فصل: تفسير الآيات (73- 75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 75):

{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}
لما ذكر فيما تقدّم حال الذين كفروا، وسوقهم إلى جهنم، ذكر هنا حال المتقين، وسوقهم إلى الجنة، فقال: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً} أي: ساقتهم الملائكة سوق إعزاز، وتشريف، وتكريم.
وقد سبق بيان معنى الزمر {حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها} جواب إذا محذوف. قال المبرد تقديره: سعدوا، وفتحت، وأنشد قول الشاعر:
فلو أنها نفس تموت جميعة ** ولكنها نفس تساقط أنفسا

فحذف جواب لو، والتقدير: لكان أروح.
وقال الزجاج: القول عندي: أن الجواب محذوف على تقدير: حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها، فالجواب دخولها، وحذف؛ لأن في الكلام دليلاً عليه.
وقال الأخفش، والكوفيون: الجواب {فتحت}، والواو زائدة، وهو خطأ عند البصريين، لأن الواو من حروف المعاني، فلا تزاد. قيل: إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله، والتقدير: حتى إذا جاءوها، وأبوابها مفتحة بدليل قوله: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} [ص: 50]، وحذفت الواو في قصة أهل النار، لأنهم وقفوا على النار، وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً، وترويعاً. ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم، قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد. وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد، أي: جاءوها، وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل: إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد: خمسة ستة سبعة، وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى، وفي سورة الكهف أيضاً.
ثم أخبر سبحانه: أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين، فقال: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ} أي: سلامة لكم من كلّ آفة {طِبْتُمْ} في الدنيا، فلم تتدنسوا بالشرك، والمعاصي. قال مجاهد: طبتم بطاعة الله، وقيل: بالعمل الصالح، والمعنى واحد. قال مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة، والنار، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا، وطيبوا قال لهم رضوان، وأصحابه: {سلام عَلَيْكُمُ} الآية {فادخلوها} أي: ادخلوا الجنة {خالدين} أي: مقدّرين الخلود، فعند ذلك قال أهل الجنة: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث، والثواب بالجنة {وَأَوْرَثَنَا الأرض} أي: أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم، فملكوها، وتصرفوا فيها. وقيل: إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين. قاله أكثر المفسرين. وقيل: إنها أرض الدنيا، وفي الكلام تقديم، وتأخير {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} أي: نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، أي: فنعم أجر العاملين الجنة، وهذا من تمام قول أهل الجنة.
وقيل: هو من قول الله سبحانه: {وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} أي: محيطين محدقين به، يقال: حفّ القوم بفلان إذا أطافوا به، و{من} مزيدة. قاله الأخفش، أو للابتداء، والمعنى: أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم، وجملة: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} في محل نصب على الحال، أي: حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده. وقيل: معنى يسبحون: يصلون حول العرش شكراً لربهم، والحافين جمع حافّ، قاله الأخفش.
وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي: بين العباد بإدخال بعضهم الجنة، وبعضهم النار، وقيل: بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء، وبين أممهم بالحق. وقيل: بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم، والأوّل أولى. {وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين} القائلون هم: المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم، وبين أهل النار بالحق. وقيل: القائلون هم: الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم، وقضائه بين عباده بالحقّ.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة».
وأخرجا، وغيرهما عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب: الريان لا يدخله إلا الصائمون» وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين، وغيرهما.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض} قال: أرض الجنة.
وأخرج هناد عن أبي العالية مثله.

.سورة غافر:

وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول.
وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر.
قال الحسن: إلا قوله: {وسبح بحمد ربك}؛ لأن الصلوات نزلت بالمدينة.
وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين نزلتا بالمدينة، وهما: {إن الذين يجادلون في آيات الله} والتي بعدها.
وهي خمس وثمانون آية.
وقيل: اثنتان وثمانون آية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت سورة حم المؤمن بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت الحواميم السبع بمكة.
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب قال: نزلت الحواميم جميعا بمكة.
وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي».
وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شيء لبابا، وإن لباب القرآن آل حم.
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج روضات دمثات أتأنق فيهن.
وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحوميم ديباج القرآن».
وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحواميم سبع وأبواب النار سبع، تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني».
وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم المؤمن إلى: {إليه المصير}، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح».

.تفسير الآيات (1- 9):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
قوله: {حم} قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعاً، وقرأ حمزة، والكسائي بإمالته إمالة محضة. وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين، وقرأ الجمهور: {حم} بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر، أو مبتدأ، والخبر ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر، أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب. وقرأ ابن أبي إسحاق، وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم. وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم. وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه، فقيل: هو اسم من أسماء الله، وقيل: اسم من أسماء القرآن.
وقال الضحاك، والكسائي معناه: قضى، وجعلاه بمعنى حمّ أي: قضى، ووقع، وقيل: معناه حمّ أمر الله، أي: قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه. وهذا كله تكلف لا موجب له، وتعسف لا ملجئ إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدّمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة.
{تَنزِيلُ الكتاب} هو: خبر ل {حم} على تقدير أنه مبتدأ، أو خبر لمبتدأ مضمر، أو هو: مبتدأ، وخبره {مِنَ الله العزيز العليم} قال الرازي: المراد بتنزيل المنزل، والمعنى: أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه. والعزيز: الغالب القاهر، والعليم: الكثير العلم بخلقه، وما يقولونه، ويفعلونه. {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب} قال الفرّاء: جعلها كالنعت للمعرفة، وهي: نكرة، ووجه قوله هذا: أن إضافتها لفظية، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه: إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة، وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة. وأما الكوفيون، فلم يستثنوا شيئاً بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص، فيجوّزون في {شديد} هنا أن تكون إضافته محضة. وعلى قول سيبويه: لابد من تأويله بمشدّد.
وقال الزجاج: إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل.
وروي عنه: أنه جعل غافر، وقابل مخفوضين على الوصف، وشديد مخفوض على البدل، والمعنى: غافر الذنب لأوليائه، وقابل توبتهم، وشديد العقاب لأعدائه، والتوب مصدر بمعنى: التوبة من تاب يتوب توبة، وتوباً، وقيل: هو جمع توبة، وقيل: غافر الذنب لمن قال: لا إله إلا الله، وقابل التوب من الشرك، وشديد العقاب لمن لا يوحده، وقوله: {ذِى الطول} يجوز أن يكون صفة، لأنه معرفة، وأن يكون بدلاً، وأصل الطول الإنعام، والتفضل، أي: ذي الإنعام على عباده، والتفضل عليهم.
وقال مجاهد: ذي الغنى، والسعة. ومنه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] أي: غنى، وسعة، وقال عكرمة: ذي الطول ذي المنّ.
قال الجوهري: والطول بالفتح المنّ يقال منه: طال عليه، ويطول عليه إذا امتنّ عليه.
وقال محمد بن كعب: ذي الطول ذي التفضل. قال الماورودي: والفرق بين المنّ، والتفضل: أن المنّ عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحقّ. ثم ذكر ما يدلّ على توحيده، وأنه الحقيق بالعبادة، فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير} لا إلى غيره، وذلك في اليوم الآخر.
ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله؛ ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله، فقال: {مَا يجادل في ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} أي: ما يخاصم في دفع آيات الله، وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمراد: الجدال بالباطل، والقصد إلى دحض الحقّ كما في قوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق}. فأما الجدال لاستيضاح الحقّ، ورفع اللبس، والبحث عن الراجح، والمرجوح، وعن المحكم، والمتشابه، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردّهم بالجدال إلى المحكم، فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب، فقال: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، وقال: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} [البقرة: 159]، وقال: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في البلاد} لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغترّ بشيء من حظوظهم الدنيوية، فقال: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد، وما يحصلونه من الأرباح، ويجمعونه من الأموال، فإنهم معاقبون عما قليل، وإن أمهلوا، فإنهم لا يهملون. قال الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. قرأ الجمهور: {لا يغررك} بفك الإدغام. وقرأ زيد بن عليّ، وعبيد بن عمير بالإدغام.
ثم بيّن حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} الضمير في من بعدهم يرجع إلى قوم نوح، أي: وكذبت الأحزاب الذين تحزّبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد، وثمود {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: همت كلّ أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم؛ ليأخذوه؛ ليتمكنوا منه، فيحبسوه، ويعذبوه، ويصيبوا منه ما أرادوا.
وقال قتادة، والسدّي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى: الإهلاك، كقوله: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] والعرب تسمي الأسير: الأخيذ {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} أي: خاصموا رسولهم بالباطل من القول، ليدحضوا به الحق؛ ليزيلوه، ومنه مكان دحض، أي: مزلقة، ومزلة أقدام، والباطل داحض؛ لأنه يزلق، ويزول، فلا يستقرّ.
قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا به الإيمان {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلا، ووقفا؛ لأنها رأس آية {وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أي: وجبت، وثبتت، ولزمت، يقال: حقّ الشيء إذا لزم، وثبت، والمعنى: وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به، وجادلوك بالباطل، وتحزبوا عليك، وجملة: {أَنَّهُمْ أصحاب النار} للتعليل، أي: لأجل أنهم مستحقون للنار. قال الأخفش: أي لأنهم، أو بأنهم. ويجوز أن تكون في محل رفع بدلاً من كلمة. قرأ الجمهور: {كلمة} بالتوحيد، وقرأ نافع، وابن عامر: {كلمات} بالجمع.
ثم ذكر أحوال حملة العرش، ومن حوله، فقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ}، والموصول مبتدأ، وخبره يسبحون بحمد ربهم، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله، والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله، ورسوله، وصدّقوا، والمراد بمن حول العرش: هم: الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهو في محل رفع عطفاً على الذين يحملون العرش، وهذا هو الظاهر. وقيل: يجوز أن تكون في محل نصب عطفاً على العرش، والأوّل أولى. والمعنى: أن الملائكة الذين يحملون العرش، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله ملتبسين بحمده على نعمه، ويؤمنون بالله، ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به. ثم بيّن سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين، فقال حاكياً عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَئ رَّحْمَةً وَعِلْماً}، وهو بتقدير القول، أي يقولون ربنا، أو قائلين: ربنا وسعت كل شيء رحمة، وعلماً. انتصاب {رحمة}، و{علماً} على التمييز المحوّل عن الفاعل، والأصل وسعت رحمتك، وعلمك كل شيء {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} أي: أوقعوا التوبة عن الذنوب، واتبعوا سبيل الله، وهو دين الإسلام {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} أي: احفظهم منه.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ} و{أدخلهم} معطوف على قوله: {قهم}، ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها {التى وَعَدْتَّهُمْ} إياها {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} أي: وأدخل من صلح، والمراد بالصلاح ها هنا: الإيمان بالله، والعمل بما شرعه الله، فمن فعل ذلك، فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف، ومن صلح على الضمير في وعدتهم، أي: ووعدت من صلح، والأولى عطفه على الضمير الأوّل في وأدخلهم، قال الفراء، والزجاج: نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم. وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي عيلة بضمها، وقرأ الجمهور: {وذرياتهم} على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة.
{وَقِهِمُ السيئات} أي: العقوبات، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف. قال قتادة: وقهم ما يسوؤهم من العذاب {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} يقال: وقاه يقيه وقاية، أي: حفظه، ومعنى {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي: رحمته من عذابك، وأدخلته جنتك، والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى ما تقدّم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات، وهو مبتدأ، وخبره: {هُوَ الفوز العظيم} أي: الظفر الذي لا ظفر مثله، والنجاة التي لا تساويها نجاة.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: {حم} اسم من أسماء الله.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وأبو عبيد، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وأبو داود، والترمذي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال: حدّثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق: «إن أتيتم الليلة، فقولوا حملا ينصرون».
وأخرج ابن أبي شيبة، والنسائي، والحاكم، وابن مردويه عن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تلقون عدوّكم، فليكن شعاركم حملا ينصرون».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {ذِى الطول} قال: ذي السعة، والغنى.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {غَافِرِ الذنب} الآية قال: غافر الذنب لمن يقول: لا إله إلاّ الله {وَقَابِلِ التوب} ممن يقول: لا إله إلاّ الله {شَدِيدُ العقاب} لمن لا يقول: لا إله إلاّ الله {ذِى الطول} ذي الغنى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كانت كفار قريش لا يوحدونه، فوحد نفسه {إِلَيْهِ المصير} مصير من يقول: لا إله إلاّ الله، فيدخله الجنة، ومصير من لا يقول: لا إله إلاّ الله، فيدخله النار.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن جدالاً في القرآن كفر».
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مراء في القرآن كفر».