذلك ما تقدّم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضاً.
وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً له على حدة، ولله الحمد. قال: وقد تصدّى الإمام أبو جعفر ابن جرير للإنكار على هذا الحديث وردّه أتمّ ردّ، وقال: ولا نعرف في الصحابة أحداً اسمه سجلّ، وكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا معروفين، وليس فيهم أحد اسمه السجل. وصدق رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث. وأما من ذكر في أسماء الصحابة هذا فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره والله أعلم. قال: والصحيح عن ابن عباس: أن السجلّ هو الصحيفة، قاله عليّ بن أبي طلحة والعوفي عنه. ونصّ على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا يكون معنى الكلام: يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتاب أي: على الكتاب، يعني المكتوب كقوله: {افلما أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، أي: على الجبين، وله نظائر في اللغة والله أعلم. قلت: أما كون هذا هو الصحيح عن ابن عباس فلا، فإن عليّ بن أبي طلحة والعوفيّ ضعيفان، فالأولى التعويل على المعنى اللغوي والمصير إليه.
وقد أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال: {السجل} هو الرجل، زاد ابن مردويه: بلغة الحبشة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير الآية قال: كطيّ الصحيفة على الكتاب.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} يقول: نهلك كل شيء كما كان أوّل مرّة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} قال: القرآن {أَنَّ الأرض} قال: أرض الجنة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} قال: الكتب {مِن بَعْدِ الذكر} قال: التوراة وفي إسناده العوفي.
وأخرج سعيد بن منصور عنه أيضاً، قال: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن. والذكر: الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء، والأرض: أرض الجنة.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} قال: أرض الجنة.
وأخرج بن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد الأرض، ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون، وفي قوله: {لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} قال: عالمين، وفي إسناده عليّ بن أبي طلحة.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن أبي هريرة: {إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} قال: الصلوات الخمس.
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في قول الله: {إِنَّ فِي هذا لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} قال: «في الصلوات الخمس شغلاً للعبادة».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {لبلاغا لّقَوْمٍ عابدين} قال: «هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} قال: من آمن تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: «إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة».
وأخرج الطيالسي وأحمد والطبراني، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين».
وأخرج أحمد والطبراني عن سلمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي أو لعنته لعنة، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليه صلاة يوم القيامة».
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» وقد روي معنى هذا من طرق.
وأخرج ابن أبي خيثمة وابن عساكر عن الربيع بن أنس قال: لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم رأى فلاناً، وهو بعض بني أمية على المنبر يخطب الناس، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} يقول: هذا الملك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} يقول: ما أخبركم به من العذاب والساعة، لعلّ تأخير ذلك عنكم فتنة لكم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله: {قُل رَّبّ احكم بالحق} قال: لا يحكم الله إلا بالحق، وإنما يستعجل بذلك في الدنيا يسأل ربه.