فصل: تفسير الآيات (13- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (13- 20):

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}
قوله: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} أي: بترك إخلاص العبادة له، وتوحيده، والدعاء إلى ترك الشرك، وتضليل أهله {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهو: يوم القيامة. قال أكثر المفسرين: المعنى: إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله. قال أبو حمزة اليماني، وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب، لأن قبله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} [الزمر: 11]، فالمراد: عصيان هذا الأمر {قُلِ الله أَعْبُدُ} التقديم مشعر بالاختصاص، أي: لا أعبد غيره لا استقلالاً، ولا على جهة الشركة، ومعنى {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى}: أنه خالص لله غير مشوب بشرك، ولا رياء، ولا غيرهما، وقد تقدّم تحقيقه في أول السورة. قال الرازي: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله: {قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} [الزمر: 11]، وقوله: {قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} قلنا: ليس هذا بتكرير، لأن الأوّل: إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان، والعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله {فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أن تعبدوه {مِن دُونِهِ} هذا الأمر للتهديد، والتقريع، والتوبيخ كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وقيل: إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأوّل أولى {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة} أي: إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء، لأن من دخل النار، فقد خسر نفسه، وأهله. قال الزجاج: وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، وجملة: {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حلّ بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الخسران، ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدلّ على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران؛ وأنه لا خسران يساويه، ولا عقوبة تدانيه.
ثم بيّن سبحانه هذا الخسران الذي حلّ بهم، والبلاء النازل عليهم بقوله: {لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار} الظلل عبارة عن أطباق النار، أي: لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم {وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي: أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللاً؛ لأنها تظلّ من تحتها من أهل النار، لأن طبقات النار صار في كلّ طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، ومثل هذه الآية قوله: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، وقوله: {يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}
[العنكبوت: 55]، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من وصف عذابهم في النار، وهو: مبتدأ، وخبره قوله: {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} أي: يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب؛ ليخافوه، فيتقوه، وهو: معنى {ياعباد فاتقون} أي: اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم. وقيل: هو للكفار، وأهل المعاصي. وقيل: هو عامّ للمسلمين، والكفار.
{والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} الموصول مبتدأ، وخبره قوله: {لَهُمُ البشرى} والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت، والعظموت، وهو: الأوثان، والشيطان.
وقال مجاهد، وابن زيد: هو: الشيطان.
وقال الضحاك، والسدّي: هو: الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل: هو اسم أعجمي مثل طالوت، وجالوت. وقيل: إنه اسم عربيّ مشتق من الطغيان. قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، ومعنى اجتنبوا الطاغوت: أعرضوا عن عبادته، وخصوا عبادتهم بالله عزّ وجلّ، وقوله: {أَن يَعْبُدُوهَا} في محل نصب على البدل من الطاغوت، بدل اشتمال، كأنه قال: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدّم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة، وقوله: {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} معطوف على اجتنبوا، والمعنى: رجعوا إليه، وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه {لَهُمُ البشرى} بالثواب الجزيل، وهو: الجنة. وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت، أو عند البعث {فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} المراد بالعباد هنا: العموم، فيدخل الموصوفون بالاجتناب، والإنابة إليه دخولاً أوّلياً، والمعنى: يستمعون القول الحقّ من كتاب الله، وسنّة رسوله، فيتبعون أحسنه، أي: محكمه، ويعملون به. قال السدّي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه. وقيل: هو الرجل يسمع الحسن، والقبيح، فيتحدّث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدّث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن، وقيل: يستمعون الرخص والعزائم، فيتبعون العزائم، ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو، ويتركون العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين، فقال: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الألباب} أي: هم الذين أوصلهم الله إلى الحق، وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم.
ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة، وحرم السعادة فقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء، وخبرها محذوف، أي: كمن يخاف، أو فأنت تخلصه، أو تتأسف عليه، ويحتمل أن تكون شرطية، وجوابه {أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار} فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار.
وقال سيبويه: إنه كرّر الاستفهام لطول الكلام.
وقال الفراء: المعنى: أفأنت تنقذ من حقّت عليه كلمة العذاب، والمراد بكلمة العذاب هنا هي: قوله تعالى لإبليس: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقوله: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] ومعنى الآية: التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان حريصاً على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء، حقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمناً. قال عطاء: يريد أبا لهب، وولده، ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحقّ العذاب بمن قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار.
ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم النار، ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة، فقال: {لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ}، وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى {مَّبْنِيَّةٌ}: أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها، وقوّة بنائها، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي: من تحت تلك الغرف، وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها، وانتصاب {وَعَدَ الله} على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة، لأن قوله: {لَهُمْ غُرَفٌ} في معنى: وعدهم الله بذلك، وجملة: {لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} مقرّرة للوعد، أي: لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير، والشرّ.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} الآية. قال: هم: الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا، وحرمت عليهم الجنة.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} قال: أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدّوا لهم لو عملوا بطاعة الله، فغيبوهم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: كان سعيد بن زيد، وأبو ذرّ، وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول، والكلام لا إله إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه: {يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما نزل: {فَبَشّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فاستقبل عمر الرسول، فردّه، فقال: يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس، فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي، وعقابه لاستصغروا أعمالهم» وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.

.تفسير الآيات (21- 26):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)}
لما ذكر سبحانه الآخرة، ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها، والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا، ووصفها بوصف يوجب الرغبة عنها، والنفرة منها، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها، وقرب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع من أنواع قدرته الباهرة، وصنعه البديع، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} أي: من السحاب مطراً {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} أي: فأدخله، وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء، والأمكنة التي ينبع منها الماء، والمعنى: أدخل الماء النازل من السماء في الأرض، وجعله فيها عيوناً جارية، أو جعله في ينابيع، أي: في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل: فجعله عيوناً، وركايا في الأرض {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أي: يخرج بذلك الماء من الأرض زرعاً مختلفاً ألوانه من أصفر، وأخضر، وأبيض، وأحمر، أو من برّ، وشعير، وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف {ثُمَّ يَهِيجُ} يقال: هاج النبت يهيج هيجاً إذا تمّ جفافه. قال الجوهري: يقال: هاج النبت هياجاً: إذا يبس، وأرض هائجة يبس بقلها، أو اصفّر، وأهاجت الريح النبت أيبسته. قال المبرد: قال الأصمعي: يقال: هاجت الأرض تهيج: إذا أدبر نبتها، وولى. قال: وكذلك هاج النبت. {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: تراه بعد خضرته، ونضارته، وحسن رونقه مصفرًّا قد ذهبت خضرته، ونضارته {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} أي: متفتتاً منكسراً، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس {إِنَّ في ذَلِكَ لذكرى لأُِوْلِى الألباب} أي: فيما تقدّم ذكره تذكير الأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها، فيتفكرون، ويعتبرون، ويعلمون بأن الحياة الدّنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم، وقرب التقضي، وذهاب بهجتها، وزوال رونقها، ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر، والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها، والميل إليها، وإيثارها على دار النعيم الدائم، والحياة المستمرة، واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث، والحشر، لأن من قدر على هذا قدر على ذلك. وقيل: هو مثل ضربه الله للقرآن، ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآناً، فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به ديناً بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن، فيزداد إيماناً ويقيناً، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. قرأ الجمهور: {ثم يجعله} بالرفع عطفاً على ما قبله، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن، ولا وجه لذلك.
ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام، لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به، فقال: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} أي: وسعه لقبول الحقّ، وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير.
قال السدّي: وسع صدره للإسلام للفرح به، والطمأنينة إليه، والكلام في الهمزة، والفاء كما تقدم في: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19]، ومن مبتدأ، وخبرها محذوف تقديره كمن قسا قلبه، وحرج صدره، ودلّ على هذا الخبر المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ} والمعنى: أفمن وسع الله صدره للإسلام، فقبله، واهتدى بهديه {فَهُوَ} بسبب ذلك الشرح {على نُورٍ مّن رَّبّهِ} يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء اختياره، فصار في ظلمات الضلالة، وبليات الجهالة. قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ، وإليه ينتهي. قال الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه، فلم يهتد لقسوته {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} قال الفراء، والزجاج: أي عن ذكر الله كما تقول: أتخمت عن طعام أكلته، ومن طعام أكلته، والمعنى: أنه غلظ قلبه، وجفا عن قبول ذكر الله، يقال: قسا القلب إذا صلب، وقلب قاس، أي: صلب لا يرقّ، ولا يلين. وقيل: معنى من ذكر الله من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور، وتطمئن به القلوب. والمعنى: أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى القاسية قلوبهم، وهو: مبتدأ، وخبره {فِى ضلال مُّبِينٍ} أي: ظاهر واضح.
ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز، فقال: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} يعني: القرآن، وسماه حديثاً؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدّث به قومه، ويخبرهم بما ينزل عليه منه. وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقاً هو: القرآن، وانتصاب {كتابا} على البدل من أحسن الحديث، ويحتمل أن يكون حالاً منه {متشابها} صفة ل {كتاباً}، أي: يشبه بعضه بعضاً في الحسن، والأحكام، وصحة المعاني، وقوة المباني، وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة، وقال قتادة: يشبه بعضه بعضاً في الآي، والحروف. وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، و{مَّثَانِيَ} صفة أخرى لكتاباً، أي: تثنى فيه القصص، وتتكرر فيه المواعظ، والأحكام. وقيل: يثنى في التلاوة، فلا يملّ سامعه، ولا يسأم قارئه. قرأ الجمهور: {مثاني} بفتح الياء، وقرأ هشام عن ابن عامر، وبشر بسكونها تخفيفاً، واستثقالاً لتحريكها، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مثاني، وقال الرازي: في تبيين مثاني أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكرّرة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعامّ والخاصّ، والمجمل والمفصل، وأحوال السماوات والأرض، والجنة والنار، والنور والظلمة، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود من ذلك البيان: بأن كلّ ما سوى الحقّ زوج، وأن الفرد الأحد الحقّ هو: الله، ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف، والبعد عن مقصود التنزيل {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} هذه الجملة يجوز أن تكون صفة ل {كتاباً}، وأن تكون حالاً منه، لأنه وإن كان نكرة، فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض، يقال: اقشعرّ جلده: إذا تقبض، وتجمع من الخوف.
والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرّت جلود الخائفين لله {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} إذا ذكرت آيات الرحمة. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرئ القيس:
فبتّ أكابد ليل التمام ** والقلب من خشية مقشعر

وقيل: المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة، والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرّت الجلود منه إعظاماً له، وتعجباً من حسنه، وبلاغته ثم تلين جلودهم، وقلوبهم {إلى ذِكْرِ الله} عدّى تلين بإلى لتضمينه فعلاً يتعدّى بها، كأنه قيل: سكنت، واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف، والتقدير: إلى ذكر الله رحمته، وثوابه، وجنته، وحذف للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها تقشعرّ جلودهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع وهو: من الشيطان، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الكتاب الموصوف بتلك الصفات، وهو: مبتدأ، و{هُدَى الله} خبره، أي: ذلك الكتاب هدى الله {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} أن يهديه من عباده. وقيل: إن الإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه، ورجاء ثوابه {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي: يجعل قلبه قاسياً مظلماً غير قابل للحقّ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى الحق، ويخلصه من الضلال. قرأ الجمهور: {من هاد} بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن بالياء.
ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا، وهو: الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر، وهو: العذاب، فقال: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} والاستفهام للإنكار، وقد تقدّم الكلام فيه، وفي هذه الفاء الداخلة على من في قوله: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 19]، ومن مبتدأ، وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى: أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى الاتقاء. قال الزجاج: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن يدخل الجنة. قال عطاء، وابن زيد: يرمى به مكتوباً في النار، فأوّل شيء تمس منه وجهه.
وقال مجاهد: يجرّ على وجهه في النار.
قال الأخفش: المعنى: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله: {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة} [فصلت: 40]، ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار، فقال: {وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}، وهو معطوف على يتقي أي: ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدّلالة على التحقيق. قال عطاء: أي: جزاء ما كنتم تعملون، ومثل هذه الآية قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]، وقد تقدّم الكلام على معنى الذوق في غير موضع.
ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال: {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنهم كذبوا رسلهم {فأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم، وغفلتهم عن عقوبة الله لهم بتكذيبهم {فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي: الذلّ، والهوان {فِي الحياة الدنيا} بالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، وغير ذلك {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} لكونه في غاية الشدّة مع دوامه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا ممن يعلم الأشياء، ويتفكر فيها، ويعمل بمقتضى علمه. قال المبرّد: يقال: لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته، أي: وصل إليها كما تصل الحلاوة، والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي المكروه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} الآية قال: ما في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض} فمن سرّه أن يعود الملح عذباً، فليصعده.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} قال: أبو بكر الصديق.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} قلنا: يا نبيّ الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح، وانفسح» قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت».
وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعاً مرسلاً.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر: أن رجلاً قال: يا نبيّ الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكراً للموت وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح، واستوسع» فقالوا: ما آية ذلك يا نبيّ الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه، وزاد فيه: ثم قرأ: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ}.
وأخرج الترمذي، وابن مروديه، وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا، فنزل: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} الآية.
وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {مَّثَانِيَ} قال: القرآن كله مثاني.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويردّ بعضه إلى بعض.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: كتاب الله مثاني ثني فيه الأمر مراراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدّتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعرّ جلودهم، قلت: فإن ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب} قال: ينطلق به إلى النار مكتوفاً، ثم يرمى به فيها، فأوّل ما تمسّ وجهه النار.