فصل: تفسير الآيات (27- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 40):

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
جملة {قَالَ سَنَنظُرُ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر أي قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا به من هذه القصة {أَصَدَقْتَ} فيما قلت {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول {سننظر}، وأم هي المتصلة، وقوله: {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} أبلغ من قوله: أم كذبت؛ لأن المعنى: من الذين اتصفوا بالكذب، وصار خلقاً لهم. والنظر: هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار، والكشف عن الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليداً لهم واعتماداً عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه. ثم بيّن سليمان هذا النظر الذي وعد به فقال: {اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} أي إلى أهل سبأ. قال الزجاج: في {ألقه} خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء وإثبات الواو، وبحذف الواو وإثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء.
وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظاً، وحذفها مع كسر الهاء. وقرأ الباقون بإثبات الياء في اللفظ. وقوله: {بّكِتَابِي هذا} يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب، وأن يكون بدلاً منه، وأن يكون بياناً له، وخصّ الهدهد بإرساله بالكتاب؛ لأنه المخبر بالقصة، ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه أهلاً للرسالة {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحّ عنهم، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسول الملوك، والمراد: التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع، وقيل: معنى التولي: الرجوع إليه، والأوّل أولى لقوله: {فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول وما يتراجعونه بينهم من الكلام.
{قَالَتْ} أي: بلقيس {ياأيها الملأ إِنّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد، فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ إلخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها، فعظمته إجلالاً لسليمان، وقيل: وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل: وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوماً بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعاً.
ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب، فقالت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} أي: وإن ما اشتمل عليه من الكلام، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية، وبعد التسمية {أَن لا تَعْلُواْ عَلَيَّ} أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، و{أن} هي المفسرة، وقيل: مصدرية، ولا ناهية، وقيل: نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أن لا تعلوا.
قرأ الجمهور: {إنه من سليمان وإنه} بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجرّ، وقرأ أبيّ: {إن من سليمان وإن بسم الله} بحذف الضميرين، وإسكان النونين على أنهما مفسرتان، وقرأ عبد الله بن مسعود: {وإنه من سليمان} بزيادة الواو، وروي ذلك أيضاً عن أبيّ، وقرأ أشهب العقيلي وابن السميفع: {أن لا تغلوا} بالغين المعجمة من الغلوّ، وهو تجاوز الحدّ في الكبر {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين للدين مؤمنين بما جئت به.
{قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي} الملأ: أشراف القوم، والمعنى: يا أيها الأشراف أشيروا علي، وبيّنوا لي الصواب في هذا الأمر، وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حلّ لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها، وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقي إليّ، يا أيها الملأ أفتوني، وكرّر {قالت} لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب، واستجلاب خواطرهم، ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، فقالت: {مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} أي ما كنت مبرمة أمراً من الأمور حتى تحضروا عندي، وتشيروا عليّ. فقولوا مجيبين لها {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في العدد والعدّة {وَأُوْلُواْ بَأْسٍ شَدِيدٍ} عند الحرب، واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا. ثم فوّضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها، وقوّة عقلها فقالوا: {والأمر إِلَيْكِ} أي موكول إلى رأيك ونظرك {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها {قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إذا دخلوا قرية من القرى خرّبوا مبانيها، وغيروا معانيها، وأتلفوا أموالها، وفرّقوا شمل أهلها {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها، وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة، وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتمّ لهم الملك، وتستحكم لهم الوطأة، وتتقرّر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت، فقال سبحانه: {وكذلك يَفْعَلُونَ} أي مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} وقف تام، فقال الله عزّ وجلّ تحقيقاً لقولها {وكذلك يَفْعَلُونَ}، وقيل: هذه الجملة من تمام كلامها، فتكون من جملة مقول قولها، وعلى القول الأوّل تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
ثم لما قدّمت لهم هذه المقدّمة، وبيّنت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت لهم وجه الرأي عندها، وصرحت لهم بصوابه، فقالت: {وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} أي إني أجرّب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكاً أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبياً لم يرضه ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين، فلا ينجينا منه إلاّ إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته؛ ولهذا قالت: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} الفاء للعطف على مرسلة، و{بم} متعلق ب {يرجع}، والمعنى: إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو ردّ فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طوّل المفسرون في ذكر هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة.
{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان، والمراد بهذا المضمر: الجنس، فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: {بم يرجع المرسلون} وقرأ عبد الله {فلما جاؤوا سليمان} أي الرسل، وجملة {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والاستفهام للاستنكار أي قال منكراً لإمدادهم له بالمال مع علوّ سلطانه وكثرة ماله. وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية، والباقون بنونين من غير إدغام، وأما الياء، فإن نافعاً وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلاً ويحذفونها وقفاً، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين.
وروي عن نافع أنه يقرأ بنون واحدة {فَمَا ءاتاني الله خَيْرٌ مّمَّا ءاتاكم} أي ما آتاني من النبوّة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص {آتاني الله} بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدّم، فقال: {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} توبيخاً لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحداً من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوّة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم، والحط عليهم.
{ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي قال سليمان للرسول: ارجع إليهم أي إلى بلقيس وقومها، خاطب المفرد ها هنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتناناً في الكلام. وقرأ عبد الله بن عباس: {ارجعوا}، وقيل: إن الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في {لنأتيهم} جواب قسم محذوف.
قال النحاس: وسمعت ابن كيسان يقول: هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذاق من النحويين؛ لأنهم يردّون الشيء إلى أصله، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن درب في العربية، ومعنى {لاَّ قِبَلَ لَهُمْ}: لا طاقة لهم بها، والجملة في محل جرّ صفة لجنود {وَلَنُخْرِجَنَّهُم} معطوف على جواب القسم، أي لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها {أَذِلَّةٍ} أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزّة، وجملة: {وَهُمْ صاغرون} في محل نصب على الحال، قيل: وهي حال مؤكدة؛ لأن الصغار هو الذلة، وقيل: إن المراد بالصغار هنا: الأسر، والاستعباد، وقيل: إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة.
ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان، وأخبر جبريل سليمان بذلك، فقال سليمان: {ياأَيُّهَا الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} أي عرش بلقيس الذي تقدّم وصفه بالعظم {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين. قيل: إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا؛ لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحلّ أخذ أموالهم بغير رضاهم. قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها وردّه إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأوّلين. وقيل: استدعاء العرش قبل وصولها؛ ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلاً على نبوّته، وقيل: أراد أن يختبر عقلها، ولهذا قَال: {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا}.... إلخ، وقيل: أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم، والقول الأوّل هو الذي عليه الأكثر.
{قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الجن أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع، وأبو السمال: {عفريه} بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق. وقرأ أبو حيان بفتح العين. والعفريت: المارد الغليظ الشديد. قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء: عفر وعفريه وعفريت.
وقال قتادة: هو الداهية، وقيل: هو رئيس الجنّ. قال ابن عطية: وقرأت فرقة: {عفر} بكسر العين جمعه على عفار، ومما ورد من أشعار العرب مطابقاً لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي:
فقال شيطان لهم عفريت ** ما لكم مكث ولا تبييت

ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ** مصوّب في سواد الليل منقضب

ومعنى قول العفريت: أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس {وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} إني لقويّ على حمله أمين على ما فيه.
قيل: اسم هذا العفريت: كودن ذكره النحاس عن وهب بن منبه، وقال السهيلي: ذكوان. وقيل: اسمه دعوان. وقيل: صخر. وقوله: {ءَاتِيكَ} فعل مضارع، وأصله ءَأتيك بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفاً. وقيل: هو اسم فاعل.
{قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال أكثر المفسرين: اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا، وهو من بني إسرائيل، وكان وزيراً لسليمان، وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. قال ابن عطية، وقالت فرقة: هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت: كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت، فقال له تحقيراً له: {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، وقيل: هو جبريل، وقيل: الخضر. والأوّل أولى.
وقد قيل: غير ذلك بما لا أصل له. والمراد بالطرف: تحريك الأجفان، وفتحها للنظر وارتداده انضمامها. وقيل: هو بمعنى المطروف، أي الشيء الذي ينظره، وقيل: هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك: افعل ذلك في لحظة. قاله مجاهد.
وقال سعيد بن جبير: إنه قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين يديه، والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء، والأول أولى هذه الأقوال. ثم الثالث {فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} قيل: في الآية حذف، والتقدير: فأذن له سليمان، فدعا الله، فأتى به، فلما رآه سليمان مستقرًّا عنده أي رأى العرش حاضراً لديه {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} الإشارة بقوله: {هذا} إلى حضور العرش، {ليبلوني} أي ليختبرني أشكره بذلك، وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوّة، أم أكفر بترك الشكر وعدم القيام به. قال الأخفش: المعنى: لينظر أأشكر أم أكفر، وقال غيره: معنى {لِيَبْلُوَنِي}: ليتعبدني، وهو مجاز، والأصل في الابتلاء الاختبار. {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}؛ لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها، والمعنى: أنه لا يرجع نفع ذلك إلاّ إلى الشاكر {وَمَن كَفَرَ} بترك الشكر {فَإِنَّ رَبّي غَنِيٌّ} عن شكره {كَرِيمٌ} في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه، وسلبه ما أعطاه منها، و{أم} في {أَمْ أَكْفُرُ} هي متصلة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {اذهب بّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} يقول: كن قريباً منهم {فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب إليها، فقرئ عليها، فإذا فيه: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}، وأخرج ابن مردويه عنه: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} قال: مختوم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب: «باسمك اللهم» حتى نزلت: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}.
وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} قال: جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها، فأجمع رأيهم ورأيها على أن يغزوه، فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت: أرسل إليهم بهدية، فإن قبلها، فهو ملك أقاتله، وإن ردّها تابعته، فهو نبيّ، فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم، فأمر الشياطين، فموّهوا ألف قصر من ذهب وفضة، فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا: ما يصنع هذا بهديتنا، وقصوره ذهب وفضة، فلما دخلوا عليه بهديتها قال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ}، ثم قال سليمان: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فقال كاتب سليمان: ارفع بصرك، فرفع بصره، فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير {قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} فنزع منه فصوصه، ومرافقه، وما كان عليه من شيء ف قيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحاً ممرّداً من قوارير، وجعل فيها تماثيل السمك، فقيل لها: {ادخلي الصرح} فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر، فعند ذلك أمر بصنعة النورة فصنعت. فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} قال: إذا أخذوها عنوة أخربوها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: يقول الربّ تبارك وتعالى: {وكذلك يَفْعَلُونَ}.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} قال: أرسلت بلبنة من ذهب، فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} الآية.
وقال ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج.
وقال مجاهد: جواري لباسهن لباس الغلمان، وغلمان لباسهم لباس الجواري.
وقال عكرمة: أهدت مائتي فرس على كلّ فرس غلام وجارية، وعلى كلّ فرس لون ليس على الآخر.
وقال سعيد بن جبير: كانت الهدية جواهر، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره.
وأخرج ابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} قال: طائعين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عنه قال: اسم العفريت: صخر.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} قال: من مجلسك.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} قال: هو آصف بن برخيا، وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: في قراءة ابن مسعود: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك} قال: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى خرج إليهم.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال: قال لسليمان: انظر إلى السماء، قال: فما أطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر، عن ابن عباس قال: لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء، ولكن انشقت به الأرض، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان.