فصل: تفسير الآيات (160- 191):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (160- 191):

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)}
ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم، وهي قصة لوط.
وقد تقدّم تفسير قوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ} إلى قوله: {إِلاَّ على رَبّ العالمين} في هذه السورة، وتقدّم أيضاً تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف قوله: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} الذكران: جمع الذكر ضدّ الأنثى، ومعنى {تأتون}: تنكحون الذكران من العالمين، وهم بنو آدم، أو كل حيوان، وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدّم في الأعراف. {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم} أي: وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء، وأراد بالأزواج: جنس الإناث {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي مجاوزون للحدّ في جميع المعاصي، ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من الذكران {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط} عن الإنكار علينا، وتقبيح أمرنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} من بلدنا المنفيين عنها {قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ}، وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران {مّنَ القالين} المبغضين له، والقلي: البغض، قليته أقليه قلا، وقلاء، ومنه قول الشاعر:
فلست بمقلي الخلال ولا قالي

وقال الآخر:
ومالك عندي إن نأيت قلاء

ثم رغب عليه الصلاة والسلام عن محاورتهم، وطلب من الله عزّ وجلّ أن ينجيه، فقال: {رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي من عملهم الخبيث، أو من عقوبته التي ستصيبهم، فأجاب الله سبحانه دعاءه، وقال: {فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي أهل بيته، ومن تابعه على دينه، وأجاب دعوته {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} هي امرأة لوط، ومعنى {فِي الغابرين}: من الباقين في العذاب.
وقال أبو عبيدة: من الباقين في الهرم أي بقيت حتى هرمت. قال النحاس: يقال للذاهب غابر، وللباقي غابر. قال الشاعر:
لا تكسع الشول بأغبارها ** إنك لا تدري من الناتج

والأغبار: بقية الألبان، وتقول العرب: ما مضى، وما غبر أي: ما مضى، وما بقي {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أي أهلكناهم بالخسف، والحصب. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} يعني: الحجارة {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} المخصوص بالذمّ محذوف، والتقدير: مطرهم، وقد تقدّم تفسير: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} في هذه السورة.
{كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ليكة} بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسماً غير معرّف بأل مضافاً إليه أصحاب، وقرأ الباقون. {الأيكة} معرفاً، و{الأيكة}: الشجر الملتف، وهي الغيضة، وليكة اسم للقرية، وقيل: هما بمعنى واحد اسم للغيضة. قال القرطبي: فأما ما حكاه أبو عبيد من: أن ليكة اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله، فشيء لا يثبت، ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر؛ لأن أهل العلم جميعاً على خلافه.
قال أبو عليّ الفارسي: الأيكة تعريف أيكة، فإذا حذفت الهمزة تخفيفاً ألقيت حركتها على اللام. قال الخليل: الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} لم يقل: أخوهم كما قال في الأنبياء قبله؛ لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيباً؛ لأنه كان منهم، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف، وقد تقدم تفسير قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} إلى قوله تعالى: {إِلاَّ على رَبّ العالمين} في هذه السورة.
قوله: {أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} أي أتموا الكيل لمن أراده، وعامل به، ولا تكونوا من المخسرين: الناقصين للكيل والوزن، يقال: أخسرت الكيل والوزن: أي نقصته، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3]، ثم زاد سبحانه في البيان، فقال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} أي أعطوا الحقّ بالميزان السويّ، وقد مرّ بيان تفسير هذا في سورة سبحان، وقد قرئ: {بالقسطاس} مضموماً، ومكسوراً {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} البخس النقص، يقال: بخسه حقه: إذا نقصه، أي لا تنقصوا الناس حقوقهم التي لهم، وهذا تعميم بعد التخصيص، وقد تقدّم تفسيره في سورة هود، وتقدّم أيضاً تفسير {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} فيها، وفي غيرها {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} قرأ الجمهور بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام، وقرأ السلمي بفتح الجيم مع سكون الباء. والجبلة: الخليقة قاله مجاهد، وغيره يعني: الأمم المتقدّمة، يقال: جبل فلان على كذا أي خلق. قال النحاس: الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأوّلين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما، وبضم الجيم وفتحها وسكون الباء، قال الهروي: الجِبِلَّة والجُبْلَة والجِبِلّ والجُبُلّ لغات، وهو الجمع ذو العدد الكثير من الناس، ومنه قوله تعالى: {جِبِلاًّ كَثِيراً} [ياس: 62] أي: خلقاً كثيراً، ومن ذلك قول الشاعر:
والموت أعظم حادث ** فيما يمرّ على الجبلة

{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين * وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} قد تقدّم تفسيره مستوفى في هذه السورة. {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين}: {إن} هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدّر، واللام هي الفارقة أي فيما تدّعيه علينا من الرسالة، وقيل: هي النافية، واللام بمعنى إلاّ أي ما نظنك إلاّ من الكاذبين، والأوّل أولى. {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء} كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا، فقالوا له هذا القول نعتاً واستبعاداً وتعجيزاً. والكسف: القطعة. قال أبو عبيدة: الكسف: جمع كسفة مثل سدر وسدرة. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشيء، يقال: أعطني كسفة من ثوبك، والجمع كسف، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان.
{إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواك {قَالَ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الشرك، والمعاصي، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء، وفي هذا تهديد شديد {فَكَذَّبُوهُ}، فاستمروا على تكذيبه، وأصرّوا على ذلك {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة}، والظلة: السحاب، أقامها الله فوق رؤوسهم، فأمطرت عليهم ناراً، فهلكوا، وقد أصابهم الله بما اقترحوا؛ لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء، فقد نزل عليهم العذاب من جهتها، وأضاف العذاب إلى يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيهاً على أن لهم في ذلك اليوم عذاباً غير عذاب الظلة، كذا قيل. ثم وصف سبحانه هذا العذاب الذي أصابهم بقوله: {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لما فيه من الشدّة عليهم التي لا يقادر قدرها، وقد تقدّم تفسير قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} في هذه السورة مستوفى، فلا نعيده، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد ما لا يخفى على من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أزواجكم} قال: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه.
وأخرجا أيضاً عن قتادة: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} قال: هي امرأة لوط غبرت في عذاب الله.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد {ليكة} قال: هي الأيكة.
وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {كَذَّبَ أصحاب لْئَيْكَةِ المرسلين} قال: كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}، ولم يقل: أخوهم شعيب. لأنه لم يكن من جنسهم {أَلاَ تَتَّقُونَ}: كيف لا تتقون وقد علمتم أني رسول أمين، لا تعتبرون من هلاك مدين، وقد أهلكوا فيما يأتون؟ وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا بسنة أصحاب مدين، فقال لهم شعيب: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْئَلُكُمْ} على ما أدعوكم إليه {مِنْ أَجْرٍ} في العاجل من أموالكم إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبّ العالمين. {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} يعني: القرون الأوّلين الذي أهلكوا بالمعاصي، ولا تهلكوا مثلهم. {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} يعني من المخلوقين. {وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء} يعني: قطعاً من السماء {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} أرسل الله إليهم سموماً من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار، والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلّط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم، فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلّط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: {والجبلة الأولين}: الخلق الأوّلين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً أنه سئل عن قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} قال: بعث الله عليهم حرًّا شديداً، فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة، فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها برداً ولذة، فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال: من حدّثك من العلماء عذاب يوم الظلة، فكذبه. أقول: فما نقول له رضي الله عنه فيما حدّثنا به من ذلك مما نقلناه عنه ها هنا؟ ويمكن أن يقال: إنه لما كان هو البحر الذي علّمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم كان مختصاً بمعرفة هذا الحديث دون غيره من أهل العلم، فمن حدّث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدّثنا به، فقد وصانا بتكذيبه، لأنه قد علمه، ولم يعلمه غيره.

.تفسير الآيات (192- 227):

{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار أي وإن هذه الأخبار أو وإن القرآن، وإن لم يجر له ذكر للعلم به، قيل: وهو على تقدير مضاف محذوف أي: ذو تنزيل، وأما إذا كان تنزيل بمعنى منزل فلا حاجة إلى تقدير مضاف قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم: {نَزَّلَ} مخففاً، وقرأه الباقون مشدّداً، و{والروح الأمين} على القراءة الثانية منصوب على أنه مفعول به، وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد، والروح الأمين جبريل، كما في قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} [البقرة: 97]، ومعنى {على قَلْبِكَ}: أنه تلاه على قلبه، ووجه تخصيص القلب، لأنه أوّل مدرك من الحواس الباطنة. قال أبو حيان: إن {على قلبك}، ولتكون متعلقان بنزل، وقيل: يجوز أن يتعلقا بتنزيل، والأوّل أولى، وقرئ: {نزّل} مشدّداً مبنياً للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعاً على النيابة {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} علة للإنزال أي أنزله لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات. {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} متعلق بالمنذرين أي لتكون من المنذرين بهذا اللسان، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلاً من {به}، وقيل: متعلق بنزل، وإنما أخر للاعتناء بذكر الإنذار، وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربياً بلسان الرسول العربي لئلا يقول مشركو العرب: لسنا نفهم ما تقوله بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم وأزاح علتهم ودفع معذرتهم.
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} أي إن هذا القرآن باعتبار أحكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأوّلين من الأنبياء، والزبر: الكتب، الواحد زبور، وقد تقدّم الكلام على تفسير مثل هذا. وقيل: الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد بكون القرآن في زبر الأوّلين: أنه مذكور فيها هو نفسه، لا ما اشتمل عليه من الأحكام، والأوّل أولى. {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل} الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر كما تقدّم مراراً، والآية العلامة والدلالة أي ألم يكن لهؤلاء علامة دالة على أن القرآن حق، وأنه تنزيل ربّ العالمين. وأنه في زبر الأوّلين، {أن يعلمه علماء بني إسرائيل} على العموم، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدّقونهم. قرأ ابن عامر {تكن} بالفوقية، {وآية} بالرفع على أنها اسم كان، وخبرها أن يعلمه إلخ، ويجوز أن تكون تامة، وقرأ الباقون: {يكن} بالتحتية، و{آية} بالنصب على أنها خبر {يكن}، واسمها {أن يعلمه} إلخ، قال الزجاج: {أن يعلمه} اسم {يكن}، و{آية} خبره.
والمعنى: أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمداً نبيّ حقّ علامة ودلالة على نبوّته؛ لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم، وكذا قال الفراء، ووجها قراءة الرفع بما ذكرنا. وفي قراءة ابن عامر نظر، لأن جعل النكرة اسماً، والمعرفة خبراً غير سائغ، وإن ورد شاذاً في مثل قول الشاعر:
فلا يك موقف منك الوداعا

وقول الآخر:
وكان مزاجها عسل وماء

ولا وجه لما قيل: إن النكرة قد تخصصت بقولهم: {لَهُمْ} لأنه في محل نصب على الحال والحال صفة في المعنى؛ فأحسن ما يقال في التوجيه: ما قدّمنا ذكره من أن {يكن} تامة {وَلَوْ نزلناه على بَعْضِ الأعجمين} أي لو نزلنا القرآن على الصفة التي هو عليها على رجل من الأعجمين الذي لا يقدرون على التكلم بالعربية. {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} قراءة صحيحة {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجميّ للكلام العربيّ إلى إعجاز القرآن. وقيل: المعنى: ولو نزّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم، فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به، وقالوا: ما نفقه هذا، ولا نفهمه، ومثل هذا قوله: {وَلَوْ جعلناه قُرْءَاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته} [فصلت: 44] يقال: رجل أعجم، وأعجميّ: إذا كان غير فصيح اللسان، وإن كان عربياً، ورجل عجمي: إذا كان أصله من العجم، وإن كان فصيحاً، إلاّ أن الفراء أجاز أن يقال: رجل عجميّ بمعنى أعجميّ، وقرأ الحسن: {على بعض الأعجميين}، وكذلك قرأ الجحدري. قال أبو الفتح بن جني: أصل الأعجمين: الأعجميين، ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلاً عليها.
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} أي مثل ذلك السلك سلكناه أي أدخلناه في قلوبهم: يعني: القرآن حتى فهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه معجز.
وقال الحسن وغيره: سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين.
وقال عكرمة: سلكنا القسوة، والأوّل أولى، لأن السياق في القرآن، وجملة: {لاَ يُؤْمِنُونَ} تحتمل وجهين: الأوّل: الاستئناف على جهة البيان والإيضاح لما قبلها. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمير في {سلكناه}، ويجوز أن يكون حالاً من {المجرمين}. وأجاز الفراء الجزم في {لا يؤمنون}، لأن فيه معنى الشرط، والمجازاة، وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت {لا} موضع {كيلا} مثل هذا ربما جزمت ما بعدها، وربما رفعت، فتقول: ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم؛ لأن معناه: إن لم أربطه ينفلت، وأنشد لبعض بني عقيل:
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ** مساكنه لا يقرف الشر قارف

بالرفع، ومن الجزم قول الآخر:
لطال ما حللتماها لا ترد ** فخلياها والسجال تبترد

قال النحاس: وهذا كله في {لا يؤمنون} خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي لا يؤمنون إلى هذه الغاية، وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم: {فَيَأْتِيَهُم} العذاب {بَغْتَةً} أي: فجأة والحال أنهم {لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه، وقرأ الحسن: {فتأتيهم} بالفوقية: أي الساعة، وإن لم يتقدّم لها ذكر، لكنه قد دلّ العذاب عليها. {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي مؤخرون، وممهلون، قالوا هذا تحسراً على ما فات من الإيمان، وتمنيا للرجعة إلى الدنيا، لاستدراك ما فرط منهم. وقيل: إن المراد بقولهم: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}: الاستعجال للعذاب على طريقة الاستهزاء لقوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}، ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر، فإن معنى {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}: طلب النظرة والإمهال، وأما قوله: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فالمراد به: الردّ عليهم، والإنكار لما وقع منهم من قولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70] {أَفَرَأَيْتَ إِن متعناهم سِنِينَ} الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر يناسب المقام كما مرّ في غير موضع، ومعنى أرأيت: أخبرني، والخطاب لكل من يصلح له أي أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة، وطوّلنا لهم الأعمار {ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من العذاب، والهلاك {مَا أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ}: {ما} هي الاستفهامية، والمعنى أي شيء أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل، و{ما} في {مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} يجوز أن تكون المصدرية، ويجوز أن تكون الموصولة، والاستفهام للإنكار التقريري، ويجوز أن تكون {ما} الأولى نافية، والمفعول محذوف أي لم يغن عنهم تمتيعهم شيئاً، وقرئ: {يمتعون} بإسكان الميم، وتخفيف التاء من أمتع الله زيداً بكذا {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ}: {من} مزيدة للتأكيد أي وما أهلكنا قرية من القرى إلاّ لها منذرون. وجملة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} يجوز أن تكون صفة لقرية، ويجوز أن تكون حالاً منها، وسوّغ ذلك سبق النفي، والمعنى: ما أهلكنا قرية من القرى إلاّ بعد الإنذار إليهم، والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقوله: {ذِكْرِى} بمعنى تذكرة، وهي في محل نصب على العلة أو المصدرية.
وقال الكسائي: {ذكرى} في موضع نصب على الحال.
وقال الفراء، والزجاج: إنها في موضع نصب على المصدرية أي: يذكرون ذكرى. قال النحاس: وهذا قول صحيح، لأن معنى {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ}: إلا لها مذكرون. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي إنذارنا ذكرى، أو ذلك ذكرى. قال ابن الأنباري: المعنى: هي ذكرى، أو يذكرهم ذكرى، وقد رجح الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف {وَمَا كُنَّا ظالمين} في تعذيبهم، فقد قدّمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم.
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} أي: بالقرآن، وهذا ردّ لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} ذلك، ولا يصح منهم {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ما نسبه الكفار إليهم أصلاً {إِنَّهُمْ عَنِ السمع} للقرآن، أو لكلام الملائكة {لَمَعْزُولُونَ} محجوبون مرجومون بالشهب. وقرأ الحسن وابن السميفع والأعمش: {وما تنزلت به الشياطون} بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين. قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا من غلط العلماء، وإنما يكون بشبهة لما رأى الحسن في آخره ياء ونوناً، وهو في موضع رفع؛ اشتبه عليه بالجمع السالم، فغلط. قال الفراء: غلط الشيخ يعني: الحسن، فقيل: ذلك للنضر بن شميل، فقال: إن جاز أن يحتجّ بقول رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بذلك إلاّ وقد سمعا فيه شيئاً.
وقال المؤرّج: إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. قال يونس بن حبيب: سمعت أعرابياً يقول: دخلنا بساتين من ورائها بساتون.
ثم لما قرّر سبحانه حقية القرآن، وأنه منزّل من عنده أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده فقال: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المعذبين}، وخطاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا مع كونه منزّهاً عنه معصوماً منه لحثّ العباد على التوحيد، ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال: أنت أكرم الخلق عليّ، وأعزّهم عندي، ولو اتخذت معي إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} خص الأقربين؛ لأن الاهتمام بشأنهم أولى، وهدايتهم إلى الحق أقدم. قيل: هم قريش، وقيل: بنو عبد مناف، وقيل: بنو هاشم.
وقد ثبت في الصحيح: أن هذه الآية لما نزلت دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا فعمّ وخص، فذلك منه صلى الله عليه وسلم بيان للعشيرة الأقربين، وسيأتي بيان ذلك. {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة. والمعنى: ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين، وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم. {فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك، ولم يتبعوك {فَقُلْ إِنّي بَرِيء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي من عملكم، أو من الذي تعملونه، وهذا يدلّ على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدّقون باللسان، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه، ولا يخالفونه.
ثم بيّن له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال: {فَتَوَكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} أي: فوّض أمورك إليه، فإنه القادر على قهر الأعداء، وهو: الرحيم للأولياء، قرأ نافع، وابن عامر: {فتوكل} بالفاء.
وقرأ الباقون {وتوكل} بالواو، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتباً عليه، وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفاً على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب. {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعاً وساجداً وقائماً، كذا قال أكثر المفسرين. وقيل: يراك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة. وقيل: المراد بقوله: {يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} قيامه إلى التهجد، وقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} يريد: تردّدك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة، وتقلب بصرك فيهم، كذا قال مجاهد. {إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله: {العليم} به.
ثم أكّد سبحانه معنى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين}، وبينه، فقال: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} أي على من تتنزّل، فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزّل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. {تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}. والأفاك: الكثير الإفك، والأثيم: كثير الإثم، والمراد بهم: كل من كان كاهناً، فإن الشياطين كانت تسترق السمع، ثم يأتون إليهم، فيلقونه إليهم، وهو معنى قوله: {يُلْقُونَ السمع} أي: ما يسمعونه مما يسترقونه، فتكون جملة: {يُلْقُونَ السمع} على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال أي: حال كون الشياطين ملقين السمع أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان. ويجوز أن يكون المعنى: إن الشياطين يلقون السمع أي: ينصتون إلى الملأ الأعلى؛ ليسترقوا منهم شيئاً، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأوّل المسموع، وعلى الوجه الثاني: نفس حاسة السمع. ويجوز أن تكون جملة: {يُلْقُونَ السمع} راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة، أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء: أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث، وجملة: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} راجعة إلى كل أفاك أثيم أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيراً من أكاذيبهم المختلقة، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين إلى الناس، ويجوز أن تكون جملة: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} راجعة إلى الشياطين أي: وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه؛ فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيراً من الكذب، وقد قيل: كيف يصح على الوجه الأوّل وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعاً بالإفك.
وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطلق إلاّ بالكذب. فالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أنه قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام ردّ ما كان يزعمه المشركون من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب، ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ الصدق، فكيف يكون كما زعموا؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبيّ المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوّذ منهم.
ثم لما كان قد قال قائل من المشركين: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم شاعر، بيّن سبحانه حال الشعراء، ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} والمعنى: أن الشعراء يتبعهم، أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون أي الضالون عن الحق، والشعراء: جمع شاعر، والغاوون: جمع غاوٍ، وهم ضُلال الجن والإنس. وقيل: الزائلون عن الحق. وقيل: الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز، وقيل: المراد شعراء الكفار خاصة. قرأ الجمهور: {والشعراء} بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر: {الشعراء} بالنصب على الاشتغال، وقرأ نافع وشيبة، والحسن والسلمي: {يتبعهم} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد. ثم بيّن سبحانه قبائح شعراء الباطل، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ}، والجملة مقرّرة لما قبلها، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيماً، وهيماناً: إذا ذهب على وجهه أي ألم تر أنهم في كل فنّ من فنون الكذب يخوضون، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون؟ فتارة يمزّقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع، ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق، ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرّمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة، ثم قال سبحانه: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير، ولا يفعلونه، وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشرّ ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهنّ كذا وكذا، وذلك كذب محض، وافتراء بحت.
ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحرّي الحق والصدق، فقال: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي دخلوا في حزب المؤمنين، وعملوا بأعمالهم الصالحة، {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} في أشعارهم {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} كمن يهجو منهم من هجاء، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم، ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة، كما يقع ذلك كثيراً من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله، المنتصرين لدينه، القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام، فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب.
وقد وردت أحاديث في ذمه وذمّ الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته، وتجويزه، والكلام في تحقيق ذلك يطول، وسنذكر في آخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث.
ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله، فقال: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، فإن في قوله: {سيعلم} تهويلاً عظيماً، وتهديداً شديداً، وكذا في إطلاق {الذين ظلموا} وإبهام {أيّ منقلب ينقلبون}، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء، ولا وجه لذلك، فإن الاعتبار بعموم اللفظ، وقوله: {أَيَّ مُنقَلَبٍ} صفة لمصدر محذوف أي ينقلبون منقلباً أيّ منقلب، وقدّم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه {سيعلم}؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه. وقرأ ابن عباس والحسن: {أيّ منفلت ينفلتون} بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية، وقرأ الباقون بالقاف، والباء من الانقلاب بالنون والقاف والموحدة، والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله، والانفكاك منه، ولا يقدرون على ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} قال: هذا القرآن {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} قال: جبريل.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} قال: جبريل.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {الروح الأمين} قال: «الروح الأمين: جبريل، رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس».
وأخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ} قال: بلسان قريش ولو كان غير عربيّ ما فهموه.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن بريدة في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ} قال: بلسان جرهم.
وأخرج مثله أيضاً عنه ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد، فقال لهم الله: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إسراءيل}.
وأخرج البخاري، مسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وعمّ وخص فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، يا معشر بني كعب بن لؤيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، يا معشر بني كعب بن لؤيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، يا معشر بني قصيّ أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعاً، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرّاً ولا نفعاً، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرًّا ولا نفعاً إلاّ أن لكم رحماً وسأبلها ببلالها» وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} قال: للصلاة.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} يقول: قيامك، وركوعك، وسجودك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} قال: يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. ومنه الحديث في الصحيحين، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل ترون قبلتي ها هنا؟ فوالله ما يخفى عليّ خشوعكم، ولا ركوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري».
وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} قال: من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجت نبياً.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عنه في الآية نحوه.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت: سأل أناس النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكهان قال: «إنهم ليسوا بشيء»، قالوا: يا رسول الله إنهم يحدّثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ قال: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة»، وفي لفظ للبخاري: «فيزيدون معها مائة كذبة».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وكان مع كلّ واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء، فأنزل الله: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} الآيات.
وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عروة قال: لما نزلت: {والشعراء} إلى قوله: {مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ} إلى قوله: {يَنقَلِبُونَ}، وروي نحو هذا من طرق.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس {يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} قال: هم الكفار يتبعون ضلال الجنّ والإنس {فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قال: في كلّ لغو يخوضون {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} أكثر قولهم يكذبون، ثم استثنى منهم فقال: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قال: ردّوا على الكفار كانوا يهجون المؤمنين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً: {والشعراء} قال: المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبيّ صلى الله عليه وسلم {يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} قال: غواة الجنّ في كلّ واد يهيمون في كلّ فنّ من الكلام يأخذون. ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين ءامَنُواْ} الآية، يعني: حسان بن ثابت وعبد الله ابن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهجاء المشركين.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه: {الغاوون} قال: هم الرواة.
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضاً: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ} الآية قال: أبو بكر وعمر وعليّ وعبد الله بن رواحة.
وأخرج أحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك؛ أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عرض شاعر ينشد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً».
وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعاً: «الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعراً يتغنى به الحور العين لأزواجهنّ في الجنة، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر لحكمة» قال: وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا: إنا نقول الشعر، وقد نزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرؤوا}، فقرؤوا: {والشعراء} إلى قوله: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فقال: «أنتم هم» {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} فقال: «أنتم هم» {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} فقال: «أنتم هم».
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «اهج المشركين، فإن جبريل معك».
وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال: قيل: يا رسول الله، إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك، فقام ابن رواحة فقال: يا رسول الله، ائذن لي فيه، فقال: «أنت الذي تقول ثبت الله؟» فقال: نعم يا رسول، قلت:
ثبت الله ما أعطاك من حسن ** تثبيت موسى ونصراً مثل ما نصرا

قال: «وأنت، ففعل الله بك مثل ذلك»، ثم وثب كعب فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه؟ فقال: «أنت الذي تقول همت؟» قال: نعم يا رسول الله، قلت:
همت سخينة أن تغالب ربها ** فلتغلبنّ مغالب الغلاب

فقال: «أما إن الله لم ينس ذلك لك»، ثم قام حسان، فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه، وأخرج لساناً له أسود، فقال: يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد، ائذن لي فيه، فقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدّثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك».
وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال: مرّ عمر بحسان وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، فسكت، ثم التفت حسان إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟» قال: نعم.
وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكماً».
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حكماً، ومن البيان سحراً».
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً» وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً» قال في الصحاح: وروى القيح جوفه يريه، وريا: إذا أكله، قال القرطبي: روى إسماعيل بن عَيَّاش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسن الشعر كحسن الكلام، وقبيح الشعر كقبيح الكلام» قال القرطبي: رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح، فيما قال يحيى بن معين، وغيره. قال: وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام».
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟» قلت: نعم. قال: «هيه»، فأنشدته بيتاً، فقال: «هيه»، ثم أنشدته بيتاً، فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} قال: هؤلاء الذين يخربون البيت.