فصل: سورة الزمر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.سورة الزمر:

هي اثنتان وسبعون آية.
وقيل: خمس وسبعون.
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد.
وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة.
وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر سوى ثلاثة آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة، {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الثلاث الآيات.
وقال آخرون: إلا سبع آيات من قوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} إلى آخر السبع.
وأخرج النسائي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل.

.تفسير الآيات (1- 6):

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)}
قوله: {تَنزِيلُ الكتاب} ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة، أي: هذا تنزيل.
وقال أبو حيان: إن المبتدأ المقدّر لفظ هو ليعود على قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} [ص: 87]، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو؟ فقيل: هو تنزيل الكتاب. وقيل: ارتفاعه على أنه مبتدأ، وخبره الجارّ والمجرور بعده، أي: تنزيل كائن من الله، وإلى هذا ذهب الزجاج، والفراء. قال الفراء: ويجوز أن يكون مرفوعاً بمعنى: هذا تنزيل، وأجاز الفراء، والكسائي النصب على أنه مفعول به لفعل مقدّر، أي: اتبعوا، أو اقرءوا تنزيل الكتاب.
وقال الفراء: يجوز نصبه على الإغراء، أي: الزموا، والكتاب هو: القرآن، وقوله: {مِنَ الله العزيز الحكيم} على الوجه الأوّل صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدّر {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} الباء سببية متعلقة بالإنزال، أي: أنزلناه بسبب الحقّ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو: حال من الفاعل، أي: ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي: ملتبساً بالحق، والمراد كلّ ما فيه من إثبات التوحيد، والنبوّة، والمعاد، وأنواع التكاليف. قال مقاتل: يقول: لم ننزله باطلاً لغير شيء {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وانتصاب مخلصاً على الحال من فاعل اعبد، والإخلاص: أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه، والدين العبادة، والطاعة، ورأسها توحيد الله، وأنه لا شريك له. قرأ الجمهور: {الدين} بالنصب على أنه مفعول مخلصاً. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصاً مسند إلى الدين على طريقة المجاز. قيل: وكان عليه أن يقرأ مخلصاً بفتح اللام. وفي الآية دليل على وجوب النية، وإخلاصها عن الشوائب؛ لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال، والأفعال النية، كما في حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وحديث: «لا قول ولا عمل إلا بنية» وجملة {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإخلاص، أي: إن الدين الخالص من شوائب الشرك، وغيره هو لله، وما سواه من الأديان، فليس بدين الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} لما أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص، وأن الدين الخالص له لا لغيره بيّن بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص، والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله: {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} وجملة {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} في محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرّغ من أعمّ العلل، والمعنى: والذين لم يخلصوا العبادة لله، بل شابوها بعبادة غيره قائلين: ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً، والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة، وعيسى، والأصنام، وهم: المرادون بالأولياء، والمراد بقولهم: {إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} الشفاعة، كما حكاه الواحدي عن المفسرين.
قال قتادة: كانوا إذا قيل لهم: من ربكم، وخالقكم، ومن خلق السموات، والأرض، وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟ قالوا: ليقرّبونا إلى الله زلفى، ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ} [الأحقاف: 28]. والزلفى اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقرّبونا إلى الله تقريباً. وفي قراءة ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد: {قالوا ما نعبدهم}، ومعنى {إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي: بين أهل الأديان يوم القيامة، فيجازي كلا بما يستحقه. وقيل: بين المخلصين للدين، وبين الذين لم يخلصوا، وحذف الأوّل لدلالة الحال عليه، ومعنى {فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}: في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد، والشرك، فإن كلّ طائفة تدّعي أن الحقّ معها {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} أي: لا يرشد لدينه، ولا يوفق للاهتداء إلى الحقّ من هو كاذب في زعمه: أن الآلهة تقربه إلى الله، وكفر باتخاذها آلهة، وجعلها شركاء لله، والكفار صيغة مبالغة تدلّ على أن كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية. وقرأ الحسن، والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه القراءة عن أنس.
{لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى} هذا مقرّر لما سبق من إبطال قول المشركين: بأن الملائكة بنات الله لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة، ولم يتأتّ ذلك إلا بأن يصطفي {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي: يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ؛ فمعنى الآية: لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق، فقال: {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن ذلك، وجملة {هُوَ الله الواحد القهار} مبينة لتنزّهه بحسب الصفات بعد تنزّهه بحسب الذات، أي: هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته، فلا مماثل له القهّار لكل مخلوقاته، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه، لأن الولد مماثل لوالده، ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} [الأنبياء: 17] ثم لما ذكر سبحانه كونه منزّهاً عن الولد بكونه إلها واحداً قهاراً ذكر ما يدل على ذلك من صفاته، فقال: {خَلَقَ السموات والأرض بالحق} أي: لم يخلقهما باطلاً لغير شيء، ومن كان هذا الخلق العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك، أو صاحبة، أو ولد. ثم بيّن كيفية تصرفه في السموات، والأرض، فقال: {يُكَوّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار عَلَى اليل} التكوير في اللغة: طرح الشيء بعضه على بعض. يقال: كوّر المتاع: إذا ألقي بعضه على بعض، ومنه كوّر العمامة؛ فمعنى تكوير الليل على النهار: تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه، ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو: معنى قوله تعالى: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثا} [الأعراف: 54] هكذا قال قتادة، وغيره.
وقال الضحاك: أي: يلقي هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأوّل. وقيل: معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو: معنى قوله: {يُولِجُ اليل في النهار وَيُولِجُ النهار في اليل} [الحج: 61]، وقيل: المعنى: إن هذا يكرّ على هذا، وهذا يكرّ على هذا كروراً متتابعاً. قال الراغب: تكوير الشيء إدارته، وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة ا ه. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها، وانتقاص الليل، والنهار، وازديادهما. قال الرازي: إن النور، والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا؛ ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار، وسلطان الليل، وهما: الشمس، والقمر، فقال: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} أي: جعلهما منقادين لأمره بالطلوع، والغروب لمنافع العباد، ثم بيّن كيفية هذا التسخير، فقال: {كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة، وقد تقدّم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفي في سورة ياس {أَلا هُوَ العزيز الغفار} ألا: حرف تنبيه، والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو: الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة.
ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته، وبديع صنعه، فقال: {خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة}، وهي: نفس آدم {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} جاء بثمّ للدّلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه؛ لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدّر هو صفة لنفس. قال الفراء، والزجاج: التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة، ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة، أي: من نفس انفردت، ثم جعل إلخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثمّ للدّلالة على أن خلق حوّاء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف.
ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته الباهرة، فقال: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج}، وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى: أنه خلقها في الجنة، ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازاً، لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعيش بالماء، والماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

وقيل: إن أنزل بمعنى: أنشأ، وجعل، أو بمعنى: أعطى. وقيل: جعل الخلق إنزالاً، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله: {مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144] ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع: الذكر، والأنثى، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بيّن سبحانه نوعاً آخر من قدرته البديعة، فقال: {يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أمهاتكم خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ}، والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقاً مصدر مؤكد للفعل المذكور، و{مّن بَعْدِ خَلْقٍ} صفة له، أي: خلقاً كائناً من بعد خلق. قال قتادة، والسدّي: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظماً، ثم لحماً.
وقال ابن زيد: خلقكم خلقاً في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله: {فِى ظلمات ثلاث} متعلق بقوله: {يَخْلُقُكُمْ}، وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرّحم، وظلمة المشيمة قاله مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرّحم، وظلمة الليل.
وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرّحم، والإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ الله} إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف خبره {رَبُّكُمْ} خبر آخر {لَهُ الملك} الحقيقي في الدنيا، والآخرة لا شركة لغيره فيه، وهو: خبر ثالث، وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبر رابع {فأنى تُصْرَفُونَ} أي: فكيف تنصرفون عن عبادته، وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة: {إمهاتكم} بكسر الهمزة، والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة، وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة، وفتح الميم.
وقد أخرج ابن مردويه، عن يزيد الرقاشي أن رجلاً قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر، فهل لنا في ذلك من أجر؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر والذكر فهل لنا أجر؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له» ثم تلا هذه الآية: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُكَوّرُ اليل} قال: يحمل الليل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} قال: علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً {فِى ظلمات ثلاث} البطن، والرحم، والمشيمة.

.تفسير الآيات (7- 12):

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)}
لما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده، وبيّن لهم من بديع صنعه، وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي: غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له فإنه الغنيّ المطلق، ومع كون كفر الكافر لا يضرّه كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضاً {لاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي: لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به، ومثل هذه الآية قوله: {إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن في الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «يا عبادي لو أن أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها، وإن الكفر غير مرضيّ لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر، أو هي خاصة؟، والمعنى: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة، والسدّي، وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية اختلافاً آخر. فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر، ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده، ولا يرضاه، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جداً.
وقد استدلّ القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه: {يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء} [النحل: 93] {وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الإنسان: 30]، ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه: أنه لا يرضى لعباده الكفر بيّن أنه يرضى لهم الشكر، فقال: {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي: يرض لكم الشكر المدلول عليه بقوله، وإن تشكروا، ويثبكم عليه، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر؛ لأنه سبب سعادتهم في الدنيا، والآخرة كما قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، وشيبة، وهبير عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان، وابن كثير، والكسائي، وابن محيصن، وورش عن نافع، واختلس الباقون. {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي: لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير، وشر، وفيه تهديد شديد {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: بما تضمره القلوب، وتستره، فكيف بما تظهره، وتبديه.
{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} أيّ: ضر كان من مرض، أو فقر، أو خوف {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي: راجعاً إليه مستغيثاً به في دفع ما نزل به تاركاً لما كان يدعوه، ويستغيث به من ميت، أو حيّ، أو صنم، أو غير ذلك {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي: أعطاه، وملكه، يقال: خوّله الشيء، أي: ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا ** وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

ومنه قول أبي النجم:
أعطى ولم يبخل ولم يُبَخِّل ** كوم الذرى من خول المخوّل

{نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} أي: نسي الضرّ الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله. وقيل: نسي الدعاء الذي كان يتضرع به، وتركه، أو نسي ربه الذي كان يدعوه، ويتضرّع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك بالله، وهو معنى قوله: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} أي: شركاء من الأصنام، أو غيرها يستغيث بها، ويعبدها {لّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي: ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام، والتوحيد.
وقال السدّي: يعني: أنداداً من الرجال يعتمد عليهم في جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يهدّد من كان متصفاً بتلك الصفة، فقال: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أي: تمتعاً قليلاً، أو زماناً قليلاً، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله: {إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} أي: مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه: التهديد، والوعيد. قرأ الجمهور: {ليضل} بضم الياء، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتحها.
ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين، وتمسكهم بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين، فقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل}، وهذا إلى آخره من تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ذلك الكافر أحسن حالاً، ومآلاً، أمن هو قائم بطاعات الله في السرّاء، والضرّاء في ساعات الليل، مستمرّ على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند نزول الضرر به. قرأ الحسن، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، والكسائي: {أمن} بالتشديد، وقرأ نافع، وابن كثير، وحمزة، ويحيى بن وثاب، والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة، وأدغمت الميم في الميم، وأم هي المتصلة، ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت. وقيل: هي المنقطعة المقدّرة ببل، والهمزة، أي: بل أمن هو قانت كالكافر، وأما على القراءة الثانية، فقيل: الهمزة للاستفهام دخلت على من، والاستفهام للتقرير، ومقابله محذوف، أي: أمن هو قانت كمن كفر.
وقال الفراء: إن الهمزة في هذه القراءة للنداء، ومن منادى، وهي عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور بقوله: {قل تمتع}، والتقدير: يا من هو قانت، قل: كيت، وكيت.
وقيل: التقدير: يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة. ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفرّاء، وضعف ذلك أبو حيان، وقال: هو أجنبيّ عما قبله، وعما بعده، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو عليّ الفارسي، واعترض على هذه القراءة من أصلها أبو حاتم، والأخفش، ولا وجه لذلك، فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدّراية.
وقد اختلف في تفسير القانت هنا، فقيل: المطيع. وقيل: الخاشع في صلاته. وقيل: القائم في صلاته. وقيل: الدّاعي لربه. قال النحاس: أصل القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه، فهو داخل في الطاعة، والمراد بآناء الليل: ساعاته. وقيل: جوفه. وقيل: ما بين المغرب، والعشاء، وانتصاب {ساجدا وَقَائِماً} على الحال، أي: جامعاً بين السجود، والقيام، وقدّم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، ومحل {يَحْذَرُ الأخرة} النصب على الحال أيضاً، أي: يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير، ومقاتل {وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ}، فيجمع بين الرجاء، والخوف، وما اجتمعا في قلب رجل إلا فاز. قيل: وفي الكلام حذف، والتقدير: كمن لا يفعل شيئاً من ذلك كما يدل عليه السياق. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً آخر يتبين به الحقّ من الباطل، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي: الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث، والثواب، والعقاب حق، والذين لا يعلمون ذلك، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله، والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد: العلماء والجهال، ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل. قال الزجاج: أي كما لا يستوي الذين يعلمون، والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع، والعاصي. وقيل: المراد بالذين يعلمون: هم: العاملون بعلمهم، فإنهم المنتفعون به، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} أي: إنما يتعظ، ويتدبر، ويتفكر أصحاب العقول، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم، وإن زعموا أن لهم عقولاً، فهي كالعدم، وهذه الجملة ليست من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه.
{قُلْ ياعِبَادِ الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ} لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم، ومن لا يعلم، وبين أنه {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه، والإيمان به. والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته، واجتناب معاصيه، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد: قل لهم قولي هذا بعينه. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد، فقال: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي: للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة، وهي: الجنة، وقوله: {فِى هذه الدنيا} متعلق بأحسنوا.
وقيل: هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة، والعافية، والظفر، والغنيمة، والأوّل أولى. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة، فقال: {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} أي: فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله. والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، ومثل ذلك قوله سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} [النساء: 97]، وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء. وقيل: المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغبهم في سعتها، وسعة نعيمها كما في قوله: {جَنَّةُ عَرْضُهَا السموات والأرض} [آل عمران: 133]، والأوّل أولى.
ثم لما بيّن سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا، وكان لابد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة، وعلى كفّ النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر، وعظيم مقداره، فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب، أي: بما لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدي إليه عقل، ولا وصف.
وقال مقاتل: أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل: أن الآية تدلّ على أن ثواب الصابرين، وأجرهم لا نهاية له، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب، فهو: متناهٍ، وما كان لا يدخل تحت الحساب، فهو: غير متناه، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير، أن يتوفر على الصبر، ويزّم نفسه بزمامه، ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يردّ قضاء قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سلب، ولا يدفع مكروهاً قد وقع، وإذا تصوّر العاقل هذا حقّ تصوره، وتعقله حقّ تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضمّ إلى مصيبته مصيبة أخرى، ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب ** فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب

هناك يحق الصبر والصبر واجب ** وما كان منه للضرورة أوجب

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد، والإخلاص، فقال: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي: أعبده عبادة خالصة من الشرك، والرّياء، وغير ذلك؛ قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك، وجدّك، وسادات قومك يعبدون اللات، والعزّى، فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية، وقد تقدّم بيان معنى الآية في أوّل هذه السورة {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي: من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، فإنه أوّل من خالف دين آبائه، ودعا إلى التوحيد، واللام للتعليل، أي: وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون.
وقيل: إنها مزيدة للتأكيد، والأوّل أولى.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} يعني: الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولون لا إله إلا الله، ثم قال: {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر}، وهم: عباده المخلصون الذين قال: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65]، فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله، وحببها إليهم.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} قال: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة قال: والله ما رضي الله لعبد ضلالة، ولا أمره بها، ولا دعا إليها، ولكن رضي لكم طاعته، وأمركم بها، ونهاكم عن معصيته.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر عن ابن عمر: أنه تلا هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً يَحْذَرُ الأخرة} قال: ذاك عثمان بن عفان، وفي لفظ: نزلت في عثمان بن عفان.
وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {يَحْذَرُ الأخرة} يقول: يحذر عذاب الآخرة.
وأخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه الذي يخاف» أخرجوه من طريق سيار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس. قال الترمذي: غريب، وقد رواه بعضهم عن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.