فصل: تفسير الآيات (7- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 16):

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)}
لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول} وفي الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسموه: رسولا استهزاء وسخرية {يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} أي: ما باله يأكل الطعام كما نأكل، ويتردّد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردّد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، أو خبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة: {يَأْكُلُ} في محل نصب على الحال، وبها تتمّ فائدة الإخبار كقوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]، والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو: الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكماً واستهزاء، والمعنى: أنه إن صحّ ما يدّعيه من النبوّة، فما باله لم يخالف حاله حالنا {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} طلبوا: أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مصحوباً بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدّقه، ويشهد له بالرسالة، قرأ الجمهور: {فيكون} بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ: {فيكون} بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي، لأن المراد به المستقبل.
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على فيكون، والمعنى: أو هلا يلقى إليه كنز، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه، إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء؛ ليستغني به عن طلب الرزق {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} قرأ الجمهور: {تكون} بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش، وقتادة: {يكون} بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ: {نأكل} بالنون حمزة وعليّ وخلف، وقرأ الباقون: {يأكل} بالمثناة التحتية أي: بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه؛ ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدّم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} المراد ب {الظالمون} هنا: هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به أي: ما تتبعون إلاّ رجلاً مغلوباً على عقله بالسحر، وقيل: إذا سحر، وهي الرئة أي: بشراً له رئة لا ملكاً، وقد تقدّم بيان مثل هذا في سبحان.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي: الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه ها هنا {فَضَّلُواْ} عن الصواب فلا يجدون طريقاً إليه، ولا وصلوا إلى شيء منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء، وأقلهم تمييزاً، ولهذا قال: {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} أي: لا يجدون إلى القدح في نبوّة هذا النبيّ طريقاً من الطرق {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك} أي: تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلاً خيراً من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير، فقال: {جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}، فجنات بدل من {خيراً} {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر برفع {يجعل} على أنه مستأنف، وقد تقرّر في علم الإعراب: أن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع، فجاز أن يكون جعل ها هنا في محل جزم ورفع، فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرئ بالنصب، وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين. وقرئ بترك الإدغام؛ لأن الكلمتين منفصلتان، والقصر: البيت من الحجارة؛ لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل إليه، وقيل: هو بيت الطين، وبيوت الصوف والشعر.
ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام الذي لا يصدر عن العقلاء، فقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله. وهو تكذيبهم بالساعة، فلهذا لا ينتفعون بالدلائل، ولا يتأملون فيها. ثم ذكر سبحانه ما أعدّه لمن كذب بالساعة، فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} أي: ناراً مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال أي: بل كذبوا بالساعة، والحال أنا أعتدنا. قال أبو مسلم: {أعتدنا} أي: جعلناه عتيداً، ومعدّاً لهم {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة ل {سعيراً} لأنه مؤنث بمعنى: النار، قيل: معنى {إذا رأتهم}: إذا ظهرت لهم، فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل: المعنى: إذا رأتهم خزنتها، وقيل: إن الرؤية منها حقيقية، وكذلك التغيظ والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ}: أنها رأتهم، وهي بعيدة عنهم، قيل: بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ: أن لها صوتاً يدل على التغيظ على الكفار، أو لغليانها صوتاً يشبه صوت المغتاظ. والزفير: هو الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج: المراد: سماع ما يدل على الغيظ، وهو الصوت أي: سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ.
وقال قطرب: أراد علموا لها تغيظاً، وسمعوا زفيراً كما قال الشاعر:
متقلداً سيفاً ورمحاً

أي: وحاملاً رمحاً، وقيل: المعنى: سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين كما قال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، وفي واللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً} وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة، وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب {مُقْرِنِينَ} على الحال أي: إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرّنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل: مكتفين، وقيل: قرنوا مع الشياطين أي: قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي: في ذلك المكان الضيق {ثُبُوراً} أي: هلاكاً. قال الزجاج: وانتصابه على المصدرية أي: ثبرنا ثبوراً، وقيل: منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك، وينادونه لما حلّ بهم من البلاء، فأجيب عليهم بقوله: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} أي: فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة أي: اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك، وأعظم، كذا قال الزجاج {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} والثبور مصدر يقع على القليل والكثير، فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة ها هنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد، والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحداً، وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدّته، وعدم تناهيه، وقيل: هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل: إن المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير، لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم: الدلالة على خلود عذابهم، وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.
ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله، فقال: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} والإشارة بقوله: {ذلك} إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة أي: أتلك السعير خير أم جنة الخلد؟ وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها، وعدم انقطاعه، ومعنى {التي وُعِدَ المتقون}: التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاً، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم، أنهم يقولون: السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة؟ وقيل: ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن. كما قال:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

ثم قال سبحانه: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً} أي: كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم، ومصيراً يصيرون إليه.
{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي: ما يشاؤونه من النعيم، وضروب الملاذ كما في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31]، وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود. {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} أي: كان ما يشاؤونه، وقيل: كان الخلود، وقيل: كان الوعد المدلول عليه بقوله: {وُعِدَ المتقون} ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله: {وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8]، وقيل: المراد به: الوعد الواجب، وإن لم يسأل.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس: أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا، فسل لنفسك، وسل ربك: أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً»، فأنزل الله في ذلك {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20] أي: جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض، ومفاتيحها ما لم يعط نبيّ قبلك، ولا نعطها أحداً بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة»، فأنزل الله سبحانه: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}.
وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً»، قيل يا رسول الله: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم، أما سمعتم الله يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}».
وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشدّ بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل برّ وفاجر {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلاّ بدت، ثم تزفر الثانية، فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ} قال: «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} قال: ويلاً {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} يقول: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسندٍ صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل ما يكسي حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم حتى يقف على الناس، فيقول: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً}» وإسناد أحمد هكذا: حدّثنا عفان عن حميد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وفي عليّ بن زيد بن جدعان مقال معروف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.

.تفسير الآيات (17- 24):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الظرف منصوب بفعل مضمر أي: واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مرّ مراراً. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمرو في رواية الدوريّ: {يحشرهم} بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله في أوّل الكلام {كَانَ على رَبِّكَ} والباقون بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج، فإنه قرأ: {نحشرهم} بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، وردّه أبو حبان باستواء المضموم والمكسور إلاّ أن يشتهر أحدهما، اتبع {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير العقلاء من الأصنام والأوثان، ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيهاً على أنها جميعاً مشتركة في كونها غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتباراً بكثرة من يعبدها، وقال مجاهد، وابن جريج: المراد: الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد.
وقال الضحاك، وعكرمة، والكلبي: المراد: الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم، فإن الله سبحانه يجعلها يوم القيامة سامعة ناطقة، {فَيَقُولُ ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} قرأ ابن عامر، وأبو حيوة، وابن كثير، وحفص، {فنقول} بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في نحشرهم، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله: {ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ} للتوبيخ والتقريع، والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم وبدعوتكم لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق، والتدبر فيما يتوصل به إلى الصواب؟
وجملة: {قَالُواْ سبحانك} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، ومعنى سبحانك: التعجب مما قيل لهم لكونهم ملائكة، أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل أي: تنزيهاً لك {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء} أي: ما صح، ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع كوننا لا نعبد غيرك؟ والوليّ يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور {نتخذ} مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر: {نتخذ} مبنياً للمفعول أي: ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة، ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال أبو عبيدة: لا تجوز هذه القراءة لأن الله سبحانه ذكر {من} مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك أولياء.
وقيل: إن {من} الثانية زائدة، ثم حكي عنهم سبحانه: بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين للإيمان، فقال: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر} وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم يضلهم غيرهم، والمعنى: ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم، ومتعت آباءهم بالنعم، ووسعت عليهم الرزق، وأطلت لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك. وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ: {ينبغي} مبنياً للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة، وقيل: المراد بنسيان الذكر هنا: هو ترك الشكر {وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي: وكان هؤلاء الذين أشركوا بك، وعبدوا غيرك في قضائك الأزليّ قوماً بوراً أيْ: هلكى، مأخوذ من البوار، وهو الهلاك: يقال: رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير، ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل: البوار الفساد. يقال: بارت بضاعته أي: فسدت، وأمر بائر أي: فاسد، وهي لغة الأزد. وقيل: المعنى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار الأرض، وهو تعطيلها من الزرع، فلا يكون فيها خير، وقيل: إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت.
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} في الكلام حذف، والتقدير: فقال الله عند تبري المعبودين مخاطباً للمشركين العابدين لغير الله فقد كذبوكم أي: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون أي: في قولكم إنهم آلهة {فَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: الآلهة {صَرْفاً} أي: دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل: حيلة {وَلاَ نَصْراً} أي: ولا يستطيعون نصركم، وقيل: المعنى: فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفاً للعذاب الذي عذبهم الله به، ولا نصراً من الله، وهذا الوجه مستقيم على قراءة من قرأ: {تستطيعون} بالفوقية، وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية، وقال ابن زيد: المعنى: فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا، فمعنى {بما تقولون}: ما تقولونه من الحق، وقال أبو عبيد: المعنى: فما يستطيعون لكم صرفاً عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصراً لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور {بما تقولون} بالتاء الفوقية على الخطاب.
وحكى الفراء: أنه يجوز أن يقرأ: {فقد كذبوكم} مخففاً بما يقولون، أي: كذبوكم في قولهم، وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد، والبزي {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} هذا وعيد لكل ظالم، ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولاً أولياً، والعذاب الكبير عذاب النار، وقرئ: {يذقه} بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة.
ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله موضحاً لبطلان ما تقدّم من قوله: {يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} قال الزجاج: الجملة الواقعة بعد {إلاّ} صفة لموصوف محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله: {مِنَ المرسلين} دليلاً عليه، نظيره: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: وما منا أحد.
وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلاّ من أنهم، فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من المقدّرة، ومثله قوله تعالى: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي: إلاّ من يردها، وبه قرأ الكسائي، قال الزجاج: هذا خطأ؛ لأنّ من الموصولة لا يجوز حذفها.
وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلاّ وأنهم، فالمحذوف عنده الواو، قرأ الجمهور: {إلا إنهم} بكسر إنّ لوجود اللام في خبرها كما تقرّر في علم النحو، وهو مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلاّ أن عليّ بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: يجوز في إنّ هذه الفتح، وإن كان بعدها اللام، وأحسبه وهماً، وقرأ الجمهور: {يمشون} بفتح الياء، وسكون الميم، وتخفيف الشين. وقرأ عليّ وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشدّدة، وهي بمعنى القراءة الأولى، قال الشاعر:
أمشي بأعطان المياه وأتقي ** قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الحيّ ضامزة ** ولا تمشي بواديه الأراجيل

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} هذا الخطاب عامّ للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغنيّ فتنة للفقير، وقيل: المراد بالبعض الأوّل: كفار الأمم، وبالبعض الثاني: الرسل. ومعنى الفتنة: الابتلاء والمحنة. والأوّل أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به؛ فالمريض يقول: لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه، ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده. ونحو هذا مثله، وقيل: المراد بالآية: أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء، والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة: {أَتَصْبِرُونَ} هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره، أم لا تصبرون؟ أي: أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة، والابتلاء العظيم.
قيل: موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، ثم وعد الصابرين بقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي: بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل: معنى {أتصبرون}: اصبروا مثل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا.
{وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على {وَقَالُواْ مَّالِ هذا} أي: وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما ** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

أي: لا أبالي، وقيل: المعنى: لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ** وخالفها في بيت نوب عوامل

أي: لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل: لا يأملون، ومنه قول الشاعر:
أترجو أمة قتلت حسينا ** شفاعة جدّه يوم الحساب

والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} أي: هلا أنزلوا علينا، فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله {أَوْ نرى رَبَّنَا} عياناً، فيخبرنا بأن محمداً رسول، ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه، فقال: {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} أي: أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله: {إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه} [غافر: 56]، والعتوّ مجاوزة الحد في الطغيان، والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه، ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعدّ من المستعدّين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حدّه، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى.
وانتصاب {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} بفعل محذوف أي: واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدلّ عليه قوله: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} أي: يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فاعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى.
قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أي: ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة، حجراً محجوراً، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل: أتفعل كذا؟ فيقول: حجراً محجوراً أي: حراماً عليك التعرّض لي. وقيل: إن هذا من قول الملائكة، أي: يقولون للكفار: حراماً محرّماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر:
ألا أصبحت أسماء حجراً محرّما ** وأصبحت من أدنى حمومتها حماء

أي: أصبحت أسماء حراماً محرّماً، وقال آخر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ** حجر حرام إلاّ تلك الدهاريس

وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة، وجعلها من جملتها. {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلاّ الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقدم إلى ما معهم من المتاع، فأفسده، ولم يترك منها شيئاً، وإلاّ فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا: عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر:
وقدم الخوارج الضلال ** إلى عباد ربهم فقالوا

إن دماءكم لنا حلال

وقيل: هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء: التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان.
وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوّة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرّق متبدّد وقيل: إن الهباء: ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل: هو الماء المهراق. وقيل: الرماد. والأوّل هو الذي ثبت في لغة العرب، ونقله العارفون بها. ثم ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار، فقال: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} أي: أفضل منزلاً في الجنة {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي: موضع قائلة، وانتصاب {مستقرًّا} على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ، وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخلّ.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الآية قال: عيسى، وعزير، والملائكة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {قَوْماً بُوراً} قال: هلكى.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} قال: هو الشرك.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: يشرك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} قال: بلاء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} قال: يقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} قال: شدّة الكفر.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطية العوفيّ نحوه.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قال: عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله. وفي لفظ قال: حراماً محرّماً أن تكون البشرى في اليوم إلاّ للمؤمنين.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدري في قوله: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قال: حراماً محرّماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدّة قال: حجراً محجوراً حراماً محرّماً.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {هَبَاءً مَّنثُوراً} قال: الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوّة.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب، فلا يبقي منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو الماء المهراق.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} قال: في الغرف من الجنة.
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.