فصل: تفسير الآيات (15- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 24):

{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}
لما ذكر سبحانه عادًا، وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً، فقال: {فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: تكبروا عن الإيمان بالله، وتصديق رسله، واستعلوا على من في الأرض بغير الحق، أي: بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر، والتجبر. ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار، فقال: {وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، وكانوا ذوي أجسام طوال، وقوّة شديدة، فاغترّوا بأجسامهم حين تهدّدهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول: أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب، فردّ الله عليهم بقوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، والاستفهام للاستنكار عليهم، وللتوبيخ لهم، أي: أو لم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن، فيكون {وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} أي: بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها، وجعلها دليلاً على نبوّتهم، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا، أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم، وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك. ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الصرصر: الريح الشديدة الصوت من الصرّة، وهي: الصيحة. قال أبو عبيدة: معنى صرصر: شديدة عاصفة.
وقال الفراء: هي: الباردة تحرق كما تحرق النار.
وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة: هي: الباردة، وأنشد قطرب قول الحطيئة:
المطعمون إذا هبت بصرصرة ** والحاملون إذا استودوا عن الناس

أي: إذا سئلوا الدية.
وقال مجاهد: هي: الشديدة السموم، والأولى تفسيرها بالبرد، لأن الصرّ في كلام العرب البرد، ومنه قول الشاعر:
لها غرد كقرون النسا ** ء ركبن في يوم ريح وصر

قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصرّ، وهو: البرد، ويجوز أن يكون من صرصر الباب، ومن الصرة وهي: الصيحة، ومنه: {فَأَقْبَلَتِ امرأته في صَرَّةٍ} [الذاريات: 29]. ثم بيّن سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم، فقال: {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} أي: مشئومات ذوات نحوس. قال مجاهد، وقتادة: كنّ آخر شوّال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك سبع ليال، وثمانية أيام حسوماً. وقيل: نحسات باردات. وقيل: متتابعات. وقيل: شداد. وقيل: ذوات غبار. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {نحسات} بإسكان الحاء على أنه جمع نحس، وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله: {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ} [القمر: 19] واختار أبو عبيدة القراءة الثانية. {لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا} أي: لكي نذيقهم، والخزي هو: الذل، والهوان بسبب ذلك الاستكبار {وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى} أي: أشدّ إهانة، وذلاً، ووصف العذاب بذلك، وهو في الحقيقة وصف للمعذبين، لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} أي: لا يمنعون من العذاب النازل بهم، ولا يدفعه عنهم دافع.
ثم ذكر حال الطائفة الأخرى، فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} أي: بينا لهم سبيل النجاة، ودللناهم على طريق الحقّ بإرسال الرسل إليهم، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله، ويصدّق رسله. قال الفراء: معنى الآية: دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل. قرأ الجمهور: {وأما ثمود} بالرفع، ومنع الصرف. وقرأ الأعمش، وابن وثاب بالرفع، والصرف، وقرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، وعاصم في رواية بالنصب، والصرف وقرأ الحسن، وابن هرمز، وعاصم في رواية بالنصب، والمنع، فأما الرفع، فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وأما النصب فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب، أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وقال أبو العالية: اختاروا العمى على البيان، وقال السدّي: اختاروا المعصية على الطاعة {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} قد تقدّم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأيّ شيء كان، والهون الهوان والإهانة، فكأنه قال: أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة، ويقال عذاب هون، أي: مهين كقوله: {مَا لَبِثُواْ في العذاب المهين} [سبأ: 14]، والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} للسببية، أي: بسبب الذي كانوا يكسبونه، أو بسبب كسبهم {وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ}، وهم: صالح ومن معه من المؤمنين، فإن الله نجاهم من ذلك العذاب، ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة، فقال: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله إِلَى النار}، وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم، والعامل في الظرف محذوف دلّ عليه ما بعده تقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو باذكر، أي: اذكر يوم يحشرهم. قرأ الجمهور: {يحشر} بتحتية مضمومة، ورفع أعداء على النيابة، وقرأ نافع: {نحشر} بالنون، ونصب أعداء، ومعنى حشرهم إلى النار: سوقهم إليها، أو إلى موقف الحساب، لأنه يتبين عنده فريق الجنة، وفريق النار {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي: يحبس أوّلهم على آخرهم؛ ليتلاحقوا ويجتمعوا، كذا قال قتادة، والسدّي، وغيرهما، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى.
{حتى إِذَا مَا جَاءوهَا} أي: جاءوا النار التي حشروا إليها، أو موقف الحساب، و{ما} مزيدة للتوكيد {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا من المعاصي. قال مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك، والمراد بالجلود هي: جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين.
وقال السدّي، وعبيد الله بن أبي جعفر، والفراء: أراد بالجلود الفروج، والأوّل أولى {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} وجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها ما ذكره الرازي أن الحواس الخمس وهي: السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، وآلة المس هي الجلد، فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس، وهي: السمع، والبصر، واللمس، وأهمل ذكر نوعين، وهما: الذوق، والشم، فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم المشموم، فكانا داخلين في جنس اللمس، وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال، لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس، فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر وأما على قول من فسر الجلود بالفروج، فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر، لأنه ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحاً، وأجلب للخزي والعقوبة، وقد قدّمنا وجه إفراد السمع، وجمع الأبصار {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَئ} أي: أنطق كلّ شيء مما ينطق من مخلوقاته، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح.
وقيل: المعنى: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله، والأوّل أولى {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قيل: هذا من تمام كلام الجلود. وقيل: مستأنف من كلام الله، والمعنى: أن من قدر على خلقكم، وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم، ورجعكم إليه.
{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} هذا تقريع لهم، وتوبيخ من جهة الله سبحانه، أو من كلام الجلود، أي: ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذراً من شهادة الجوارح عليكم، ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا: ترك المعصية. وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء، أي: ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة و{أن} في قوله: {أَن تَشْهَدَ} في محل نصب على العلة، أي: لأجل أن تشهد، أو مخافة أن تشهد. وقيل: منصوبة بنزع الخافض، وهو: الباء أو عن أو من. وقيل: إن الاستتار مضمن معنى الظنّ، أي: وما كنتم تظنون أن تشهد، وهو: بعيد {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْلَمُونَ} من المعاصي، فاجترأتم على فعلها. قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسرّ. قال قتادة: الظنّ هنا بمعنى: العلم وقيل: أريد بالظنّ معنى مجازي يعمّ معناه الحقيقي، وما هو فوقه من العلم، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى ما ذكر من ظنهم، وهو: مبتدأ وخبره: {ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ}، وقوله: {أَرْدَاكُمْ} خبر آخر للمبتدأ. وقيل: إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدّرة.
وقيل: إن ظنكم بدل من ذلكم، والذي ظننتم خبره، وأرداكم خبر آخر، أو حال، وقيل: إن ظنكم خبر أوّل، والموصول وصلته خبر ثان، وأرداكم خبر ثالث، والمعنى: أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أهلككم، وطرحكم في النار {فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين} أي: الكاملين في الخسران.
ثم أخبر عن حالهم، فقال: {فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي: فإن يصبروا على النار، فالنار مثواهم، أي: محل استقرارهم، وإقامتهم لا خروج لهم منها. وقيل: المعنى: فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار، فالنار مثوى لهم {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين} يقال: أعتبني فلان، أي: أرضاني بعد إسخاطه إياي، واستعتبته طلبت منه أن يرضى، والمعنى: أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع، لأنهم لا يستحقون ذلك. قال الخليل: تقول: استعبته، فأعتبني، أي: استرضيته، فأرضاني، ومعنى الآية: إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم، بل لابد لهم من النار. قرأ الجمهور: {يستعتبوا} بفتح التحتية، وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل. وقرءوا: {من المعتبين} بفتح الفوقية اسم مفعول، وقرأ الحسن، وعبيد بن عمير، وأبو العالية: {يستعتبوا} مبنياً للمفعول {فما هم من المعتبين} اسم فاعل، أي: إنهم إن أقالهم الله، وردّهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقد أخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} قال: يحبس أوّلهم على آخرهم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يدفعون.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت مستتراً بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر: قرشي وثقفيان، أو ثقفيّ وقرشيان، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخران: إن سمع منه شيئاً سمعه كله؛ قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} إلى قوله: {مّنَ الخاسرين}.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشرون ها هنا، وأومأ بيده إلى الشام، مشاة وركباناً، وعلى وجوهكم، وتعرضون على الله، وعلى أفواهكم الفدام، وأوّل ما يعرب عن أحدكم، فخذه وكتفه» وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ}.
وأخرج أحمد، وأبو داود الطيالسي، وعبد بن حميد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوماً قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين}».

.تفسير الآيات (25- 36):

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}
قوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء} أي: هيأنا قرناء من الشياطين.
وقال الزجاج: سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم. وقيل: سلطنا عليهم قرناء. وقيل: قدّرنا، والمعاني متقاربة، وأصل التقييض التيسير، والتهيئة، والقرناء جمع قرين، وهم: الشياطين، جعلهم بمنزلة الأخلاء لهم. وقيل: إن الله قيض لهم قرناء في النار، والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} فإن المعنى: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة، فقالوا: لا بعث، ولا حساب، ولا جنة، ولا نار.

وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه.
وروي عن الزجاج أيضاً، أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث، ولا جنة، ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: وجب، وثبت عليهم العذاب، وهو قوله سبحانه: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] و{فِى أُمَمٍ} في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، والمعنى: كائنين في جملة أمم. وقيل: في بمعنى مع، أي: مع أمم من الأمم الكافرة التي {قَدْ خَلَتْ} ومضت {مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} على الكفر، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل لاستحقاقهم العذاب.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان} أي: قال بعضهم لبعض: لا تسمعوه، ولا تنصتوا له. وقيل: معنى لا تسمعوا: لا تطيعوا، يقال: سمعت لك، أي: أطعتك {والغوا فِيهِ} أي: عارضوه باللغو والباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له.
وقال مجاهد: الغوا فيه بالمكاء، والتصدية، والتصفيق، والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً.
وقال الضحاك: أكثروا الكلام؛ ليختلط عليه ما يقول.
وقال أبو العالية: قعوا فيه، وعيبوه. قرأ الجمهور: {والغوا} بفتح الغين، من لغا إذا تكلم باللغو، وهو: ما لا فائدة فيه، أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضاً كما حكاه الأخفش، وقرأ عيسى بن عمر، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وبكر بن حبيب السهمي، وقتادة، والسماك، والزعفراني بضم الغين.
وقد تقدّم الكلام في اللغو في سورة البقرة {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي: لكي تغلبوهم، فيسكتوا. ثم توعدهم سبحانه على ذلك، فقال: {فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً}، وهذا وعيد لجميع الكفار، ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولاً أوّلياً {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. قال مقاتل: وهو: الشرك. وقيل: المعنى: أنه يجازيهم بمساوئ أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام، وإكرام الضيف، لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم، وهو: مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، وجملة {جَزَاء أَعْدَاء الله النار} مبينة للجملة التي قبلها، والأوّل أولى، وتكون النار عطف بيان للجزاء، أو بدلاً منه، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ والخبر: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ}.
وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقرّرة لما قبلها، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها {جَزَاء أَعْدَاء الله النار لَهُمْ} أي: يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله. قال مقاتل: يعني: القرآن يجحدون أنه من عند الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له، إقامة للسبب مقام المسبب.
{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس} قالوا: هذا وهم في النار، وذكره بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، والمراد: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن، والإنس من الشياطين الذين كانوا يسوّلون لهم، ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر. وقيل: المراد إبليس، وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم. قرأ الجمهور: {أرنا} بكسر الراء. وقرأ ابن محيصن، والسوسي عن أبي عمرو، وابن عامر بسكون الراء، وبها قرأ أبو بكر، والمفضل، وهما لغتان بمعنى واحد.
وقال الخليل: إذا قلت أرني ثوبك بالكسر، فمعناه: بصرنيه، وبالسكون: أعطنيه {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي: ندسهما بأقدامنا، لنشتفي منهم. وقيل: نجعلهم أسفل منا في النار {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} فيها مكاناً، أو ليكونا من الأذلين المهانين. وقيل: ليكونوا أشد عذاباً منا.
ثم لما ذكر عقاب الكافرين، وما أعدّه لهم ذكر حال المؤمنين، وما أنعم عليهم به، فقال: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله} أي: وحده لا شريك له {ثُمَّ استقاموا} على التوحيد، ولم يلتفتوا إلى إلاه غير الله. قال جماعة من الصحابة، والتابعين: معنى الاستقامة: إخلاص العمل لله.
وقال قتادة، وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله.
وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته.
وقال مجاهد، وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلاّ الله حتى ماتوا.
وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا.
وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله.
وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة} من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع، أو دفع ضرر، أو رفع حزن. قال ابن زيد، ومجاهد: تتنزل عليهم عند الموت.
وقال مقاتل، وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث.
وقال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث {ألا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ} أن هي: المخففة، أو المفسرة، أو الناصبة، و{لا} على الوجهين الأوّلين ناهية، وعلى الثالث نافية، والمعنى: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل، وولد، ومال.
قال مجاهد: لا تخافوا الموت، ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله خليفتكم عليهم.
وقال عطاء: لا تخافوا ردّ ثوابكم، فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم. والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف، والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع {وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} بها في الدنيا، فإنكم واصلون إليها مستقرّون بها خالدون في نعيمها.
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله، فقال: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الحياة الدنيا وَفِى الأخرة} أي: نحن المتولون لحفظكم، ومعونتكم في أمور الدنيا، وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه فاز بكلّ مطلب، ونجا من كلّ مخافة. وقيل: إن هذا من قول الملائكة. قال مجاهد: يقولون لهم: نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة.
وقال السدّي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل: إنهم يشفعون لهم في الآخرة، ويتلقونهم بالكرامة {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من صنوف اللذات، وأنواع النعم {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي: ما تتمنون، افتعال من الدعاء بمعنى: الطلب، وقد تقدّم بيان معنى هذا في قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] مستوفى، والفرق بين الجملتين: أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً.
وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله: {دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم} [يونس: 10] الآية، وانتصاب {نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} على الحال من الموصول، أو من عائده، أو من فاعل تدّعون، أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: أنزلناه نزلاً، والنزل: ما يعدّ لهم حال نزولهم من الرزق، والضيافة، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله} أي: إلى توحيد الله، وطاعته. قال الحسن: هو المؤمن أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته {وَعَمِلَ صالحا} في إجابته {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} لربي.
وقال ابن سيرين، والسدّي، وابن زيد: هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي هذا أيضاً عن الحسن.
وقال عكرمة، وقيس بن أبي حازم، ومجاهد: نزلت في المؤذنين. ويجاب عن هذا بأن الآية مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة. والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله، وعمل عملاً صالحاً، وهو: تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم، فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثواباً من عمله.
ثم بيّن سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال، ومساويها، فقال: {وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة} أي: لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها، ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله، ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي، فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل: الحسنة التوحيد، والسيئة الشرك. وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقيل: الحسنة العلم، والسيئة الفحش. قال الفراء: {لا} في قوله، {ولا السيئة} زائدة {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} أي: ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات.
وقال مجاهد، وعطاء: بالتي هي أحسن يعني: بالسلام إذا لقي من يعاديه. وقيل: بالمصافحة عند التلاقي {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدوّ كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك.
وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم، فصار ولياً في الإسلام حميماً بالصهارة. وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} قال الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة، وهذه الحالة، وهي: دفع السيئة بالحسنة إلاّ الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} في الثواب والخير.
وقال قتادة: الحظ العظيم: الجنة، أي: ما يلقاها إلاّ من وجبت له الجنة. وقيل: الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة. وقيل: راجع إلى كلمة التوحيد. قرأ الجمهور: {يلقاها} من التلقية، وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية عنه: {يلاقاها} من الملاقاة، ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من الشيطان، فقال: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة، لأنها تبعث على الشرّ؛ والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك، أو عن الدفع بالتي هي أحسن، فاستعذ بالله من شرّه، وجعل النزغ نازغاً على المجاز العقلي كقولهم: جدّ جدّه، وجملة: {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} تعليل لما قبلها، أي: السميع لكلّ ما يسمع، والعليم بكلّ ما يعلم، ومن كان كذلك، فهو يعيذ من استعاذ به.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه، ويقولون: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحبّ أن يسمع القرآن، فأنزل الله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110].
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب: أنه سئل عن قوله: {رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس} قال: هو: ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس.
وأخرج الترمذي، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، وابن مردويه عن أنس قال: «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال: قد قالها ناس من الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حين يموت، فهو ممن استقام عليها».
وأخرج ابن المبارك، وعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، ومسدد، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق في قوله: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال: الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً.
وأخرج ابن راهويه، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال: ما تقولون في هاتين الآيتين: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا}، و{الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]؟ قالوا: الذين قالوا: ربنا الله، ثم عملوا بها، واستقاموا على أمره، فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا، قال: لقد حملتموهما على أمر شديد {الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ} يقول: بشرك، والذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان.
وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة: ثم استقاموا على فرائض الله.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: {ثُمَّ استقاموا} قال: على شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن المبارك، وسعيد بن منصور، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} قال: استقاموا بطاعة الله، ولم يروغوا روغان الثعلب.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والبخاري في تاريخه، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، عن سفيان الثقفي، أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم، قلت: فما أتقي؟ فآوى إلى لسانه.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عائشة في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله} قالت: المؤذن {وَعَمِلَ صالحا} قالت: ركعتان فيما بين الأذان، والإقامة.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلاّ في المؤذنين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} قال: أمر المسلمين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوّهم {كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ}.
وأخرج ابن مردويه عنه {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} قال: القه بالسلام، فإذا الذي بينك، وبينه عداوة كأنه وليّ حميم.
وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} قال: الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقاً، فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً، فغفر الله لك.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقال الرجل: أمجنون تراني؟، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم}.