فصل: تفسير الآيات (172- 173):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (172- 173):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
قوله: {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} هذا تأكيد للأمر الأول: أعني قوله: {يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا في الأرض حلالا طَيّباً} وإنما خص المؤمنين هنا؛ لكونهم أفضل أنواع الناس. وقيل: والمراد بالأكل الانتفاع. وقيل المراد به الأكل المعتاد، وهو الظاهر. قوله: {واشكروا للَّهِ} قد تقدّم أنه يقال شكره، وشكر له يتعدى بنفسه، وبالحرف. وقوله: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي: تخصونه بالعبادة كما يفيده تقدّم المفعول.
قوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} قرأ أبو جعفر: {حُرِّم} على البناء للمفعول، و{إِنَّمَا} كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب، وتنفي ما عداه.
وقد حصرت ها هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها. قوله: {الميتة} قرأ ابن أبي عبلة بالرفع، ووجه ذلك أنه يجعل (ما) في {إنما} موصولة منفصلة في الخط، والميتة وما بعدها خبر الموصول، وقراءة الجميع بالنصب. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {المِّيتة} بتشديد الياء، وقد ذكر أهل اللغة أنه يجوز في ميت التشديد والتخفيف. والميتة: ما فارقها الروح من غير ذكاة.
وقد خصص هذا العموم بمثل حديث: «أحلّ لنا ميتتان ودمان» أخرجه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عمر مرفوعاً، ومثل حديث جابر في العنبر الثابت في الصحيحين مع قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} [المائدة: 96] فالمراد بالميتة هنا ميتة البرّ لا ميتة البحر.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر حيها، وميتها.
وقال بعض أهل العلم: إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر، وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء.
وقال ابن القاسم: وأنا أتقيه، ولا أراه حراماً.
قوله: {والدم} قد اتفق العلماء على أن الدم حرام، وفي الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فيحمل المطلق على المقيد؛ لأن ما خلط باللحم غير محرم، قال القرطبي: بالإجماع.
وقد روت عائشة؛ أنها كانت تطبخ اللحم، فتعلو الصفرة على البُرْمَة من الدم، فيأكل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينكره.
قوله: {وَلَحْمَ الخنزير} ظاهر هذه الآية، والآية الأخرى أعني قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ اِلي مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام: 145] أن المحرّم إنما هو: اللحم فقط.
وقد أجمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في تفسيره وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم.
وحكى القرطبي الإجماع أيضاً على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر، فإنه تجوز الخرازة به. قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} الإهلال: رفع الصوت، يقال أهلّ بكذا، أي: رفع صوته.
قال الشاعر يصف فلاة:
تُهِلّ بالفَرْقَد رُكْبانُها ** كما يُهِلّ الراكبُ المُعتَمِر

وقال النابغة:
أو دُرةٌ صَدَفِيةٌ غَوّاصُها ** بَهِجٌ مَتَى يرها يُهِلّ ويَسجُد

ومنه إهلال الصبيّ، واستهلاله، وهو: صياحه عند ولادته. والمراد هنا: ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزّى، إذا كان الذابح، وثنياً، والنار إذا كان الذابح مجوسياً. ولا خلاف في تحريم هذا، وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهلّ به لغير الله، ولا فرق بينه، وبين الذبح للوثن.
قوله: {فَمَنِ اضطر} قرئ بضم النون للاتباع، وبكسرها على الأصل في التقاء الساكنين، وفيه إضمار. أي: فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرمات. وقرأ ابن محيصن بإدغام الضاد في الطاء. وقرأ أبو السماك بكسر الطاء. والمراد مَنْ صيَّره الجوع، والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة. قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} نصب على الحال. قيل المراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته، والعادي: من يأكل هذه المحرمات، وهو يجد عنها مندوحة، وقيل: غير باغٍ على المسلمين، وعادٍ عليهم، فيدخل في الباغي، والعادي قطاع الطريق، والخارج على السلطان، وقاطع الرحم، ونحوهم، وقيل المراد غير باغٍ على مضطرٍّ آخر، ولا عادٍ سدَّ الجوعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} قال: من الحلال.
وأخرج ابن سعد، عن عمر بن عبد العزيز، أن المراد بما في الآية: طيب الكسب؛ لا طيب الطعام.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك: أنها حلال الرزق.
وأخرج أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين» فقال: {يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} [البقرة: 172] «ثم ذكر الرجلَ يطيل السفر أشعث أغبر يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له».
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أُهِلَّ} قال: ذبح.
وأخرج ابن جرير، عنه قال: {مَا أَهْل بِهِ} للطواغيت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: ما ذبح لغير الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية. قال: ما ذكر عليه اسم غير الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} يقول: من أكل شيئاً من هذه، وهو مضطرّ، فلا حرج، ومن أكله، وهو غير مضطرّ، فقد بَغَى، واعتدى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} قال: في الميتة {وَلاَ عَادٍ} قال: في الأكل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قال: غير باغ على المسلمين، ولا مُعْتَد عليهم، فمن خرج يقطع الرحم، أو يقطع السبيل، أو يفسد في الأرض، أو مفارقاً للجماعة، والأئمة، أو خرج في معصية الله، فاضطرّ إلى الميتة لم تحلّ له.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: العادي الذي يقطع الطريق. وقوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} يعني في أكله {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أكل من الحرام، رحيم به إذ أحلّ له الحرام في الاضطرار.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} في أكله، ولا عادٍ يتعدى الحلال إلى الحرام، وهو يجد عنه بُلْغَةً، ومندوحة.

.تفسير الآيات (174- 176):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
قوله: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} قيل: المراد بهذه الآية: علماء اليهود؛ لأنهم كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم. والاشتراء هنا: الاستبدال، وقد تقدّم تحقيقه، وسماه قليلاً؛ لانقطاع مدّته وسوء عاقبته، وهذا السبب، وإن كان خاصاً، فالاعتبار بعموم اللفظ، وهو يشمل كل من كتم ما شرعه الله، وأخذ عليه الرشا، وذكر البطون دلالة، وتأكيداً أن هذا الأكل حقيقة، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل: أكل فلان أرضى، ونحوه، وقال في الكشاف: إن معنى: {فِي بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم: قال: يقول: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه. انتهى.
وقوله: {إِلاَّ النار} أي: أنه يوجب عليهم عذاب النار، فسمى ما أكلوه ناراً؛ لأنه يؤول بهم إليها، هكذا قال أكثر المفسرين، وقيل إنهم يعاقبون على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، ومثله قوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} فيه كناية عن حلول غضب الله عليهم، وعدم الرضا عنهم، يقال فلان لا يكلم فلاناً: إذا غضب عليه.
وقال ابن جرير الطبري: المعنى: ولا يكلمهم بما يحبونه لا بما يكرهونه. كقوله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقوله: {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} معناه: لا يثنى عليهم خيراً. قاله الزجاج. وقيل معناه: لا يصلح أعمالهم الخبيثة، فيطهرهم.
وقوله: {اشتروا الضلالة بالهدى} قد تقدّم تحقيق معناه. وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} ذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب، والمراد: تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب الموجبة لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم.
وحكى الزجاج أن المعنى: ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلاناً على الحبس، أي: ما أبقاه فيه، وقيل المعنى: ما أقلّ جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً.
وقال الكسائي وقُطْرُب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار. وقيل: (ما) استفهامية، ومعناه التوبيخ: أي أيّ شيء أصبرهم على عمل النار. قاله ابن عباس، والسدي، وعطاء، وأبو عبيدة.
{ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} الإشارة باسم الإشارة إلى الأمر، أي: ذلك الأمر، وهو العذاب. قاله الزجاج.
وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف، والتقدير: ذلك معلوم. والمراد بالكتاب هنا: القرآن، {بالحق} أي: بالصدق. وقيل بالحجة. وقوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا في الكتاب} قيل: المراد بالكتاب هنا التوراة، فادّعى النصارى أن فيها صفة عيسى، وأنكرهم اليهود، وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها. وقيل: المراد: القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم هو سحر، وبعضهم يقول: هو أساطير الأوّلين، وبعضهم يقول غير ذلك.
{لَفِى شِقَاقٍ} أي: خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق، وقد تقدم معنى الشقاق.
وقد أخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله} قال: نزلت في يهود.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعاً قليلاً.
وأخرج ابن جرير، أيضاً عن أبي العالية نحوه.
وأخرج الثعلبي، عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال: اختاروا الضلالة على الهدى، والعذاب على المغفرة {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} قال: ما أجرأهم على عمل النار، وأخرج سعيد بن منصور، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} قال: ما أعملهم بأعمال أهل النار.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن في قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} قال: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن يقول: ما أجرأهم على النار.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة ونحوه.
وأخرج ابن جرير أيضاً عن السدي في الآية قال: هذا على وجه الاستفهام، يقول: ما الذي أصبرهم على النار؟ وقوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا في الكتاب} قال: هم اليهود والنصارى {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} قال: في عداوة بعيدة.

.تفسير الآية رقم (177):

{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
قوله: {لَّيْسَ البر} قرأ حمزة، وحفص بالنصب على أنه خبر ليس، والاسم: {أَن تُوَلُّواْ} وقرأ الباقون بالرفع على أنه الاسم. قيل: إن هذه الآية نزلت للردّ على اليهود، والنصارى، لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وقيل: إن سبب نزولها أنه سأل رسول الله سائل، وسيأتي ذلك آخر البحث إن شاء الله. وقوله: {قِبَلَ المشرق والمغرب} قيل: أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى؛ لأنهم يستقبلون مطلع الشمس، وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود؛ لأنهم يستقبلون بيت المقدس، وهو: في جهة الغرب منهم إذ ذاك. وقوله: {ولكن البر} هو: اسم جامع للخير، وخبره محذوف تقديره: برّ من آمن. قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقيل: إن التقدير: ولكن ذو البر من آمن، ووجه هذا التقدير: الفرار عن الإخبار باسم العين عن اسم المعنى، ويجوز أن يكون البرّ بمعنى البار، وهو يطلق المصدر على اسم الفاعل كثيراً، ومنه في التنزيل: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي: غائراً، وهذا اختيار أبي عبيدة. والمراد بالكتاب هنا: الجنس، أو القرآن، والضمير في قوله: {على حُبّهِ} راجع إلى المال، وقيل: راجع إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله: {وآتى المال} وقيل: إنه راجع إلى الله سبحانه، أي: على حبّ الله، والمعنى على الأوّل: أنه أعطى المال، وهو يحبه، ويشح به، ومنه قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] والمعنى على الثاني: أنه يحب إيتاء المال، وتطيب به نفسه، والمعنى على الثالث: أنه أعطى من تضمنته الآية في حبّ الله عزّ وجلّ؛ لا لغرض آخر، وهو مثل قوله: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ} [الإنسان: 8] ومثله قول زهير:
إن الكريم على علاته هرم

وقدّم {ذوي القربى} لكون دفع المال إليهم صدقة، وصلة إذا كانوا فقراء، وهكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى، لعدم قدرتهم على الكسب. والمسكين: الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئاً. {وابن السبيل} المسافر المنقطع، وجعل ابناً للسبيل؛ لملازمته له. وقوله: {وَفِي الرقاب} أي: في معاونة الأرقاء الذين كاتبهم المالكون لهم، وقيل: المراد شراء الرقاب، وإعتاقها، وقيل: المراد فكّ الأسارى. وقوله: {وَاتى الزكواة} فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوّع، لا صدقة الفريضة. وقوله: {والموفون} قيل: هو: معطوف على {من آمن} كأنه قيل: ولكن البرّ المؤمنون والموفون. قاله الفراء، والأخفش. وقيل: هو مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف. وقيل: هو: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم الموفون. وقيل: إنه معطوف على الضمير في آمن، وأنكره أبو عليّ، وقال: ليس المعنى عليه.
وقوله: {والصابرين} منصوب على المدح كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] ومنه ما أنشده أبو عبيدة:
لا يَبْعَدن قَومْي الذين هُمُ ** سَمُّ العُدَاةِ وآفةُ الجزُرِ

النازِلِين بِكلَ مَعْركَةٍ ** والطيبين مَعاقد الأزر

وقال الكسائي: هو: معطوف على ذوي القربى، كأنه قال: وآتي الصابرين.
وقال النحاس: إنه خطأ. قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله: {الموفين} {والصابرين}. قال النحاس: يكونان على هذه القراءة منسوقين على ذوي القربى، أو على المدح. وقرأ يعقوب والأعمش: {والموفون} {والصابرون} بالرفع فيهما. و{البأساء} الشدة والفقر، و{الضراء} المرض، والزمانة {وَحِينَ البأس} قيل: المراد وقت الحرب، والبأساء، والضراء اسمان بنيا على فَعْلاء ولا فعل لهما؛ لأنهما اسمان، وليسا بنعت. وقوله: {صَدَقُواْ} وصفهم بالصدق، والتقوى في أمورهم، والوفاء بها، وأنهم كانوا جادّين، وقيل المراد: صدقوهم القتال، والأول أولى.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذرّ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} حتى فرغ منها، ثم سأله أيضاً، فتلاها، ثم سأله، فتلاها، قال: «وإذا عملت بحسنة أحبها قلبك، وإذا عملت بسيئة أبغضها قلبك.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه، عن القاسم بن عبد الرحمن، قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: ما الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية، ثم ذكر له نحو الحديث السابق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية قال: يقول ليس البرّ أن تصلوا، ولا تعملوا، هذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، وأنزلت الفرائض.
وأخرج عنه ابن جرير، أنه قال: هذه الآية نزلت بالمدينة، يقول: ليس البرّ أن تصلوا، ولكن البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ، فأنزل الله: {لَّيْسَ البر} الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلَ المشرق، فنزلت: {لَّيْسَ البر} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: قال: يعطي، وهو صحيح شحيح يأمل العيش، ويخاف الفقر.
وأخرج عنه مرفوعاً مثله، وأخرج البيهقي في الشعب عن المطلب:؛أنه قيل: يا رسول ما آتى المال على حب؟ فكلنا نحبه. قال رسول صلى الله عليه وسلم: «تؤتيه حين تؤتيه، ونفسك تحدثك بطول العمر، والفقر».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وآتى المال على حبه} يعني على حب المال.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {ذَوِى القربى} يعني قرابته.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي في سننه من حديث سلمان بن عامر الضبي.
وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجزي عنها من الصدقة النفقة على زوجها، وأيتام في حجرها؟ «فقال: لك أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة».
وأخرج الطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح».
وأخرج أحمد، والدارمي والطبراني من حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد قال: هو الذي يمرّ بك، وهو مسافر، وأخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله: {والسائلين} قال: السائل الذي يسألك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَفِي الرقاب} قال: يعني فكّ الرقاب.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {وأقام الصلاة} يعني وأتمّ الصلاة المكتوبة، {وآتى الزكاة} يعني الزكاة المفروضة.
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، وابن جرير وابن حاتم وابن المنذر، وابن عدي، والدارقطني، وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «في المال حقّ سوى الزكاة، ثم قرأ: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ} قال: فمن أعطى عهد الله، ثم نقضه، فالله ينتقم منه، ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم غدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} يعني فيما بينهم، وبين الناس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال: {البأساء} الفقر و{الضراء} السقم و{حِينَ البأس} حين القتال.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} قال: فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية، وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله: {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} قال: تكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل، فلا شيء.