فصل: تفسير الآيات (27- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 35):

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}
قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} قد قدّمنا تحقيق المثل، وكيفية ضربه في غير موضع، ومعنى: {مِن كُلّ مَثَلٍ}: ما يحتاجون إليه، وليس المراد ما هو أعمّ من ذلك، فهو هنا كما في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا في الكتاب مِن شَئ} [الأنعام: 38] أي: من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم. وقيل: المعنى: ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظمون، فيعتبرون، وانتصاب {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} على الحال من هذا، وهي حال مؤكدة، وتسمى هذه حالاً موطئة، لأن الحال في الحقيقة هو: عربياً، وقرآناً توطئة له، نحو جاءني زيد رجلاً صالحاً: كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح. قال الزجاج: عربياً منتصب على الحال، وقرآنا توكيد، ومعنى {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ}: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه. قال الضحاك: أي غير مختلف. قال النحاس: أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك. وقيل: غير متضادّ. وقيل: غير ذي لبس. وقيل: غير ذي لحن. وقيل: غير ذي شك كما قال الشاعر:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ** من الإله وقول غير مكذوب

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة أخرى بعد العلة الأولى. وهي: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لكي يتقوا الكفر، والكذب. ثم ذكر سبحانه مثلاً من الأمثال القرآنية للتذكير، والإيقاظ، فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي: تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها. ثم بيّن المثل، فقال: {رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون} قال الكسائي: نصب {رجلاً}؛ لأنه تفسير للمثل. وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: ضرب الله مثلاً برجل. وقيل: إن {رجلاً} هو المفعول الأوّل، و{مثلاً} هو المفعول الثاني، وأخر المفعول الأوّل؛ ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة: «ياس»، وجملة: {فِيهِ شُرَكَاء} في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف. قال الفراء: أي مختلفون.
وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكساً، فهو: شكس مثل عسر يعسر عسراً، فهو: عسر. قال الجوهري: التشاكس الاختلاف. قال: ويقال: رجل شكس بالتسكين، أي: صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله، وعبد آلهة كثيرة. ثم قال: {وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ} أي: خالصاً له، وهذا مثل من يعبد الله وحده. قرأ الجمهور: {سلما} بفتح السين، واللام، وقرأ سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو العالية بكسر السين، وسكون اللام. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والجحدري، وأبو عمرو، وابن كثير، ويعقوب: {سالماً} بالألف، وكسر اللام اسم فاعل من سلم له، فهو: سالم، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأن السالم الخالص ضدّ المشترك، والسلم ضدّ الحرب، ولا موضع للحرب ها هنا، وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فالسلم، وإن كان ضدّ الحرب، فله معنى آخر بمعنى: سالم، من سلم له كذا: إذا خلص له.
وأيضاً يلزمه في سالم ما ألزم به، لأنه يقال: شيء سالم، أي: لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى. والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذا سلم، ومثلها قراءة سعيد بن جبير، ومن معه.
ثم جاء سبحانه بما يدلّ على التفاوت بين الرجلين، فقال: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}، وهذا الاستفهام للإنكار، والاستبعاد، والمعنى: هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة، ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم، فيتعب، وينصب مع كون كل واحد منهم غير راضٍ بخدمته، وهذا الذي يخدم واحداً لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه. فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوّه باستوائهما، لأن أحدهما: في أعلى المنازل، والآخر: في أدناها، وانتصاب مثلاً على التمييز المحول عن الفاعل؛ لأن الأصل هل يستوي مثلهما، وأفرد التمييز، ولم يثنه؛ لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبيناً للجنس، وجملة: {الحمد للَّهِ} تقرير لما قبلها من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به. ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون، فقال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، وهم: المشركون، فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره، ووضوحه. قال الواحدي، والبغوي: والمراد بالأكثر الكلّ، والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه، وعلوّ مكانه، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختصّ به.
ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن الموت يدركه، ويدركهم لا محالة، فقال: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} قرأ الجمهور: {ميت} و{ميتون} بالتشديد، وقرأ ابن محيصن، وابن أبي عبلة، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، واليماني: {مائت ومائتون}، وبها قرأ عبد الله بن الزبير.
وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته، وموتهم مستقبلاً، ولا وجه للاستحسان، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى. قال الفراء: والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت، وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات، وفارقته الرّوح. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليهم أنفسهم. ووجه هذا الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد، أنه لا يموت مع كونه توطئة، وتمهيداً لما بعده حيث قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي: تخاصمهم يا محمد، وتحتجّ عليهم بأنك قد بلغتهم، وأنذرتهم، وهم يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر، والظالم المظلوم.
ثم بيّن سبحانه حال كل فريق من المختصمين، فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولداً، أو شريكاً، أو صاحبة {وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَاءهُ}، وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع، ونهيهم عن محرّماته، وإخبارهم بالبعث، والنشور، وما أعدّ الله للمطيع، والعاصي. ثم استفهم سبحانه استفهاماً تقريرياً، فقال: {أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي: أليس لهؤلاء المفترين المكذّبين بالصدق، والمثوى: المقام، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوى ثواء، وثوياً، مثل مضى مضاء، ومضياً.
وحكى أبو عبيد أنه يقال: أثوى، وأنشد قول الأعشى:
أثوى وأقصر ليله ليزودا ** ومضى وأخلف من قُتَيْلَةَ موعدا

وأنكر ذلك الأصمعي، وقال: لا نعرف أثوى. ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدّقين، فقال: {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصول في موضع رفع بالابتداء، وهو: عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تابعه، وخبره: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون}، وقيل: الذي جاء بالصدق رسول الله، والذي صدّق به أبو بكر.
وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب.
وقال السدّي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدّق به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة، ومقاتل، وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به المؤمنون.
وقال النخعي: الذي جاء بالصدق، وصدّق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة. وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله، وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير، وهو: الذي اختاره من هذه الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود: {والذين جاءوا بالصدق وصدّقوا به}. ولفظ {الذي} كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفرداً، فمعناه: الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} أي: المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة. وقرأ أبو صالح: {وصدق به} مخففاً، أي: صدق به الناس. ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين المصدّقين في الآخرة، فقال: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي: لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات، ودفع المضرّات، وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم، وتشويق بالغ، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدم ذكره من جزائهم، وهو: مبتدأ، وخبره قوله: {جَزَاء المحسنين} أي: الذين أحسنوا في أعمالهم.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» ثم بيّن سبحانه ما هو الغاية مما لهم عند ربهم، فقال: {لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ}، فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم؛ لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاءون، أو بالمحسنين، أو بمحذوف. قرأ الجمهور: {أسوأ} على أنه أفعل تفضيل. وقيل: ليست للتفضيل بل بمعنى: سيء الذي عملوا. وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسواء بألف بين الهمزة، والواو بزنة أجمال جمع سوء. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لما ذكر سبحانه ما يدلّ على دفع المضارّ عنهم ذكر ما يدلّ على جلب أعظم المنافع إليهم، وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصداً إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل. قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ.
وقد أخرج الآجرّي، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} قال: غير مخلوق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً} الآية قال: الرجل يعبد آلهة شتى، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان {وَرَجُلاً سَلَماً} يعبد إلها واحداً ضرب لنفسه مثلاً.
وأخرجا عنه أيضاً في قوله: {وَرَجُلاً سَلَماً} قال: ليس لأحد فيه شيء.
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، عن ابن عمر قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا، وفي أهل الكتابين من قبلنا {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} الآية، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا.
وأخرج نعيم بن حماد في الفتن، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت علينا الآية {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
وأخرج عبد الرّزاق، وأحمد، وابن منيع، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوّام قال: لما نزلت: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قلت: يا رسول الله أيكرّر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: «نعم ليكرّرن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حقّ حقه. قال الزبير: فوالله إن الأمر لشديد».
وأخرج سعيد بن منصور، عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {والذى جَاء بالصدق} يعني: بلا إله إلا الله {وَصَدَّقَ بِهِ} يعني: برسول الله صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} يعني: اتقوا الشرك.
وأخرج ابن جرير، والباوردي في معرفة الصحابة، وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان، وله صحبة عن عليّ بن أبي طالب قال: الذي جاء بالصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّق به أبو بكر.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله.

.تفسير الآيات (36- 42):

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}
قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} قرأ الجمهور: {عبده} بالإفراد. وقرأ حمزة، والكسائي: {عباده} بالجمع، فعلى القراءة الأولى المراد: النبي صلى الله عليه وسلم، أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أوّلياً، وعلى القراءة الأخرى المراد: الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور، لقوله عقبه: {ويخوّفونك}، والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره. وقيل: المراد بالعبد، والعباد: ما يعمّ المسلم، والكافر. قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن، وعبده الكافر هذا بالثواب، وهذا بالعقاب. وقرئ: {بكافي عباده} بالإضافة، وقرئ: {يكافي} بصيغة المضارع، وقوله: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى: أليس كافيك حال تخويفهم إياك؟ ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من حقّ عليه القضاء بضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الرّشد، ويخرجه من الضلالة. {وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يخرجه من الهداية، ويوقعه في الضلالة {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} أي: غالب لكل شيء قاهر له {ذِى انتقام} ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم، ولما يعبدون من دون الله هو: الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول، وكمال الإدراك، والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظنّ بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف، ويوبخهم، فقال: {قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي: أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضرّ، والضرّ هو: الشدّة، أو أعلى {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} عنِّي بحيث لا تصل إليّ، والرحمة النعمة، والرّخاء. قرأ الجمهور ممسكات، وكاشفات في الموضعين بالإضافة، وقرأهما أبو عمرو، بالتنوين. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكتوا، وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئاً من قدر الله، ولكنها تشفع، فنزل: {قُلْ حَسْبِىَ الله} في جميع أموري في جلب النفع، ودفع الضرّ {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} أي: عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم قراءة أبي عمرو، لأن كاشفات اسم فاعل في معنى: الاستقبال، وما كان كذلك، فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن، وعاصم.
ثم أمره سبحانه أن يهدّدهم، ويتوعدهم، فقال: {قُلْ ياقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي: على حالتكم التي أنتم عليها، وتمكنتم منها {إِنّى عامل} أي: على حالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهينه، ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل، وخصمه المحقّ، والمراد بهذا العذاب عذاب: الدنيا، وما حلّ بهم من القتل، والأسر، والقهر، والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة، فقال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي: دائم مستمرّ في الدار الآخرة، وهو: عذاب النار. ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضلّ، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} أي: لأجلهم، ولبيان ما كلفوا به، و{بالحق} حال من الفاعل، أو المفعول، أي: محقين، أو ملتبساً بالحقّ {فَمَنُ اهتدى} طريق الحق، وسلكها {فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ} عنها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: على نفسه، فضرر ذلك عليه لا يتعدّى إلى غيره {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ، وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا بأحكام الإسلام.
ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته البالغة، وصنعته العجيبة، فقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي: يقبضها عند حضور أجلها، ويخرجها من الأبدان {والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت، أي: لم يحضر أجلها في منامها.
وقد اختلف في هذا. فقيل: يقبضها عن التصرّف مع بقاء الروح في الجسد.
وقال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت، وفاتها نومها. قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما: نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، فلا يعقل، والأخرى: نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد، ولهذا قال: {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} أي: النائمة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، وهو الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج: ابن الأنباري.
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى}، فيعيدها، والأولى أن يقال: إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس، وحصول الآفة به في محل الحسّ، فيمسك التي قضى عليها الموت، ولا يردّها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها. قيل: ومعنى {يَتَوَفَّى الأنفس عِندَ مَوْتِهَا}: هو على حذف مضاف، أي: عند موت أجسادها.
وقد اختلف العقلاء في النفس، والروح هل هما شيء واحد، أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدًّا، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور: {قضى} مبنياً للفاعل، أي: قضى الله عليها الموت، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس}، والإشارة بقوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} إلى ما تقدّم من التوفي، والإمساك، والإرسال للنفوس {لآيَاتٍ} أي: لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك، ويتدبرونه، ويستدلون به على توحيد الله، وكمال قدرته. فإن في هذا التوفي، والإمساك، والإرسال موعظة للمتعظين، وتذكرة للمتذكرين.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} الآية قال: نفس، وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه تتقلب، وتعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح، فمات. وإن أخر أجله ردّ النفس إلى مكانها من جوفه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء، وأرواح الأموات في المنام، فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} لا يغلط بشيء منها، فذلك قوله: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك.
وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين».