فصل: تفسير الآيات (59- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (59- 68):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}
لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى الله عليه وسلم: بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه، فقال: {ياأيها النبي قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} {من} للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو: ثوب أكبر من الخمار. قال الجوهري: الجلباب الملحفة، وقيل: القناع، وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة، كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: «لتلبسها أختها من جلبابها»، قال الواحدي: قال المفسرون: يغطين وجوههنّ ورؤوسهنّ إلاّ عيناً واحدة، فيعلم: أنهنّ حرائر فلا يعرض لهنّ بأذى.
وقال الحسن: تغطي نصف وجهها.
وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشدّه ثم تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى إدناء الجلابيب، وهو مبتدأ وخبره {أدنى أَن يُعْرَفْنَ} أي أقرب أن يعرفن، فيتميزن عن الإماء، ويظهر للناس أنهنّ حرائر {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} من جهة أهل الريبة بالتعرض لهنّ مراقبة لهنّ، ولأهلهنّ وليس المراد بقوله: {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ} أن تعرف الواحدة منهن من هي، بل المراد: أن يعرفن أنهنّ حرائر لا إماء؛ لأنهنّ قد لبسن لبسة تختص بالحرائر {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلف منهنّ من ترك إدناء الجلابيب {رَّحِيماً} بهنّ، أو غفوراً لذنوب المذنبين رحيماً بهم، فيدخلن في ذلك دخولاً أوّلياً.
ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف، فقال: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} عما هم عليه من النفاق {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب {والمرجفون فِي المدينة} عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، والمعنى: أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب، والإرجاف على المسلمين، فهو على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة.
وقال عكرمة وشهر بن حوشب: {الذين في قلوبهم مرض} هم: الزناة. والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال: أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرًا متزلزلاً غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. يقال: رجفت الأرض، أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفاً، والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافاً لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية ** حتى تغيب الشمس في الرجاف

والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه، ومنه قول شاعر:
فإنا وإن عيرتمونا بقلة ** وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

وقول الآخر:
أبالأراجيف يابن اللوم توعدني ** وفي الأراجيف خلت اللؤم والخورا

وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم غلبوا، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي: لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً} فهذا فيه معنى: الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن، فإن قوله: {ملعونين} إلخ، إنما هو لمجرّد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم ولا تسليط لهم عليهم، وقد قيل: إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف، فلم يغره الله بهم، وجملة: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} جواب القسم، وجملة {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} معطوفة على جملة جواب القسم، أي لا يجاورونك فيها إلاّ جواراً قليلاً حتى يهلكوا، وانتصاب {مَّلْعُونِينَ} على الحال كما قال المبرد، وغيره، والمعنى: مطرودين {أَيْنَمَا} وجدوا وأدركوا {أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ} دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا {تَقْتِيلاً} وقيل: إن هذا هو الحكم فيهم، وليس بدعاء عليهم، والأوّل أولى. وقيل: معنى الآية: أنهم إن أصرّوا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلاّ وهم مطرودون.
{سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي سنّ الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وهو منتصب على المصدر. قال الزجاج: بين الله في الذين ينافقون الأنبياء، ويرجفون بهم: أن يقتلوا حيثما ثقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي تحويلاً وتغييراً، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف.
{يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة} أي عن وقت قيامها وحصولها قيل: السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون، والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعاداً، وتكذيباً {وَمَا يُدْرِيكَ} يا محمد، أي ما يعلمك ويخبرك {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي في زمان قريب، وانتصاب {قريباً} على الظرفية، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها وهو: رسول الله، فكيف بغيره من الناس؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم.

{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ} في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهنّ في الدنيا {سَعِيراً} أي ناراً شديدة التسعر {خالدين فِيهَا أَبَداً} بلا انقطاع {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يواليهم ويحفظهم من عذابها {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم ويخلصهم منها، {ويوم} في قوله: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار} ظرف لقوله: {لا يجدون}، وقيل: ل {خالدين}، وقيل: ل {نصيرا}، وقيل: لفعل مقدر، وهو: اذكر.
قرأ الجمهور: {تقلب} بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول. وقرأ عيسى الهمداني وابن أبي إسحاق {نقلب} بالنون، وكسر اللام على البناء للفاعل، وهو الله سبحانه. وقرأ عيسى أيضاً بضم التاء وكسر اللام على معنى: تقلب السعير وجوههم. وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى: تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية: هو تقلبها تارة على جهة منها، وتارة على جهة أخرى ظهراً لبطن، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسودّ تارة وتخضرّ أخرى، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى، فحينئذ {يَقُولُونَ ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} والجملة مستأنفة كأنه قيل: فما حالهم؟ فقيل: يقولون، ويجوز: أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار {ياليتنا} إلخ. تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول، وآمنوا بما جاء به؛ لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون، وهذه الألف في {الرسولا}، والألف التي ستأتي في {السبيلا} هي: الألف التي تقع في الفواصل، ويسميها النحاة ألف الإطلاق، وقد سبق بيان هذا في أوّل هذه السورة.
{وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، والمراد بالسادة والكبراء: هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدّة التعصب. وقرأ الحسن وابن عامر: {ساداتنا} بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع.
وقال مقاتل: هم: المطعمون في غزوة بدر، والأوّل أولى، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة {فَأَضَلُّونَا السبيلا} أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله، والسبيل هو: التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف، فقالوا: {رَبَّنَا ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي مثل عذابنا مرتين.
وقال قتادة: عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} قرأ الجمهور: {كثيراً} بالمثلثة، أي لعناً كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس. وقرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة، أي كبيراً في نفسه شديداً عليهم ثقيل الموقع.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين؟ قال: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت وقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. فأوحي إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: «إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ»، وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: كان نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرّضون لهن فيؤذين، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} الآية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرّض لنساء المؤمنين يؤذيهنّ، فإذا قيل له قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زيّ الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلاّ إحدى عينيها {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ} يقول: ذلك أحرى أن يعرفن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههنّ من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أمّ سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهنّ الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة، وليس لها معنى، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال: كأن على رؤوسهم الطير.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار، لما نزلت: {ياأيها النبي قُل لأزواجك} الآية. شقن مروطهن، فاعتجرن بها، وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهنّ الغربان.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرّة تلبس لباس الأمة، فأمر الله نساء المؤمنين: أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب: أن تقنع وتشدّه على جبينها.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} يعني: المنافقين بأعيانهم {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك: يعني المنافقين أيضاً.
وأخرج ابن سعد أيضاً عن عبيد بن جبير قال: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة} هم: المنافقون جميعاً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال: لنسلطنك عليهم.

.تفسير الآيات (69- 73):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}
قوله: {لاَ تَكُونُواْ كالذين ءَاذَوْاْ موسى} هو قولهم: إن به أدرة أو برصاً أو عيباً، وسيأتي بيان ذلك آخر البحث، وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شيء من الأمور التي تؤذي رسول الله. قال مقاتل: وعظ الله المؤمنين: أن لا يؤذوا محمداً صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى.
وقد وقع الخلاف فيما أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية، فحكى النقاش: أن أذيتهم محمداً قولهم: زيد بن محمد.
وقال أبو وائل: إنه صلى الله عليه وسلم قسم قسماً، فقال رجل من الأنصار: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وقيل: نزلت في قصة زيد بن حارثة، وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس، ومعنى {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً}: وكان عند الله عظيماً ذا وجاهة، الوجيه عند الله: العظيم القدر الرفيع المنزلة، وقيل: في تفسير الوجاهة: إنه كلمه تكليماً. قرأ الجمهور {وكان عند الله} بالنون على الظرفية المجازية، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة: {عبد الله} بالباء الموحدة من العبودية، و{ما} في قوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} هي: الموصولة أو المصدرية، أي من الذي قالوه، أو من قولهم.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله} أي في كل أمر من الأمور {وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أي قولاً صواباً وحقاً. قال قتادة ومقاتل: يعني: قولوا قولاً سديداً في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يحلّ.
وقال عكرمة: إن القول السديد: لا إله إلاّ الله. وقيل: هو الذي يوافق ظاهره باطنه. وقيل: هو ما أريد به وجه الله دون غيره. وقيل: هو الإصلاح بين الناس. والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولاً سديداً في جميع ما يأتونه ويذرونه فلا يخص ذلك نوعاً دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى؛ لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا قولاً يخالف قول أهل الأذى. ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال: {يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يجعلها مكفرة مغفورة {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية {فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً، ونال خير الدنيا والآخرة، وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما سبقها.
ثم لما فرغ سبحانه من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}.
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة هاهنا في قول جميع المفسرين: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. قال القرطبي: والأمانة تعمّ جميع وصائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور.
وقد اختلف في تفاصيل بعضها، فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه: أنها في كل الفرائض: وأشدها أمانة المال.
وقال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها.
وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها.
وقال ابن عمر: أوّل ما خلق الله من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانة استودعكها، فلا تلبسها إلاّ بحق، فإن حفظتها حفظتك. فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال السدّي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل، وخيانته إياه في قتله. وما أبعد هذا القول، وليت شعري ما هو الذي سوّغ للسدّي تفسير هذه الآية بهذا، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل، وليست هذه الآية حكاية عن الماضين من العباد؛ حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد، وأوهن من بيوت العنكبوت، وإن كان تفسير هذا عملاً بما تقتضيه اللغة العربية، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا، ويوجب حمل هذه الأمانة المطلقة على شيء كان في أوّل هذا العالم، وإن كان هذا تفسيراً منه بمحض الرأي، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير، واشدد يديك في تفسير كتاب الله على ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربيّ كما وصفه الله، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم من جملة العرب، ومن أهل اللغة، وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت: وما فيها؟ فقال لها: إن أحسنت آجرتك، وإن أسأت عذبتك، فقالت: لا.
قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك فقال: قد تحملتها.
وروي نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السموات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلاّ الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسراً للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى {عرضنا}: أظهرنا. قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلابد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام.
وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر عظيم، حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ} [الحشر: 21] وقيل: إن {عرضنا} بمعنى عارضنا، أي عارضنا الأمانة بالسماوات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها، وهذا أيضاً تحريف لا تفسير. ومعنى {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي التزم بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير، أو جهول بربه كما قال الحسن.
وقال الزجاج: معنى {حملها}: خان فيها، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة، وقيل: معنى {حملها}: كلفها وألزمها، أو صار مستعدًّا لها بالفطرة، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذرّ عند خروج ذرية آدم من ظهره، وأخذ الميثاق عليهم.
واللام في {لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} متعلق ب {حملها} أي حملها الإنسان ليعذّب الله العاصي ويثيب المطيع، وعلى هذا فجملة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمّله. قال مقاتل ابن سليمان، ومقاتل بن حيان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقرّوا به حين أخرجوا من ظهر آدم.
وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدّوها.
وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك، فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه، أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدلّ على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شيء مما يجب عليهم.
وقد قيل: إن المراد بالأمانة: العقل، والراجح ما قدّمنا عن الجمهور، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ولا انطباقه على ما يقتضيه الشرع ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما تستر هذا الستر إلاّ من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عزّ وجلّ أراد أن يبرئ موسى مما قالوا، فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً».
وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من حديث أنس.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {لاَ تَكُونُواْ كالذين ءَاذَوْاْ موسى} قال: قال له قومه إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع ثيابه على حجر، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عرياناً حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل فرأوه وليس بآدر فذلك قوله: {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً}.
وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أن الله أوحى إلى موسى إني متوفّ هارون، فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال: يا موسى، إني أحبّ أن أنام على هذا السرير، قال: نم عليه، قال: نم معي، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء؛ فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له، وكان هارون أألف بهم وألين، وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم! إنه كان أخي أفتروني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فاحمرّ وجهه ثم قال: «رحمة الله على موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر».
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر، ثم قال: «على مكانكم اثبتوا»، ثم أتى الرجال، فقال: «إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولاً سديداً»، ثم أتى النساء، فقال: «إن الله أمرني أن آمركنّ أن تتقين الله وأن تقلن قولاً سديد».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} الآية قال: الأمانة: الفرائض عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدّوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} يعني: غرًّا بأمر الله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب الأضداد، والحاكم وصححه عنه في الآية قال: عرضت على آدم. فقيل: خذها بما فيها فإن أطعت غفرت لك وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها، فما كان إلاّ ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الذنب.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضاً من طريق أخرى نحوه.