فصل: تفسير الآيات (38- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (38- 59):

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: بين جنسي السماء، والأرض {لاَعِبِينَ} أي: لغير غرض صحيح. قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شيء.
وقال الكلبي: لاهين، وقيل: غافلين. قرأ الجمهور: {وما بينهما} وقرأ عمرو بن عبيد: {وما بينهنّ} لأن السموات، والأرض جمع، وانتصاب {لاعبين} على الحال {مَا خلقناهما} أي: وما بينهما {إِلاَّ بالحق} أي: إلا بالأمر الحق، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.
وقال الكلبي: إلا للحق، وكذا قال الحسن، وقيل: إلاّ لإقامة الحق، وإظهاره {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك، وهم المشركون {إِنَّ يَوْمَ الفصل ميقاتهم أَجْمَعِينَ} أي: إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم، أي: الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، {أجمعين} لا يخرج عنهم أحد من ذلك.
وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر {إن} واسمها {يوم الفصل}. وأجاز الكسائي، والفراء نصبه على أنه اسمها، و{يوم الفصل} خبرها. ثم وصف سبحانه ذلك اليوم، فقال: {يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} {يوم} بدل من {يوم الفصل}، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل، أي: يفصل بينهم يوم لا يغني، ولا يجوز أن يكون معمولاً للفصل؛ لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي، والمعنى: أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريباً، ولا يدفع عنه شيئاً، ويطلق المولى على الوليّ، وهو: القريب، والناصر {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى؛ لأنه نكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم، أي: ولا هم يمنعون من عذاب الله {إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} قال الكسائي: الاستثناء منقطع، أي: لكن من رحم الله، وكذا قال الفراء. وقيل: هو متصل، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة، فيشفعون، ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل من {مولى} الأوّل، أو من الضمير في {ينصرون} {إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم} أي: الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين. ثم لما وصف اليوم ذكر بعده، وعيد الكفار، فقال: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} شجرة الزّقوم هي: الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها، فأكلوا منها، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات. والأثيم: الكثير الإثم. قال في الصحاح: أثم الرجل بالكسر إثماً، ومأثماً: إذا وقع في الإثم، فهو: آثم، وأثيم، وأثوم. فمعنى طعام الأثيم: ذي الإثم {كالمهل} وهو: درديّ الزيت، وعكر القطران. وقيل: هو النحاس المذاب.
وقيل: كلّ ما يذوب في النار {يَغْلِى في البطون * كَغَلْىِ الحميم} قرأ الجمهور: {تغلي} بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة، والجملة خبر ثانٍ، أو حال، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: تغلي غلياً مثل غلي الحميم، وهو: الماء الشديد الحرارة. وقرأ ابن كثير، وحفص، وابن محيصن، وورش، عن يعقوب: {يغلي} بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام وهو: في معنى الشجرة، ولا يصح أن يكون الضمير عائداً إلى المهل؛ لأنه مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل، وقوله: {كَغَلْىِ الحميم} صفة مصدر محذوف، أي: غلياً كغلي الحميم {خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَاء الجحيم} أي: يقال للملائكة الذين هم خزنة النار: خذوه، أي: الأَثيم، فاعتلوه، العتل: القود بالعنف، يقال: عتله يعتله، إذا جرّه، وذهب به إلى مكروه، وقيل العتل: أن يأخذ بتلابيب الرجل، ومجامعه، فيجره، ومنه قول الشاعر يصف فرساً:
نقرعه قرعاً ولسنا نعتله

ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً:
حتى تردّ إلى عطية تعتل

قرأ الجمهور: {فاعتلوه} بكسر التاء. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر بضمها، وهما: لغتان {إلى سَوَاء الجحيم} أي: إلى وسطه، كقوله: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} {من} هي التبعيضية، أي: صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان، أي: عذاب هو الحميم، وهو: الماء الشديد الحرارة كما تقدّم {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي: وقولوا له تهكماً، وتقريعاً، وتوبيخاً: ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم. وقيل: إن أبا جهل كان يزعم أنه أعزّ أهل الوادي، وأكرمهم، فيقولون له: ذق العذاب أيها المتعزّز المتكرم في زعمك، وفيما كنت تقوله. قرأ الجمهور: {إنك} بكسر الهمزة، وقرأ الكسائي- وروي ذلك عن عليّ- بفتحها أي لأنك. قال الفراء: أي: بهذا القول الذي قلته في الدنيا، والإشارة بقوله: {إِنَّ هَذَا} إلى العذاب {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي: تشكون فيه حين كنتم في الدنيا، والجمع باعتبار جنس الأثيم. ثم ذكر سبحانه مستقرّ المتقين، فقال: {إِنَّ المتقين في مَقَامٍ أَمِينٍ} أي: الذين اتقوا الكفر والمعاصي. قرأ الجمهور: {مقام} بفتح الميم، وقرأ نافع، وابن عامر بضمها. فعلى القراءة الأولى هو: موضع القيام، وعلى القراءة الثانية هو: موضع الإقامة قاله الكسائي، وغيره.
وقال الجوهري: قد يكون كل واحد منهما بمعنى: الإقامة، وقد يكون بمعنى: موضع القيام. ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف {فِى جنات وَعُيُونٍ} بدل من {مقام أمين}، أو بيان له، أو خبر ثانٍ {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} خبر ثانٍ، أو ثالث، أو حال من الضمير المستكنّ في الجار والمجرور، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه، وقد تقدّم بيانه في سورة الكهف، وانتصاب {متقابلين} على الحال من فاعل {يلبسون}، أي: متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض، والكاف في قوله: {كذلك} إما نعت مصدر محذوف، أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك.
أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} أي: أكرمناهم بأن زوّجناهم بحور عين، والحور جمع حوراء وهي: البيضاء، والعين جمع عيناء: وهي الواسعة العينين.
وقال مجاهد: إنما سميت الحوراء حوراء، لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل: هو من حور العين وهو: شدّة بياض العين في شدّة سوادها كذا قال أبو عبيدة.
وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين. قال أبو عمرو: الحور أن تسودّ العين كلها مثل أعين الظباء والبقر، قال: وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء حور: لأنهنّ شبهن بالظباء والبقر. قيل: والمراد بقوله: {زوّجناهم} قرناهم، وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال: زوّجته بامرأة.
وقال أبو عبيدة: وجعلناهم أزواجاً لهنّ كما يزوّج البعل بالبعل أي: جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال الأخفش {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءامِنِينَ} أي: يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم، والأسقام، والآلام. قال قتادة: آمنين من الموت، والوصب، والشيطان، وقيل: من انقطاع ما هم فيه من النعيم. {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} أي: لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا، والاستثناء منقطع، أي: لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا، كذا قال الزّجاج والفراء، وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وقيل: إن {إلا} بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك، أي: بعد رجل عندك، وقيل: هي بمعنى: سوى، أي: سوى الموتة الأولى.
وقال ابن قتيبة: إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا، فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها، ومشاهدتهم إياها، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً. واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية {ووقاهم عَذَابَ الجحيم}. قرأ الجمهور: {وقاهم} بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة {فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي: لأجل الفضل منه، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي: ذلك الذي تقدّم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده، المتناهي في العظم. ثم لما بيّن سبحانه الدلائل، وذكر الوعد، والوعيد، قال: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك، فيتذكروا، ويعتبروا، ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك، وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} أي: فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم، وإهلاكهم على يدك، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت، أو غيره، وقيل: انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر، والمعنى متقارب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} يقول: لست بعزيز، ولا كريم.
وأخرج الأموي في مغازيه، عن عكرمة قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: «إن الله أمرني أن أقول لك: {أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى}» [القيامة: 34، 35] قال: فنزع يده من يده، وقال: ما تستطيع لي أنت، ولا صاحبك من شيء، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذله، وعيره بكلمته، وأنزل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم}.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} قال: المهل.
وأخرج عنه أيضاً: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} قال: هو أبو جهل بن هشام.

.سورة الجاثية:

هي سبع وثلاثون آية.
وقيل: ست وثلاثون.
وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.
وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا آية منها، وهي قوله: {للذين آمنوا} إلى {أيام الله} فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي.

.تفسير الآيات (1- 15):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}
قوله: {حم} قد تقدّم الكلام في هذه الفاتحة، وفي إعرابها، في فاتحة سورة غافر، وما بعدها، فإن جعل اسماً للسورة، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وإن جعل حروفاً مسرودة على نمط التعديد، فلا محلّ له، وقوله: {تَنزِيلُ الكتاب} على الوجه الأوّل خبر ثان، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره {مِنَ الله العزيز الحكيم} ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة، فقال: {إِنَّ في السموات والأرض لآيات لّلْمُؤْمِنِينَ} أي: فيها نفسها، فإنها من فنون الآيات، أو في خلقها. قال الزجاج: ويدلّ على أن المعنى في خلق السموات والأرض قوله: {وَفِى خَلْقِكُمْ} أي: في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة. قال مقاتل: من تراب، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً، {وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايات} أي: وفي خلق ما يبثّ من دابة، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر، وخبره الظرف قبله، وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ حمزة، والكسائي {آيات} بالنصب عطفاً على اسم إن، والخبر قوله: {وَفِى خَلْقِكُمْ} كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبثّ من دابة آيات، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى. وقرأ الجمهور أيضاً {آيات لقوم يعقلون} بالرّفع، وقرأ حمزة، والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجرّ في اختلاف، أما جرّ {اختلاف}، فهو على تقدير حرف الجرّ أي: في {لَهُ اختلاف اليل والنهار} آيات، فمن رفع آيات، فعلى أنها مبتدأ، وخبرها: في اختلاف، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين. قال الفراء: الرفع على الاستئناف بعد إنّ، تقول العرب: إنّ لي عليك مالاً، وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه، وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل. والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين، وحجج المجوّزين له، وجوابات المانعين له مقرّر في علم النحو مبسوط في مطوّلاته. ومعنى: {مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ}: ما يفرقه وينشره {واختلاف اليل والنهار} تعاقبهما، أو تفاوتهما في الطول والقصر، وقوله: {وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ} معطوف على اختلاف، والرزق: المطر؛ لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به، وإحياء الأرض: إخراج نباتها، و{مَوْتِهَا}: خلّوها عن النبات ومعنى {وَتَصْرِيفِ الرياح}: أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى، وتارة تكون حارّة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة، وتارة ضارّة {تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي: هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه، ومحل: {نتلوها عليك} النصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة، وآيات الله بيان له، أو بدل منه، وقوله: {بالحق} حال من فاعل نتلو، أو من مفعوله أي: محقين، أو ملتبسة بالحقّ، ويجوز أن تكون الباء للسببية، فتتعلق بنفس الفعل {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} أي: بعد حديث الله وبعد آياته، وقيل إن المقصود: فبأي حديث بعد آيات الله، وذكر الاسم الشريف ليس إلاّ لقصد تعظيم الآيات، فيكون من باب: أعجبني زيد، وكرمه.
وقيل المراد: بعد حديث الله، وهو القرآن كما في قوله: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23]، وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرّد التغاير العنواني. قرأ الجمهور: {تؤمنون} بالفوقية، وقرأ حمزة، والكسائي بالتحتية. والمعنى: يؤمنون بأيّ حديث، وإنما قدّم عليه؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام. {وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي: لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه، والويل: واد في جهنم. ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى، فقال: {يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ} وقيل: إن يسمع في محل نصب على الحال، وقيل: استئناف، والأول أولى، وقوله: {تتلى عَلَيْهِ} في محل نصب على الحال {ثُمَّ يُصِرُّ} على كفره، ويقيم على ما كان عليه حال كونه {مُسْتَكْبِراً} أي: يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحقّ، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارًّا أذنيه. قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزواً، وجملة: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا}: في محل نصب على الحال، أو مستأنفة؛ وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا من باب التهكم أي: فبشّره على إصراره واستكباره، وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً} قرأ الجمهور {علم} بفتح العين، وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل. وقرأ قتادة، ومطر الورّاق على البناء للمفعول. والمعنى: أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله {اتخذها} أي: الآيات {هُزُواً} وقيل: الضمير في اتخذها عائد إلى {شيئًا}؛ لأنه عبارة عن الآيات، والأوّل أولى. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى كلّ أفاك متصف بتلك الصفات {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} بسبب ما فعلوا من الإصرار، والاستكبار عن سماع آيات الله، واتخاذها هزواً، والعذاب المهين: هو المشتمل على الإذلال، والفضيحة {مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي: من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا، والتكبر عن الحقّ جهنّم؛ فإنها من قدّامهم؛ لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن القدّام، كقوله: {مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [الرعد: 16] وقول الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي

وقيل: جعلها باعتبار إعراضهم عنها، كأنها خلفهم {وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً} أي: لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم، وأولادهم شيئًا من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} معطوف على ما كسبوا أي: ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام، و{ما} في الموضعين إما مصدرية، أو موصولة، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} في جهنم التي هي من ورائهم {هذا هُدًى} جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، يعني: هذا القرآن هدى للمهتدين به {والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ} القرآنية {لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} الرجز: أشدّ العذاب.
قرأ الجمهور: {أليم} بالجرّ صفة للرّجز. وقرأ ابن كثير، وحفص، وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر} أي: جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} أي: بإذنه وإقداره لكم {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارة تارة، والغوص للدرّ، والمعالجة للصيد وغير ذلك {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ} أي: سخّر لعباده جميع ما خلقه في سماواته، وأرضه مما تتعلق به مصالحهم، وتقوم به معايشهم، ومما سخّره لهم من مخلوقات السموات: الشمس والقمر، والنجوم النيرات، والمطر والسحاب والرّياح، وانتصاب {جميعاً} على الحال من {ما في السموات وما في الأرض}، أو تأكيد له، وقوله: {منه} يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل {جميعاً} أي: كائنة منه، ويجوز أن يتعلق بسخر، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السموات، أو خبراً لمبتدأ محذوف، والمعنى: أن كل ذلك رحمة منه لعباده {إِنَّ في ذَلِكَ} المذكور من التسخير {لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وخصّ المتفكرين؛ لأنه لا ينتفع بها إلاّ من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد. {قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ} أي: قل لهم اغفروا يغفروا {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} وقيل: هو على حذف اللام، والتقدير: قل لهم ليغفروا. والمعنى: قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه، أي: لا يتوقعونها، ومعنى الرجاء هنا: الخوف، وقيل: هو على معناه الحقيقي. والمعنى: لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقّتها الله لثواب المؤمنين، والأوّل أولى، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدّم في تفسير قوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] قال مقاتل: لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية، وذلك أنهم لا يؤمنون به، فلا يخافون عقابه. وقيل المعنى: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه، وقيل: لا يخافون البعث. قيل: والآية منسوخة بآية السيف {لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {لنجزي} بالنون أي: لنجزى نحن. وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل.
أي: ليجزي الله. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً، فقيل: النائب عن الفاعل مصدر الفعل، أي: ليجزى الجزاء قوماً، وقيل: إن النائب الجارّ والمجرور، كما في قول الشاعر:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ** لسبّ بذلك الجرو الكلابا

وقد أجاز ذلك الأخفش، والكوفيون، ومنعه البصريون، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة، والمراد بالقوم: المؤمنون، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. وقيل: المعنى: ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنّه قال: لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن، والأوّل أولى. ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم، والمشركين وأعمالهم، فقال: {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} والمعنى: أن عمل كل طائفة من إحسان، أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره، وفيه ترغيب وتهديد {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شرًّا فشرّ.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {جَمِيعاً مّنْهُ} قال: منه النور والشمس والقمر.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: كل شيء هو من الله.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن طاووس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق؟ قال: من الماء، والنور والظلمة، والهواء والتراب، قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري. ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير، فسأله، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو، فأتى ابن عباس، فسأله ممّ خلق الخلق؟ فقال: من الماء، والنور والظلمة، والريح والتراب، قال: فممّ خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ} فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ} الآية قال: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة، فكان هذا من المنسوخ.