فصل: تفسير الآيات (142- 143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (142- 143):

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
قوله: {سَيَقُولُ} هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، بأن السفهاء من اليهود، والمنافقين سيقولون هذه المقالة عند أن تتحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. وقيل إن: {سَيَقُولُ} بمعنى: قال، وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته، واستمرار عليه، وقيل: إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وأن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهوين لصدمته، وتخفيف لروعته، وكسراً لسَوْرته. والسفهاء: جمع سفيه، وهو: الكذَّاب البَهَّات المعتقد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة.
وقال في الكشاف: هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس.
وقد تقدّم في تفسير قوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] ما ينبغي الرجوع إليه، ومعنى: {مَا ولاهم} ما صرفهم {عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} وهي بيت المقدس. فردّ الله عليهم بقوله: {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} فله أن يأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء. وفي قوله: {يَهْدِى مَن يَشَآء} إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأهل ملته إلى الصراط المستقيم وقوله: {وكذلك جعلناكم} أي: مثل ذلك الجعل جعلناكم، قيل معناه: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا. والوسط الخيار، أو العدل، والآية محتملة للأمرين، ومما يحتملهما قول زهير:
هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنَامُ بِحُكْمِهِم ** إذَا نَزَلت إحْدَى الليالِي بِمُعْظِم

ومثله قول الآخر:
أنْتُم أوْسطُ حَيٍّ علِمُوا ** بِصَغِير الأمْرِ أو إحْدى الكُبرَ

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الوسط هنا بالعدل كما سيأتي، فوجب الرجوع إلى ذلك، ومنه قول الراجز:
لا تذهبنَّ في الأمور مفرطا ** لا تسألنّ إن سألتَ شطَطَا

وكن مِن النَّاسِ جميعاً وسَطَاً

ولما كان الوسط مجانباً للغلو، والتقصير كان محموداً، أي: هذه الأمة لم تغلُ غلوّ النصارى في عيسى، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، ويقال: فلان أوسط قومه وواسطتهم: أي: خيارهم. وقوله: {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} أي: يوم القيامة تشهدون للأنبياء على أممهم، أنهم قد بلَّغوهم ما أمرهم الله بتبليغه إليهم، ويكون الرسول شهيداً على أمته بأنهم قد فعلوا ما أمر بتبليغه إليهم، ومثله قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41]، قيل: إن قوله: {عَلَيْكُمْ} يعني لكم، أي: يشهد لهم بالإيمان. وقيل معناه: يشهد عليكم بالتبليغ لكم. قال في الكشاف: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى: {والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ} [المجادلة: 9] {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلّ شَئ شَهِيدٌ}
[المائدة: 117]. انتهى. وقالت طائفة: معنى الآية: يشهد بعضكم على بعض بعد الموت. وقيل: المراد: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول، وسيأتي من المرفوع ما يبين معنى الآية إن شاء الله. وإنما أخر لفظ {على} في شهادة الأمة على الناس، وقدّمها في شهادة الرسول عليهم، لأن الغرض كما قال صاحب الكشاف في الأوّل: إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} قيل المراد بهذه القبلة: هي بيت المقدس، أي: ما جعلناها إلا لنعلم المتبع والمنقلب، ويؤيد هذا قوله: {كُنتَ عَلَيْهَا} إذا كان نزول هذه الآية بعد صرف القبلة إلى الكعبة. وقيل: المراد: الكعبة، أي: ما جعلنا القبلة التي أنت عليها الآن بعد أن كانت إلى بيت المقدس إلا لذلك الغرض، ويكون {كُنتُ} بمعنى الحال، وقيل المراد بذلك القبلة التي كان عليها قبل استقبال بيت المقدس، فإنه كان يستقبل في مكة الكعبة، ثم لما هاجر توجه إلى بيت المقدس تألفاً لليهود، ثم صُرِف إلى الكعبة. وقوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} قيل المراد بالعلم هنا الرؤية، وقيل: المراد إلا لتعلموا أنا نعلم بأن المنافقين كانوا في شك، وقيل: ليعلم النبي؛ وقيل: المراد لنعلم ذلك موجوداً حاصلاً، وهكذا ما ورد معللاً بعلم الله سبحانه لابد أن يؤول بمثل هذا كقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران: 140]. وقوله: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي: ما كانت إلا كبيرة، كما قاله الفراء في (أن) و(إن) أنهما بمعنى ما وإلا.
وقال البصريون: هي: الثقيلة خففت، والضمير في كانت راجع إلى ما يدل عليه قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} من التحويلة، أو التولية، أو الجعلة، أو الردّة، ذكر معنى ذلك الأخفش، ولا مانع من أن يرجع الضمير إلى القبلة المذكورة: أي: وإن كانت القبلة المتصفة بأنك كنت عليها لكبيرة إلا على الذين هداهم الله للإيمان، فانشرحت صدورهم لتصديقك، وقبلت ما جئت به عقولهم. وهذا الاستثناء مفرّغ، لأن ما قبله في قوّة النفي، أي: أنها لا تخفّ، ولا تسهل إلا على الذين هدى الله. وقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} قال القرطبي: اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات، وهو يصلي إلى بيت المقدس، ثم قال: فسمى الصلاة إيماناً؛ لاجتماعها على نية، وقول، وعمل، وقيل: المراد ثبات المؤمنين على الإيمان عند تحويل القبلة، وعدم ارتيابهم كما ارتاب غيرهم. والأول يتعين القول به، والمصير إليه لما سيأتي من تفسيره صلى الله عليه وسلم للآية بذلك. والرءوف كثير الرأفة، وهي أشدّ من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة أكبر من الرحمة، والمعنى متقارب.
وقرأ أبو جعفر بن يزيد بن القعقاع: {لروف} بغير همز، وهي: لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن عتبة:
وَشَرُّ الغالبين فلا تَكُنْه ** يقَاتِلِ عمه الروف الرحِيم

وقد أخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن البراء؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوّل ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأن أوّل صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه، فمرّ على أهل المسجد، وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال، وقتلوا، فلم ندر ما يقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} وله طرق أخر، وألفاظ متقاربة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال: إن أوّل ما نسخ في القرآن القبلة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود في ناسخه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، وبعد ما تحوّل إلى المدينة ستة عشر شهراً، ثم صرفه الله إلى الكعبة. وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدّم. وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة، وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة، فلا نطوّل بذكرها.
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والإسماعيلي في صحيحه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدلاً.
وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس مثله.
وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن أبي سعيد؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته فذلك قوله: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} قال: والوسط العدل، فتُدْعَون، فَتَشْهَدون له بالبلاغ، وأشهد عليكم.».
وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي سعيد نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وأمتي يوم القيامة على كَوْم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا، وما من نبيّ كذبه قومه إلا، ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه».
وأخرج ابن جرير، عن أبي سعيد في قوله: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} بأن الرسل قد بلغوا: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} بما عملتم، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أنس قال مرّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجببت» ومرّوا بجنازة فأثنى عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت وجبت وجبت» فسأله عمر فقال: «من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرّاً، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» زاد الحكيم الترمذي: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} الآية، وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند ابن المنذر، والحاكم وصححه، ومنها عن عمر مرفوعاً عند ابن أبي شيبة وأحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، ومنها عن أبي زهير الثقفي مرفوعاً عند أحمد وابن ماجه والطبراني، والدارقطني في الإفراد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، ومنها عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً عند ابن أبي شيبة، وابن جرير، والطبراني.
وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} قال: يعني بيت المقدس {إلا لنعلم} قال نبتليهم لنعلم من يسلم لأمره.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} قال لنميز أهل اليقين من أهل الشك {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} يعني تحويلها على أهل الشرك، والريب.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بلغني أن ناساً ممن أسلم رجعوا، فقالوا مرة ها هنا، ومرة ها هنا.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن عباس، قال: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا، وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم}.
وقد تقدّم حديث البراء. وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن السلف.

.تفسير الآيات (144- 147):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} قال القرطبي في تفسيره: قال العلماء: هذه الآية مقدّمة في النزول على قوله: {سَيَقُولُ السفهاء} ومعنى: {قَدْ} تكثير الرؤية، كما قاله صاحب الكشاف، ومعنى: {تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} تحوّل وجهك إلى السماء، قاله قطرب.
وقال الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى متقارب. وقوله: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ} هو إما من الولاية، أي: فلنعطينك ذلك، أو من التولي، أي: فلنجعلنك متولياً إلى جهتها، وهذا أولى لقوله: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام}. والمراد بالشطر هنا: الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية ومنه قول الشاعر:
أقول لأم زِنْبَاعٍ أقيِمي ** صدُورَ العِيسِ شَطْرَ بني تَميم

ومنه أيضاً قول الآخر:
ألا مَنْ مُبْلغ عمراً رَسُولا ** وَمَا تُغْنِي الرِسَالةُ شَطْرَ عمرو

وقد يراد بالشطر النصف، ومنه: «الوضوء شطر الإيمان»، ومنه قول عنترة:
إني امرؤ مِنْ خَيرِ عَبْس منصباً ** شَطِري وَأحْمِي سَائِري بِالمْنصَلِ

قال ذلك؛ لأن أباه من سادات عبس، وأمّه أمَة، ويرد معنى البعض مطلقاً. ولا خلاف أن المراد بشطر المسجد هنا: الكعبة، وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية، ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به، والضمير في قوله: {أَنَّهُ الحق} راجع إلى ما يدل عليه الكلام من التحويل إلى جهة الكعبة، وعلم أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبيّ يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة، فيكون ذلك موجباً عليهم الدخول في الإسلام، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} قد تقدّم معناه. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تعملون} بالمثناة الفوقية على مخاطبة أهل الكتاب، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياء التحتية.
وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن أتيت. وقوله: {مَّا تَبِعُواْ} جواب القسم المقدّر. قال الأخفش والفراء: أجيب لئن بجواب {ولو} لأن المعنى: ولو أتيت، ومثله قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} [الروم: 51] أي: ولو أرسلنا. وإنما قالا هكذا؛ لأن (لئن) هي ضد (لو)، وذلك أن (لو) تطلب في جوابها المضيّ، والوقوع، و(لئن) تطلب في جوابها الاستقبال.
وقال سيبويه: إن معنى (لئن) يخالف معنى لو، فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية لا يتبعون قبلتك.
قال سيبويه: ومعنى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} ليظللن. انتهى. وفي هذه الآية مبالغة عظيمة، وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويح خاطره، لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق، وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد، وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم، أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً، وعناداً مع علمهم بأنهم ليسوا على شيء، ومن كان هكذا، فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً.
وقوله: {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} هذا الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أي: لا تتبع يا محمد قبلتهم، ويمكن أن يكون على ظاهره، دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فيه إخبار بأن اليهود، والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم، حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته. قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى تستقبل مطلع الشمس. انتهى. وقوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم، والزجر البليغ ما تقشعرّ له الجلود، وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء، والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون- وحاشاه- من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية بعد ثبوت قدم الإسلام، وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية، ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم، أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة؛ وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشدّ على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الدين، ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك، والضدّ لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة، ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين، ويخرجوه منه، وهو يظنّ أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق، والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أضله الله على علم، وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله، ومصيبة صبها الله على المقصرين؛ لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى حق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه، وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة. نسأل الله اللطف، والسلامة، والهداية. وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ} قيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفون نبوّته. روي ذلك عن مجاهد وقتادة وطائفة من أهل العلم. وقيل: يعرفون تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، بالطريق التي قدّمنا ذكرها، وبه قال جماعة من المفسرين، ورجح صاحب الكشاف الأوّل. وعندي أن الراجح الآخر كما يدل عليه السياق الذي سيقت له هذه الآيات. وقوله: {لَيَكْتُمُونَ الحق} هو عند أهل القول الأوّل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وعند أهل القول الثاني استقبال القبلة. وقوله: {الحق مِن رَّبّكَ} يحتمل أن يكون المراد به الحقّ الأوّل، ويحتمل أن يراد به جنس الحق على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره قوله: {من ربك} أي الحق هو الذي من ربك لا من غيره. وقرأ عليّ بن أبي طالب {الحق} بالنصب على أنه بدل من الأول، أو منصوب على الإغراء، أي: الزم الحق. وقوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والامتراء: الشك، نهاه الله سبحانه عن الشك في كونه الحق من ربه، أو في كون كتمانهم الحق مع علمهم، وعلى الأول هو: تعريض للأمة، أي لا يكن أحد من أمته من الممترين، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في كون ذلك هو الحق من الله سبحانه.
وقد أخرج ابن ماجه عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقليب وجهه في السماء، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة، فصعد جبريل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره، وهو يصعد بين السماء، والأرض ينظر ما يأتيه به، فأنزل الله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل كيف حلنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟» فأنزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم}.
وأخرجه الطبراني من حديث معاذ مختصراً لكنه قال: سبعة عشر شهراً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الكبير، والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى: {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قال: قبلة إبراهيم نحو الميزاب.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن البراء في قوله: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} قال: قبله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن عليّ مثله.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، والبيهقي عن ابن عباس؛ قال: {شَطْرَهُ} نحوه.
وأخرج البيهقي، عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية قال: {شَطْرَ المسجد الحرام} تلقاءه، وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: «البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب».
وأخرج البيهقي في سننه عنه، مرفوعاً قال: «البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها، ومغاربها من أمتي».
وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} قال: أنزل ذلك في اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق} قال: يعني بذلك القبلة.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير عن أبي العالية نحوه.
وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {الذين ءاتيناهم الكتاب} قال: اليهود والنصارى: {يَعْرِفُونَهُ} أي قال: يعرفون رسول الله في كتابهم: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عنه في قوله: {يَعْرِفُونَهُ} أي: يعرفون أن البيت الحرام هو: القبلة.
وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قال: يكتمون محمداً، وهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل.
وأخرج أبو داود، في ناسخه، وابن جرير، عن أبي العالية قال: قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} يقول: لا تكوننّ في شك يا محمد أن الكعبة هي قبلتك، وكانت قبلة الأنبياء من قبلك.