فصل: تفسير الآيات (178- 179):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (178- 179):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
قوله: {كتبُ} ِ معناه فرض، وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا ** وعَلَى الغَانِيات جَرُّ الذُّيَولِ

وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك. وقيل: إن {كتب} هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و{القصاص} أصله قص الأثر: أي: اتباعه، ومنه القاصّ؛ لأنه يتتبع الآثار، وقصّ الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل، يقصّ أثره فيها، ومنه قوله تعالى: {فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]. وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع: يقال قصصت ما بينهما: أي: قطعته.
وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد، وهم الجمهور.
وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي: وروى ذلك عن عليّ، وابن مسعود، وبه قال سعيد بن المسيب، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة والحكم بن عتيبة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} مفسر لقوله تعالى: {النفس بالنفس} وقالوا أيضاً: إن قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة.
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ويجاب عنه بأنه مجمل، والآية مبينة، ولكنه يقال: إن قوله تعالى: {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ، والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر، وهم: الكوفيون، والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {أَنَّ النفس بالنفس} لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر، وهو مبين لما يراد في الآيتين، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبو ثور.
وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة، ولا زيادة، وهو الحق.
وقد بسطنا البحث في شرح المنْتقى، فليرجع إليه.
قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ} {من} هنا عبارة عن القاتل. والمراد بالأخ المقتول، أو الوليّ، والشيء: عبارة عن الدم، والمعنى: أن القاتل، أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه، أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية، أو الأرش، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف، وليؤدِّ الجاني ما لزمه من الدية، أو الأرش إلى المجني عليه، أو إلى الوليّ أداء بإحسان. وقيل إن: {من} عبارة عن الوليّ، والأخ يراد به: القاتل، والشيء: الدية، والمعنى: أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها، أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير، بل إذا رضى الأولياء بالدية، فلا خيار للقاتل بل يلزمه تسليمها. وقيل: معنى: {عُفِى} بذل. أي: من بُذِل له شيء من الدية، فليقبل، وليتبع بالمعروف. وقيل: إن المراد بذلك: أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات، فيكون عفى بمعنى فضل، وعلى جميع التقادير، فتنكير شيء للتقليل، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة. وقوله: {فاتباع} مرتفع بفعل محذوف، أي: فليكن منه اتباع، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر اتباع، وكذا قوله: {وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} وقوله: {ذلك تَخْفِيفٌ} إشارة إلى العفو، والدية؛ أي: أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض، أو بعوض، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود، فإنه أوجب عليهم القصاص، ولا عفو، وكما ضيق على النصارى، فإنه أوجب عليهم العفو، ولا دية. قوله: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي: بعد التخفيف، نحو أن يأخذ الدية، ثم يقتل القاتل، أو يعفو، ثم يستقص.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية؟ فقال جماعة منهم مالك، والشافعي: إنه كمن قتل ابتداءً، إن شاء الوليّ قتله، وإن شاء عفا عنه.
وقال قتادة وعكرمة، والسدي وغيرهم؛ عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكِّنُ الحاكمُ الوليَّ من العفو.
وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.
وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} أي: لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كَفَّ عن القتل، وانزجر عن التسرع إليه، والوقوع فيه، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية، وهذا نوع من البلاغة بليغ، وجنس من الفصاحة رفيع، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياةً باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً، إبقاء على أنفسهم، واستدامةً لحياتهم؛ وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل؛ وأما من كان مصاباً بالحمق، والطيش، والخفة، فإنه لا ينظر عند سورة غضبه، وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة، ولا يفكر في أمر مستقبل، كما قال بعض فتاكهم:
سأَغْسِلُ عَنَّي العَارَ بِالسَيْفِ جَالباً ** عَليّ قَضَاء الله مَا كَان جَالِباً

ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص، فيكون ذلك سبباً للتقوى، وقرأ أبو الجوزاء: {ولكم في القصص حياة} قيل: أراد بالقصص القرآن: أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة، أي: نجاة، وقيل: أراد حياة القلوب، وقيل: هو مصدر بمعنى القصاص، والكل ضعيف، والقراءة به منكرة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل، وجراحات حتى قتلوا العبيد، والنساء، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة، والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن الشعبي نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فأنزل الله: {النَّفْسَ بالنفس} [المائدة: 45]، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم، في النفس، وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس، وفيما دون النفس رجالهم، ونساءهم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطَّوْل، فكأنهم طلبوا الفضل، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية: {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [المائدة: 45] قال ابن عباس: فنسختها: {النفس بالنفس} وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ} قال: هو: العمد رضي أهله بالعفو. {فاتباع بالمعروف} أمر به الطالب {وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} من القابل، قال: يؤدي المطلوب بإحسان. {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كان على بني إسرائيل.
وأخرج نحوه ابن أبي حاتم، عنه من وجه آخر.
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن الدية فيهم، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَئ} فالعفو أن تقبل الدية في العمد {فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} قيل: بعد قبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص، أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل، والعفو، والدية إن شاءوا أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصيب بقتل، أو خبلٍ، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتصّ، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن أراد الرابعة، فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك، فله نار جهنم خالداً فيها أبداً».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، أنه إذا قتل بعد أخذ الدية، فله عذاب عظيم، قال: فعليه القتل لا تقبل منه الدية. قال: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية»، وأخرج سمويه في فوائده، عن سَمُرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة أنه قال: يقتل.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} قال: جعل الله في القصاص حياة، ونكالاً، وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال: لعلك تتقي أن تقتله، فتقتل به.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {يأُوْلِي الأباب} قال: من كان له لبّ يذكر القصاص، فيحجزه خوف القصاص عن القتل {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال: لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.

.تفسير الآيات (180- 182):

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
قد تقدّم معنى: {كتب} قريباً، وحضور الموت: حضور أسبابه، وظهور علاماته، ومنه قول عنترة:
وإنَّ الموْتَ طَوعُ يَدي إذَا مَا ** وَصِلْتُ بَنَانها بالهنِدوانِي

وقال جرير:
أنَا المْوتَ الَّذي حُدِّثْتَ عَنْه ** فَلَيْس لِهَارب منِّي نَجَاةُ

وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية، وهو: {كتب} لوجود الفاصل بينهما، وقيل: لأنها بمعنى الإيصاء، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل.
وقد حكى سيبويه: قام امرأة، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش، وجهان:
أحدهما أن التقدير: إن ترك خيراً، فالوصية، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر:
مَنْ يَفْعَل الحسَنَاتِ الله يَشْكُرها ** والشَّرّ بالشرّ عِنْد اللهِ مِثلانِ

والثاني: أن جوابه مقدّر قبله: أي: كتب الوصية للوالدين، والأقربين إن ترك خيراً. واختلف أهل العلم في مقدار الخير، فقيل: ما زاد على سبعمائة دينار، وقيل: ألف دينار، وقيل ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل: عبارة عن الأمر بالشيء، والعهد به في الحياة، وبعد الموت، وهي هنا: عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت.
وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين، أو عنده وديعة، أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك، فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً، أو غنياً، وقالت طائفة: إنها واجبة،
ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين، والأقربين، فقيل: الخمس. وقيل: الربع. وقيل: الثلث.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي، وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين مَنْ لا يرث كالأبوين الكافرين، ومَنْ هو في الرقّ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة.
وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا وصية لوارث» وهو حديث صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه.
وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب، وبقي الندب، وروي عن الشعبي، والنخعي، ومالك،
قوله: {بالمعروف} أي: العدل لا وكس فيه، ولا شطط.
وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. وقوله: {حَقّاً} مصدر معناه الثبوت، والوجوب. قوله: {فَمَن بَدَّلَهُ} هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية، وكذلك الضمير في قوله: {سَمِعَهُ} والتبديل: التغيير، والضمير في قوله: {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} راجع إلى التبديل المفهوم من قوله: {بَدَّلَهُ} وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق، التي لا جَنَف فيها ولا مضارَّة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.
قال القرطبي: ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر، أو خنزير، أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر. انتهى.
والجنف: المجاوزة، من جنف يجنف: إذا جاوز، قاله النحاس، وقيل: الجنف: الميل، ومنه قول الأعشى:
تَجَانَفُ عن حجر اليمامة ناقتى ** وَمَا قَصَدتْ من أهلها لسَوائكا

قال في الصحاح: الجنف الميل، وكذا في الكشاف.
وقال لبيد:
إني امرُؤٌ مَنعتْ أرُومة عَامر ** ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عليّ خُصَومِي

وقوله: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي: أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق، والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار، ومخالفة لما شرعه الله، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث، والضمير في قوله: {بَيْنَهُمْ} راجع إلى الورثة، وإن لم يتقدم لهم ذكر؛ لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق. وقيل: راجع إلى الموصي لهم، وهم الأبوان والقرابة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} قال: مالاً.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد نحوه، وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي في سننه عن عروة، أن عليّ بن أبي طالب دخل على مولى لهم في البيت، وله سبعمائة درهم، أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال لا؟ إنما قال الله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي، عن عائشة، أن رجلاً قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا شيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن ابن عباس قال: إذا ترك الميت سبعمائة درهم، فلا يوصي.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن الزهري. قال: جعل الله الوصية حقاً مما قل منه، ومما كثر، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً، وفيه: «انظر قرابتك الذين يحتاجون، ولا يرثون، فأوص لهم من مالك بالمعروف»

وأخرجا أيضاً، عن طاوس قال: من أوصى لقوم، وسماهم، وترك ذوي قرابته. محتاجين انتزعت منهم، وردت على قرابته، وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في الناسخ، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس قال: نسخت هذه الآية.
وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم؛ أن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} الآية [النساء: 7].
وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم؛ أنها منسوخة بآية الميراث.
وأخرج عنه أبو داود في سننه، والبيهقي مثله.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: في الآية نسخ من يرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عمر؛ أنه قال: هذه الآية نسختها آية الميراث.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} الآية، قال: وقد وقع أجر الموصي على الله، وبرئ من إثمه، وقال في قوله: {جَنَفًا} يعني: إثماً {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} قال: إذا أخطأ الميت في وصيته، أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه؛ لكنه فسر الجنف بالميل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} قال: خطأ، أو عمداً.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في سننه عنه قال: الجنف في الوصية، والإضرار فيها من الكبائر.