فصل: تفسير الآيات (148- 152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (148- 152):

{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
قوله: {وَلِكُلّ} بحذف المضاف إليه لدلالة التنوين عليه: أي: لكل أهل دين وجهة، والوجهة فعلة من المواجهة، وفي معناها الجهة، والوجه، والمراد القبلة: أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ} إما بحق، وإما بباطل، والضمير في قوله: {هُوَ مُوَلّيهَا} راجع إلى لفظ كل. والهاء في قوله: {مُوَلّيهَا} هي: المفعول الأوّل، والمفعول الثاني محذوف أي: موليها وجهه. والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة صاحب القبلة موليها وجهه، أو لكل منكم يا أمة محمد قبلة يصلي إليها من شرق، أو غرب، أو جنوب، أو شمال إذا كان الخطاب للمسلمين، ويحتمل أن يكون الضمير لله سبحانه، وإن لم يجر له ذكر، إذ هو معلوم أن الله فاعل ذلك، والمعنى: أن لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه.
وحكى الطبري أن قوماً قرءوا: {ولكل وجهة} بالإضافة، ونسب هذه القراءة أبو عمرو الداني إلى ابن عباس. قال في الكشاف: والمعنى: وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى. وقرأ ابن عباس، وابن عامر: {مولاها} على ما لم يسمّ فاعله. قال الزجاج: والضمير على هذه القراءة لواحد: أي: ولكل واحد من الناس قبلة الواحد مولاها: أي: مصروف إليها. وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: إلى الخيرات على الحذف، والإيصال: أي: بادروا إلى ما أمركم الله من استقبال البيت الحرام كما يفيده السياق، وإن كان ظاهره الأمر بالاستباق إلى كل ما يصدق عليه أنه خير كما يفيده العموم المستفاد من تعريف الخيرات، والمراد من الاستباق إلى الاستقبال: الاستباق إلى الصلاة في أول وقتها. ومعنى قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله} أي: في أيّ: جهة من الجهات المختلفة تكونوا يأت بكم الله للجزاء يوم القيامة، أو يجمعكم جميعاً، ويجعل صلاتكم في الجهات المختلفة كأنها إلى جهة واحدة، وقوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} كرّر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة، وللاهتمام به، لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم، وقيل وجه التكرير أن النسخ من مظانّ الفتنة، ومواطن الشبهة، فإذا سمعوه مرّة بعد أخرى ثبتوا، واندفع ما يختلج في صدورهم، وقيل إنه كرّر هذا الحكم لتعدد علله، فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل: الأول ابتغاء مرضاته، والثانية جرى العادة الإلهية أن يولى كل أهل ملة، وصاحب دعوة جهة يستقلّ بها، والثالثة دفع حجج المخالفين، فقرن بكل علة معلولها، وقيل أراد بالأول: ولّ وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها، ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة، وغيرها، فولوا وجوهكم شطره، ثم قال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} يعني وجوب الاستقبال في الأسفار، فكان هذا أمر بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض.
وقوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} قيل معناه: لئلا يكون لليهود عليكم حجة إلا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه فعلى هذا المراد بالذين ظلموا: المعاندون من أهل الكتاب، وقيل هم مشركو العرب، وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقيل معناه: لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم قد أمرتم باستقبال الكعبة، ولستم ترونها.
وقال أبو عبيدة: إنّ إلا ها هنا بمعنى الواو: أي: والذين ظلموا، فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة ** دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وأبطل الزجاج هذا القول، وقال: إنه استثناء منقطع: أي: لكن الذين ظلموا منهم، فإنهم يحتجون، ومعناه إلا من ظلم باحتجاجه، فيما قد وضح له كما تقول مالك عليّ حجة إلا أن تظلمني: أي: مالك عليّ حجة البتة، ولكنك تظلمني، وسمي ظلمه حجة؛ لأن المحتجّ بها سماه حجة، وإن كانت داحضة.
وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا، فالذين بدل من الكاف، والميم في عليكم.
ورجح ابن جرير الطبري أن الاستثناء متصل، وقال: نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في استقبالهم الكعبة، والمعنى: لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا ما ولاهم، وقالوا: إن محمداً تحير في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا أهدى منه. وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن، أو من يهوديّ، أو منافق. قال: والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة، والمجادلة، وسماها تعالى حجة، وحكم بفسادها حيث كانت من ظالم.
ورجح ابن عطية أن الاستثناء منقطع، كما قال الزجاج. قال القرطبي: وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب كأنه قال: لكن الذين ظلموا في قولهم رجع محمد إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا كله. وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} يريد الناس: أي: لا تخافوا مطاعنهم، فإنها داحضة باطلة لا تضركم. وقوله: {وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} معطوف على: {لِئَلاَّ يَكُونَ} أي: ولأن أتمّ قاله الأخفش، وقيل هو مقطوع عما قبله في موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، والتقدير: ولأتمّ نعمتي عليكم عرّفتكم قبلتي قاله الزجاج، وقيل معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم، ولأتمّ نعمتي عليكم. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل دخول الجنة. وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا} الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف. والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا قاله الفراء، ورجحه ابن عطية.
وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال، والتشبيه واقع على أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة. وقيل معنى الكلام على التقديم والتأخير: أي: فاذكروني كما أرسلنا قاله الزجاج. وقوله: {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} أمر وجوابه، وفيه معنى المجازاة. قال سعيد بن جبير: ومعنى: الآية اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، والمغفرة حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وأخرجه عنه عبد بن حميد، وابن جرير، وقد روى نحوه مرفوعاً كما سيأتي. وقوله: {واشكروا لِي} قال الفراء: شكر لك وشكرت لك. والشكر: معرفة الإحسان، والتحدّث به، وأصله في اللغة: الطهور.
وقد تقدّم الكلام فيه. وقوله: {وَلاَ تَكْفُرُونِ} نهى، ولذلك حذفت نون الجماعة، وهذه الموجودة في الفعل هي: نون المتكلم، وحذفت الياء؛ لأنها رأس آية، وإثباتها حسن في غير القرآن. والكفر هنا: ستر النعمة لا التكذيب، وقد تقدّم الكلام فيه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا} قال: يعني بذلك أهل الأديان، يقول: لكل قبلة يرضونها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: صلوا نحو بيت المقدس مرة، ونحو الكعبة مرة أخرى.
وأخرج أبو داود في ناسخه، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} يقول: لا تغلبنّ على قبلتكم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في قوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} قال: الأعمال الصالحة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} يقول: فسارعوا في الخيرات: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، من طريق السدّي، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة قال: لما صرف النبي صلى الله عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم أهدى منه سبيلاً، ويوشك أن يدخل في دينكم، فأنزل الله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى} وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} قال: يعني بذلك أهل الكتاب حين صرف نبي الله إلى الكعبة قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه، ودين قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال: حجتهم قولهم قد أحبّ قبلتنا، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، ومجاهد في قوله: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} قال: الذين ظلموا منهم مشركو قريش أنهم سيحتجون بذلك عليكم، واحتجوا على نبيّ الله بانصرافه إلى البيت الحرام، وقالوا: سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، فأنزل الله في ذلك كله: {تَكْفُرُونِ يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين} [البقرة: 153].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ} يقول: كما فعلت فاذكروني.
وأخرج أبو الشيخ، والديلمي من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} يقول: اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتي».
وأخرج الديلمي، وابن عساكر مثله مرفوعاً من حديث أبي هند الداري وزاد: «فمن ذكرني، وهو مطيع، فحق عليّ أن أذكره بمغفرتي، ومن ذكرني، وهو لي عاص، فحق عليّ أن أذكره بمقت».
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: يقول الله: ذكرى لكم خير من ذكركم لي.
وقد ورد في فضل ذكر الله على الإطلاق، وفضل الشكر أحاديث كثيرة.

.تفسير الآيات (153- 157):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
لما فرغ سبحانه من إرشاد عباده إلى ذكره، وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر، والصلاة، فإنّ من جمع بين ذكر الله، وشكره، واستعان بالصبر، والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن، فقد هُدِى إلى الصواب، ووُفِّق إلى الخير، وإن هذه المعية التي أوضحها الله بقوله: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال، وإن كانت كالجبال. وأموات، وأحياء مرتفعان على أنهما خبران لمحذوفين، أي: لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات، بل هم أحياء، ولكن لا تشعرون بهذه الحياة عند مشاهدتكم لأبدانهم، بعد سلب أرواحهم؛ لأنكم تحكمون عليها بالموت في ظاهر الأمر بحسب ما يبلغ إليه علمكم الذي هو بالنسبة إلى علم الله كما يأخذ الطائر في منقاره من ماء البحر، وليسوا كذلك في الواقع، بل هم أحياء في البرزخ. وفي الآية دليل على ثبوت عذاب القبر، ولا اعتداد بخلاف من خالف في ذلك، فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة، ودلت عليه الآيات القرآنية، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].
والبلاء أصله المحنة، ومعنى نبلوكم: نمتحنكم لنختبركم، هل تصبرون على القضاء أم لا؟ وتنكير شيء للتقليل، أي: بشيء قليل من هذه الأمور. وقرأ الضحاك: {بأشياء}. والمراد بالخوف: ما يحصل لمن يخشى من نزول ضرر به من عدوّ أو غيره، وبالجوع: المجاعة التي تحصل عند الجدب، والقحط، وبنقص الأموال: ما يحصل فيها بسبب الجوائج، وما أوجبه الله فيها من الزكاة، ونحوها. وبنقص الأنفس: الموت والقتل في الجهاد، وبنقص الثمرات: ما يصيبها من الآفات، وهو من عطف الخاص على العام، لشمول الأموال للثمرات وغيرها، وقيل: المراد بنقص الثمرات: موت الأولاد.
وقوله: {وَبَشّرِ الصابرين} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يقدر على التبشير.
وقد تقدّم معنى البشارة. والصبر أصله الحبس، ووصفهم بأنهم المسترجعون عند المصيبة؛ لأن ذلك تسليم ورضا. والمصيبة واحدة المصائب، وهي: النكبة التي يتأذّى بها الإنسان، وإن صغرت.
وقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} فيه بيان أن هذه الكلمات ملجأ للمصابين، وعصمة للممتحنين، فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث، والنشور. ومعنى الصلوات هنا: المغفرة، والثناء الحسن. قاله الزجاج. وعلى هذا، فذكر الرحمة القصد التأكيد.
وقال في الكشاف: الصلاة الرحمة، والتعطف، فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها، وبين الرحمة كقوله: {رأفة ورحمة} [الحديد: 27] {رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117، 128، النور: 20، الحشر: 20] والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة. انتهى. وقيل المراد بالرحمة: كشف الكربة، وقضاء الحاجة. و{المهتدون} قد تقدّم معناه. وإنما وصفوا هنا بذلك؛ لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع، والتسليم.
وأخرج الحاكم، والبيهقي في الدلائل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: غشي على عبد الرحمن بن عوف في وجعه غشية ظنوا أنه قد فاضت نفسه فيها، حتى قاموا من عنده، وجللُوه ثوباً، وخرجت أم كلثوم بنت عقبة امرأته إلى المسجد تستعين بما أمرت به من الصبر، والصلاة، فلبثوا ساعة، وهو في غشيته، ثم أفاق.
وأخرج ابن منده في المعرفة، عن ابن عباس قال: قتل عمير بن الحمام ببدر، وفيه وفي غيره نزلت: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: {فِى سَبِيلِ الله} في طاعة الله في قتال المشركين.
وقد وردت أحاديث أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تأكل من ثمار الجنة. فمنها عن كعب بن مالك مرفوعاً عند أحمد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه.
وروي أن أرواح الشهداء تكون على صور طيور بيض، كما أخرجه عبد الرزاق، عن قتادة قال: بلغنا، فذكر ذلك.
وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عنه أيضاً بنحوه، وروى أنها على صور طيور خضر، كما أخرجه ابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية.
وأخرجه ابن أبي شيبة في البعث، والنشور عن كعب.
وأخرجه هناد بن السَرِيِّ عن هذيل.
وأخرجه عنه عبد الرزاق في المصنف عن عبد الله بن كعب بن مالك مرفوعاً، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عطاء في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مّنَ الخوف والجوع} قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} الآية، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرهم بالصبر، وبشرهم فقال: {وَبَشّرِ الصابرين} وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتخفيف سبيل الهدى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن رجاء بن حيوة في قوله: {وَنَقْصٍ مّن الثمرات} قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة فيه إلا تمرة.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم، أن يقولوا عند المصيبة: {إنا لله وإنا إليه راجعون}» وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة.