فصل: تفسير الآيات (50- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (50- 74):

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
قوله: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على يطاف، أي: يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير: فيقبل بعضهم على بعض، وإنما عبر عنه بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} أي: قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث، وسؤال بعضهم لبعض {إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ} أي: صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما يدلّ عليه قوله: {أَءنَّكَ لَمِنَ المصدقين} يعني: بالبعث، والجزاء، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ: ذلك المؤمن، وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا. ثم ذكر ما يدلّ على الاستبعاد للبعث عنده، وفي زعمه، فقال: {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أَءنَّا لَمَدِينُونَ} أي: مجزيون بأعمالنا، ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً، وعظاماً، وقيل: معنى مدينون: مسوسون، يقال دانه: إذا ساسه. قال سعيد بن جبير: قرينه شريكه، وقيل: أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه، وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة الكهف، والاختلاف في اسميهما، قرأ الجمهور {لمن المصدقين} بتخفيف الصاد من التصديق، أي: لمن المصدّقين بالبعث، وقرئ بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، ومعناها بعيد؛ لأنها من التصدّق لا من التصديق، ويمكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدّق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث.
وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى، والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر الألف من غير استفهام. ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى، والثالثة بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطوّلة، وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطوّلة، وعاصم، وحمزة بهمزتين.
{قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} القائل: هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا، أي: هل أنتم مطلعون إلى أهل النار؟ لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي: والاستفهام هو: بمعنى الأمر أي: اطلعوا، وقيل القائل: هو الله سبحانه، وقيل: الملائكة، والأوّل أولى {فاطلع فَرَءاهُ في سَوَاء الجحيم} أي: فاطلع على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم. قال الزجاج: سواء كل شيء وسطه. قرأ الجمهور {مطلعون} بتشديد الطاء مفتوحة، وبفتح النون، فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع.
وقرأ ابن عباس، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو {مطلعون} بسكون الطاء، وفتح النون {فأطلع} بقطع الهمزة مضمومة، وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول. قال النحاس: فأطلع فيه قولان على هذه القراءة: أحدهما: أن يكون فعلاً مستقبلاً، أي: فأطلع أنا، ويكون منصوباً على أنه جواب الاستفهام. والقول الثاني: أن يكون فعلاً ماضياً، وقرأ حماد بن أبي عمار {مطلعون} بتخفيف الطاء، وكسر النون، فاطلع مبنياً للمفعول، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم، وغيره. قال النحاس: هي: لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون، والإضافة، ولو كان مضافاً لقال: هل أنتم مطلعيّ، وإن كان سيبويه، والفراء قد حكيا مثله، وأنشدا:
هم القائلون الخير والآمرونه ** إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما

ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب {قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي: قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه، ورآه في النار: {تالله إن كدت لتردين} أي: لتهلكني بالإغواء. قال الكسائي: لتردين: لتهلكني، والردي: الهلاك. قال المبرد: لو قيل: لتردين: لتوقعني في النار لكان جائزاً. قال مقاتل: المعنى: والله لقد كدت أن تغويني، فأنزل منزلتك، والمعنى متقارب، فمن أغوى إنساناً، فقد أهلكه {وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي: لولا رحمة ربي، وإنعامه عليّ بالإسلام، وهدايتي إلى الحقّ، وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار. قال الفراء: أي: لكنت معك في النار محضراً. قال الماوردي: وأحضر لا يستعمل إلا في الشرّ. ولما تمم كلامه مع ذلك القرين، الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة، فقال: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ}، والهمزة للاستفهام التقريري، وفيها معنى: التعجيب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره، أي: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين {إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} التي كانت في الدنيا، وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج، والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً، وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} هو من تمام كلامه، أي: وما نحن بمعذبين كما يعذب الكفار. ثم قال مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم: {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} أي: إن هذا الأمر العظيم، والنعيم المقيم، والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه، وقوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} من تمام كلامه، أي: لمثل هذا العطاء، والفضل العظيم، فليعمل العاملون، فإن هذه هي التجارة الرابحة، لا العمل للدنيا الزائلة، فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع، وخيرها زائل، وصاحبها عن قريب منها راحل. وقيل: إن هذا من قول الله سبحانه، وقيل: من قول الملائكة، والأوّل أولى.
قرأ الجمهور {بميتين}، وقرأ زيد بن عليّ {بمايتين}، وانتصاب {إلا موتتنا} على المصدرية، والاستثناء مفرّغ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً. أي: لكن الموتة الأولى التي كانت في الدنيا {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} الإشارة بقوله ذلك: إلى ما ذكره من نعيم الجنة، وهو: مبتدأ، وخبره {خير}، و{نزلاً} تمييز، والنزل في اللغة: الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه، ويقيموا فيه، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. قال الزجاج: المعنى: أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً، أم نزل أهل النار، وهو قوله: {أَمْ شَجَرَةُ الزقوم}، وهو ما يكره تناوله. قال الواحدي: وهو شيء مرّ كريه يكره أهل النار على تناوله، فهم يتزقمونه، وهي على هذا مشتقة من التزقم، وهو البلع على جهد لكراهتها، ونتنها. واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، فقال قطرب: إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر.
وقال غيره: بل هو كلّ نبات قاتل. القول الثاني: أنها غير معروفة في شجر الدنيا. قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة. فأنزل الله تعالى: {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} قال الزجاج: حين افتتنوا بها، وكذبوا بوجودها. وقيل: معنى جعلها فتنة لهم: أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها، والمراد بالظالمين هنا: الكفار، أو أهل المعاصي الموجبة للنار.
ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردًّا على منكريها، فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} أي: في قعرها، قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} أي: ثمرها، وما تحمله كأنه في تناهي قبحه، وشناعة منظره رؤوس الشياطين، فشبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئيّ، للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه: كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه: كأنه ملك، كما في قوله: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، ومنه قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقال الزجاج، والفراء: الشياطين: حيات لها رءوس، وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وأخبثها، وأخفها جسماً. وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له: الأستن، ويقال له: الشيطان. قال النحاس: وليس ذلك معروفاً عند العرب. وقيل: هو شجر خشن منتن مرّ منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين. {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} أي: من الشجرة، أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم، فهذا طعامهم، وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} بعد الأكل منها {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} الشوب: الخلط.
قال الفراء: يقال: شاب طعامه، وشرابه: إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوباً وشيابة، والحميم: الماء الحارّ. فأخبر سبحانه: أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحارّ، ليكون أفظع لعذابهم، وأشنع لحالهم كما في قوله: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] قرأ الجمهور {شوباً} بفتح الشين، وهو: مصدر، وقرأ شيبان النحوي بالضم. قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى: المشوب، كالنقص بمعنى: المنقوص.
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} أي: مرجعهم بعد شرب الحميم، وأكل الزقوم إلى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل، ثم يردّون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} [الرحمن: 44]. وقيل: إن الزقوم، والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها. قال أبو عبيدة: ثم بمعنى: الواو، وقرأ ابن مسعود: {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم}، وجملة {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ} أي: وجدوا {آباءهم ضالين} تعليل لاستحقاقهم ما تقدّم ذكره، أي: صادفوهم كذلك، فاقتدوا بهم تقليداً، وضلالة لا لحجة أصلاً {فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} الإهراع: الإسراع. قال الفراء: الإهراع: الإسراع برعدة.
وقال أبو عبيدة: {يهرعون}: يستحثون من خلفهم، يقال: جاء فلان يهرع إلى النار: إذا استحثه البرد إليها.
وقال المفضل يزعجون من شدّة الإسراع. قال الزجاج: هرع، وأهرع: إذا استحثّ، وانزعج، والمعنى: يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} أي: ضلّ قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأوّلين من الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي: أرسلنا في هؤلاء الأوّلين رسلاً أنذروهم العذاب، وبينوا لهم الحقّ، فلم ينجع ذلك فيهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي: الذين أنذرتهم الرسل، فإنهم صاروا إلى النار. قال مقاتل: يقول: كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة، ثم استثنى عباده المؤمنين، فقال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان، والتوحيد، وقرئ: {المخلصين} بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا لله طاعاتهم، ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {فاطلع فَرَءاهُ في سَوَاء الجحيم} قال: اطلع، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قول الله لأهل الجنة: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] قال: {هنيئاً} أي: لا تموتون فيها، فعند ذلك قالوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} قال: هذا قول الله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثى على ركبتيه، فجعل يبكي حتى بلّ الثرى، ثم قال: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يجود بنفسه، فقال: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34، 35]، فلما سمع أبو جهل قال: من توعد يا محمد؟ قال: «إياك قال: بما توعدني؟ قال: أوعدك بالعزيز الكريم» فقال أبو جهل: أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله: {شَجَرَةُ الزقوم *طَعَامُ الأثيم} إلى قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 43-49] فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبداً، وتمراً، فقال: تزقموا من هذا، فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا، فأنزل الله: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ}.
وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً} قال: لمزجاً.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: في قوله: {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} يخالط طعامهم، ويشاب بالحميم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء، ويقيل هؤلاء أهل الجنة، وأهل النار، وقرأ: {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ} قال: وجدوا آباءهم.

.تفسير الآيات (75- 113):

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}
لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين: ذكر تفصيل بعض ما أجمله، فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} واللام هي: الموطئة للقسم، وكذا اللام في قوله: {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي: نحن، والمراد: أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه، فأجاب الله دعاءه، وأهلك قومه بالطوفان. فالنداء هنا هو: نداء الدعاء لله، والاستغاثة به، كقوله: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]، وقوله: {أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10] قال الكسائي: أي: فلنعم المجيبون له كنا {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} المراد بأهله: أهل دينه، وهم من آمن معه، وكانوا ثمانين، والكرب العظيم هو: الغرق، وقيل: تكذيب قومه له، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه، ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة، والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب، وفارس، والروم، واليهود، والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند. والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب، والترك، والخزر، ويأجوج، ومأجوج وغيرهم. وقيل: إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله: {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]، وقوله: {قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48]، فيكون على هذا معنى {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين}، وذرّيته وذرّية من معه دون ذرّية من كفر، فإن الله أغرقهم، فلم يبق لهم ذرّية.
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخرين} يعني: في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم، والمتروك هذا هو قوله: {سلام على نُوحٍ} أي: تركنا هذا الكلام بعينه، وارتفاعه على الحكاية، والسلام هو: الثناء الحسن، أي: يثنون عليه ثناءً حسناً، ويدعون له، ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله: {سلام على نُوحٍ}. قال الكسائي: في ارتفاع {سلام}، وجهان: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال: سلام على نوح. والوجه الثاني أن يكون المعنى: وأبقينا عليه، وتمّ الكلام، ثم ابتدأ، فقال: سلام على نوح، أي: سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد: أي: تركنا عليه هذه الكلمة باقية، يعني: يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله: {سُورَةٌ أنزلناها} [النور: 1]، وقيل: إنه ضمن تركنا معنى: قلنا. قال الكوفيون: جملة {سلام على نوح في العالمين} في محل نصب مفعول {تركنا}، لأنه ضمن معنى قلنا.
قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود: {سلاماً} منصوب بتركنا، أي: تركنا عليه ثناءً حسناً، وقيل: المراد بالآخرين: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. و{في العالمين} متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً، وهو على نوح، أي: سلام ثابت، أو مستمرّ، أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة، والجنّ، والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه، وبقاء الثناء من الله عليه، وبقاء ذريته، أي: إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله، وأفعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في {كذلك} نعت مصدر محذوف، أي: جزاء كذلك الجزاء {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} هذا بيان لكونه من المحسنين، وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} أي: الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله، ولا صدّقوا نوحاً.
ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم، وبيّن: أنه ممن شايع نوحاً، فقال: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم} أي: من أهل دينه، وممن شايعه، ووافقه على الدعاء إلى الله، وإلى توحيده، والإيمان به. قال مجاهد: أي: على منهاجه، وسنّته. قال الأصمعي: الشيعة: الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وقال الفراء: المعنى: وإن من شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا قال الكلبي. ولا يخفى ما في هذا من الضعف، والمخالفة للسياق. والظرف في قوله: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} منصوب بفعل محذوف، أي: اذكر، بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان: لا يجوز؛ لأن فيه الفصل بين العامل، والمعمول بأجنبيّ، وهو: إبراهيم، والأولى أن يقال: إن لام الابتدء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك، والشك. وقيل: هو الناصح لله في خلقه، وقيل: الذي يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما: عند دعائه إلى توحيده، وطاعته. الثاني: عند إلقائه في النار.
وقوله: {إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى: وقت قال لأبيه آزر، وقومه من الكفار: أيّ شيء تعبدون {أَإِفْكا ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ فَمَا} انتصاب {إفكاً} على أنه مفعول لأجله، وانتصاب {آلهة} على أنه مفعول {تريدون}، والتقدير: أتريدون آلهة من دون الله للإفك، و{دون} ظرف ل {تريدون}، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل: انتصاب {إفكاً} على أنه مفعول به ل {تريدون}، و{آلهة} بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأوّل.
وقيل: انتصابه على الحال من فاعل {تريدون} أي: أتريدون آلهة آفكين، أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك: أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض {فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين} أي: ما ظنكم به إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، وما ترونه يصنع بكم؟ وهو تحذير مثل قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وقيل: المعنى: أيّ شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره؟
{فَنَظَرَ نَظْرَةً في النجوم * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم؛ لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم، فاعتلّ بالسقم: وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم، فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدلّ بها على حاله، فلما نظر إليها قال: إني سقيم، أي: سأسقم.
وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا: أنه نظر فيما نجم له من الرأي، أي: فيما طلع له منه، فعلم أن كلّ شيء يسقم {فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ}. قال الخليل، والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم. وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى.
وقال الضحاك: معنى: {إني سقيم}: سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، وهذا تورية، وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارّة: هي أختي يعني: أخوّة الدين.
وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم، ويعدي، وهو: الطاعون، وكانوا يهربون من ذلك، ولهذا قال: {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي: تركوه، وذهبوا مخافة العدوى {فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ} يقال: راغ يروغ روغاً، وروغاناً: إذا مال، ومنه طريق رائغ، أي: مائل. ومنه قول الشاعر:
فيريك من طرف اللسان حلاوة ** ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

وقال السدّي: ذهب إليهم، وقال أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} أي: فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء، وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها، وخاطبها كما يخاطب من يعقل؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا قوله: {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ}، فإنه خاطبهم خطاب من يعقل، والاستفهام للتهكم بهم؛ لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق. قيل: إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها، وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم. وقيل: تركوه للسدنة، وقيل: إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها.
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين} أي: فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين، فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى: ضرب. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: بيده اليمنى يضربهم بها.
وقال السدي: بالقوة، والقدرة؛ لأن اليمين أقوى اليدين. قال الفراء، وثعلب: ضرباً بالقوة، واليمين القوة.
وقال الضحاك، والربيع بن أنس: المراد باليمين: اليمين التي حلفها حين قال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم} [الأنبياء: 57] وقيل: المراد باليمين هنا: العدل كما في قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} [الحاقة: 44، 45] أي: بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور، وأول هذه الأقوال أولاها.
{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي: أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها، ويزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا. قرأ الجمهور {يزفون} بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف، أي: دخل في الزفيف، أو يحملون غيرهم على الزفيف. قال الأصمعي: أزففت الإبل، أي: حملتها على أن تزف. وقيل: هما لغتان، يقال: زف القوم، وأزفوا، وزفت العروس، وأزففتها، حكي ذلك عن الخليل. قال النحاس: زعم أبو حاتم: أنه لا يعرف هذه اللغة، يعني: يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم: أطردت الرحل، أي: صيرته إلى ذلك، وقال المبرد: الزفيف: الإسراع.
وقال الزجاج: الزفيف: أوّل عدو النعام.
وقال قتادة، والسدّي: معنى يزفون: يمشون.
وقال الضحاك: يسعون.
وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضباً.
وقال مجاهد: يختالون، أي: يمشون مشيء الخيلاء، وقيل: يتسللون تسللاً بين المشي، والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وقرئ: {يزفون} على البناء للمفعول، وقرئ: {يزفون} كيرمون.
وحكى الثعلبي عن الحسن، ومجاهد، وابن السميفع: أنهم قرءوا {يرفون} بالراء المهملة، وهي: ركض بين المشي والعدو.
{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها، فقال مبكتاً لهم، ومنكراً عليهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي: أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت: النجر، والبري، نحته ينحته بالكسر نحتاً، أي: براه، والنحاتة البراية، وجملة {والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون، و{ما} في {وَمَا تَعْمَلُونَ} موصولة، أي: وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً، ويكون معنى العمل هنا: التصوير، والنحت، ونحوهما، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: خلقكم، وخلق عملكم، ويجوز أن تكون استفهامية، ومعنى الاستفهام: التوبيخ، والتقريع، أي: وأي شيء تعملون، ويجوز أن تكون نافية، أي: إن العمل في الحقيقة ليس لكم، فأنتم لا تعملون شيئاً، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال: إنها مصدرية، ولكن بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام.
وجملة {قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ في الجحيم} مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة، ويملؤوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم: النار الشديدة الاتقاد: قال الزجاج، وكل نار بعضها فوق بعض، فهي: جحيم، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه، أي: في جحيم ذلك البنيان، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها، وجعلها عليه برداً وسلاماً، وهو معنى قوله: {فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فجعلناهم الأسفلين} الكيد: المكر، والحيلة، أي: احتالوا لإهلاكه، فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين؛ لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها، ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير.
ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته {وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي: مهاجر من بلد قومي، الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام، وكفراً بالله، وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه، أو إلى حيث أتمكن من عبادته {سَيَهْدِينِ} أي: سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي.
قيل: إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى، قال مقاتل: فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} أي: ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الإطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً} [مريم: 53]، وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد، فقوله: {فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} يدل على أنه ما أراد بقوله: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين} إلا الولد، ومعنى حليم: أن يكون حليماً عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر، ويصير حليماً، لأن الصغير لا يوصف بالحلم.
قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف بالحلم {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة، والتقدير: فوهبنا له الغلام، فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه.
قال مجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} أي: شبّ، وأدرك سعيه سعي إبراهيم.
وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء: كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة.
وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل: هو الاحتلام {قَالَ يَابَنِى إِنّى أرى في المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حقّ، إذا رأوا شيئاً فعلوه.
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح: هل هو إسحاق، أو إسماعيل؟ قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق، وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضاً عن جابر، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين، وغيرهم: علقمة، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وكعب الأحبار، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والزهري، والسدّي، وعبد الله بن أبي الهذيل، ومالك بن أنس كلهم قالوا: الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود، والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس، وابن جرير الطبري، وغيرهما. قال: وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك: أبو هريرة، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس أيضاً، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة، وليس في ذلك كتاب، ولا سنّة، وما أظنّ ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد، ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} ا ه.
واحتجّ القائلون بأنه إسحاق بأن الله عزّ وجلّ قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة، وابن أخيه لوط، فقال: {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ} أنه دعا، فقال: {رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين}، فقال تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49]. ولأن الله قال: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: {وبشرناه بإسحاق}، وقال هنا: {بغلام حَلِيمٍ} وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. قال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح ا ه. وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه، والمناقشة له.
ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله: {وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين} [الأنبياء: 85]، وهو: صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد} [مريم: 54]؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً} فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاً فإن الله قال: {فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} [هود: 71]، فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس، وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة {فانظر مَاذَا ترى} قرأ حمزة، والكسائي {ترى} بضم الفوقية، وكسر الراء، والمفعولان محذوفان، أي: انظر ماذا تريني إياه من صبرك، واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء، والراء من الرأي، وهو: مضارع رأيت، وقرأ الضحاك، والأعمش، {ترى} بضم التاء، وفتح الراء مبنياً للمفعول، أي: ماذا يخيل إليك، ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى: انظر ماذا ترى من صبرك، وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره. وإنما قال العلماء ماذا تشير، أي: ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة، وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس وقال: هذا يكون من رؤية العين، وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم.
{قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي: ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، و{ما} موصولة، وقيل: مصدرية على معنى: افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً، والأوّل أولى {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: استسلما لأمر الله، وأطاعاه، وانقادا له. قرأ الجمهور {أسلمنا}، وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس {فلما سلما} أي: فوضا أمرهما إلى الله، وروي عن ابن عباس: أنه قرأ: {استسلما} قال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال: سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد.
وقد اختلف في جواب {لما} ماذا هو؟ فقيل: هو محذوف، وتقديره: ظهر صبرهما، أو أجزلنا لهما أجرهما، أو فديناه بكبش، هكذا قال البصريون.
وقال الكوفيون: الجواب هو: {ناديناه}، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني، ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش: الجواب {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، والواو زائدة، وروي هذا أيضاً عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأوّل {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} التلّ: الصرع والدفع، يقال: تللت الرجل: إذا ألقيته، والمراد أنه أضجعه: على جبينه على الأرض، والجبين: أحد جانبي الجبهة، فللوجه جبينان، والجبهة بينهما، وقيل: كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرّقة لقلبه. واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه، فقيل: هو مكة في المقام. وقيل: في المنحر بمنى عند الجمار. وقيل: على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل: بالشام.
{وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} أي: عزمت على الإتيان بما رأيته. قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، وجعله مصدّقاً بمجرد العزم، وإن لم يذبحه؛ لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله، وقد فعلا. قال القرطبي: قال أهل السنّة: إن نفس الذبح لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. قال: ومعنى: {صَدَّقْتَ الرؤيا} فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب. وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه؛ لأن معنى ذبحت الشيء: قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين، فيمرّ بها على حلقه، فتنقلب كما قال مجاهد.
وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءًا التأم، وقالت طائفة منهم السدّي: ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس، فجعل إبراهيم يحزّ، ولا يقطع شيئاً.
وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج، وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح، فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له: {قد صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} أي: نجزيهم بالخلاص من الشدائد، والسلامة من المحن، فالجملة كالتعليل لما قبلها. قال مقاتل: جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته، العفو عن ذبح ابنه.
{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} البلاء، والابتلاء: الاختبار، والمعنى: إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده. وقيل: المعنى: إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح، وفداه بالكبش، يقال: أبلاه الله إبلاءً وبلاء: إذا أنعم عليه والأوّلى أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير، والشرّ، ومنه: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول. قال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده. قال: وهذا من البلاء المكروه {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذبح: اسم المذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم: عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة، وإنما عظم قدره؛ لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: العظيم في اللغة يكون للكبير، وللشريف، وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف، أي: المتقبل. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً.
وقال الحسن: ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. قال الزجاج: قد قيل: إنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي، ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له، وخلصناه به من الذبح {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخرين * سلام على إبراهيم} أي: في الأمم الآخرة التي تأتي بعده، والسلام: الثناء الجميل.
وقال عكرمة: سلام منا، وقيل: سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله: {سلام على نُوحٍ في العالمين} وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه، ووجه إعرابه.
{كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} أي: مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} أي: الذين أعطوا العبودية حقها، ورسخوا في الإيمان بالله، وتوحيده: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} أي: بشرنا إبراهيم بولد يولد له، ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، وانتصاب {نبياً} على الحال، وهي: حال مقدرة. قال الزجاج: إن كان الذبيح إسحاق، فيظهر كونها مقدرة، والأولى أن يقال: إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة. هنا خاصة بنبوته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل، و{مّنَ الصالحين} كما يجوز أن يكون صفة لنبياً، يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه، فتكون أحوالاً متداخلة {وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق} أي: على إبراهيم، وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما. وقيل: كثرنا ولدهما، وقيل: إن الضمير في {عليه} يعود إلى إسماعيل، وهو بعيد، وقيل: المراد بالمباركة هنا: هي: الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي: محسن في عمله بالإيمان، والتوحيد، وظالم لها بالكفر، والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بيّن أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف، والمحتد المبارك ليس بنافع لهم، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لآبائهم، فإن اليهود، والنصارى، وإن كانوا من ولد إسحاق، فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين، والعرب، وإن كانوا من ولد إسماعيل، فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} يقول: لم يبق إلا ذرية نوح {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ في الآخرين} يقول: يذكر بخير.
وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} قال: حام، وسام، ويافث.
وأخرج ابن سعد، وأحمد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن سمرة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم» والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف، وقد قيل: إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط، وما عداه فبواسطة. قال ابن عبد البرّ: وقد روي عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولد نوح ثلاثة: سام، وحام، ويافث، فولد سام العرب، وفارس، والروم، والخير فيهم، وولد يافث يأجوج، ومأجوج، والترك، والصقالبة، ولا خير فيهم، وولد حام القبط، والبربر، والسودان» وهو من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم} قال: من أهل دينه.
وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله: {إِنّى سَقِيمٌ} قال: مريض.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: مطعون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} قال: يخرجون.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} قال: حين هاجر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} قال: العمل.
وأخرج الطبراني عنه أيضاً قال: لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه: إذا ذبحتني، فاعتزل لا أضطرب، فينتضح عليك دمي، فشده، فلما أخذ الشفرة، وأراد أن يذبحه نودي من خلفه {أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} وأخرج أحمد عنه أيضاً مرفوعاً مثله مع زيادة.
وأخرجه عنه موقوفاً.
وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً في قوله: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم} قال: من شيعة نوح على منهاجه، وسننه {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} قال: شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل {فَلَمَّا أَسْلَمَا} سلما ما أمر به {وَتَلَّهُ} وضع وجهه إلى الأرض.
فقال: لا تذبحني، وأنت تنظر عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي. وأن أجزع، فأنكص، فأمتنع منك. ولكن اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي إلى الأرض، فلما أدخل يده ليذبحه، فلم تصل المدية حتى نودي: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فأمسك يده، قوله: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} بكبش عظيم متقبل. وزعم ابن عباس: أن الذبيح إسماعيل.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء وحي».
وأخرجه البخاري، وغيره من قول عبيد بن عمير، واستدل بهذه الآية.
وأخرج ابن جرير، والحاكم من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق الشعبي، عن ابن عباس قال: الذبيح: إسماعيل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: الذبيح: إسماعيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك، وأبي الطفيل، عن ابن عباس قال: الذبيح: إسماعيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش.
وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال: رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الذي أمر بذبحه: إسماعيل.
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال نبي الله داود: يا رب أسمع الناس يقولون: رب إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فاجعلني رابعاً، قال: إن إبراهيم ألقي في النار، فصبر من أجلي، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك بلية لم تنلك» وفي إسناده الحسن بن دينار البصري، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.
وأخرج الدارقطني في الأفراد، والديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذبيح إسحاق».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذبيح إسحاق».
وأخرج ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله.
وأخرج ابن مردويه عن بهار، وكانت له صحبة، قال: إسحاق ذبيح الله.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله».
وأخرج عبد الرزاق، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: الذبيح: إسحاق.
وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: الذبيح: إسحاق.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذبيح: إسحاق.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال: أكبه على وجهه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: صرعه للذبح.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً.
وأخرج عبد بن حميد عنه قال: فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس: أن رجلاً قال: نذرت لأنحر نفسي، فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ثم تلا {وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}، فأمره بكبش، فذبحه.
وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} قال: إنما بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوّة عند مولده.
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق، أو إسماعيل؟ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع، أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير، فإنه رجح أنه إسحاق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا، وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل، وجعل الأدلة على ذلك أقوى، وأصح، وليس الأمر كما ذكره، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها، ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء. وما روي عنه، فهو إما موضوع، أو ضعيف جدًّا. ولم يبق إلا مجرّد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وهي محتملة، ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السلامة من الترجيح، بلا مرجح، ومن الاستدلال بما هو محتمل.