فصل: سورة الأحقاف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.سورة الأحقاف:

هي أربع وثلاثون آية.
وقيل: خمس وثلاثون.
وهي مكية.
قال القرطبي: في قول جميعهم.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت سورة حم الأحقاف بمكة.
وأخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف، وأقرأها آخر فخالف قراءته فقلت من أقرأكها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ذا فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: «بلى». وقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: «بلى». فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف».

.تفسير الآيات (1- 9):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)}
قوله: {حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم} قد تقدّم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى، وذكرنا وجه الإعراب، وبيان ما هو الحقّ من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله {مَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقات بأسرها {إِلاَّ بالحق} هو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي: إلاّ خلقاً ملتبساً بالحقّ الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وقوله: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} معطوف على الحقّ، أي: إلاّ بالحقّ، وبأجل مسمى، على تقدير مضاف محذوف، أي: وبتقدير أجل مسمى، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات. وقيل: المراد بالأجل المسمى: هو انتهاء أجل كلّ فرد من أفراد المخلوقات، والأوّل أولى، وهذا إشارة إلى قيام الساعة، وانقضاء مدّة الدنيا، وأن الله لم يخلق خلقه باطلاً وعبثاً لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب. {والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ} أي: عما أنذروا وخوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون مولون غير مستعدّين له، والجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به، و{ما} في قوله: {مَا أَنْذِرُواْ} يجوز أن تكون الموصولة، ويجوز أن تكون المصدرية. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي: أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} أي: أيّ شيء خلقوا منها، وقوله: {أَرُونِىَ} يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله: {أَرَءيْتُمْ}، أي: أخبروني أروني، والمفعول الثاني لأرأيتم {ماذا خلقوا}، ويحتمل أن لا يكون تأكيداً، بل يكون هذا من باب التنازع؛ لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً، وأروني كذلك {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ في السموات} أم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة، والمعنى: بل ألهم شركة مع الله فيها؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع {ائتونى بكتاب مّن قَبْلِ هذا} هذا تبكيت لهم، وإظهار لعجزهم، وقصورهم عن الإتيان بذلك، والإشارة بقوله: {هذا} إلى القرآن، فإنه قد صرّح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حقّ لا ريب فيها، فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب، أو حجة تنافي هذه الحجة. {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ}. قال في الصحاح: {أو أثارة من علم}: بقية منه، وكذا الأثرة بالتحريك. قال ابن قتيبة: أي: بقية من علم الأوّلين.
وقال الفراء، والمبرد: يعني: ما يؤثر عن كتب الأوّلين. قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء: أو شيء تأثرونه عن نبيّ كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء.
وقال الزجاج: أو أثارة أي: علامة، والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة، وأصل الكلمة من الأثر، وهي الرواية يقال: أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثراً: إذا ذكرته عن غيرك. قرأ الجمهور {أثارة} على المصدر كالسماحة والغواية. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وعكرمة، والسلمي، والحسن، وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف. وقرأ الكسائي: {أثرة} بضم الهمزة وسكون الثاء {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم التي تدّعونها، وهي قولكم إن لله شريكاً، ولم تأتوا بشيء من ذلك، فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي، والنقلي على خلافه. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} أي: لا أحد أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع، أو دفع ضرّ؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وقوله: {إلى يَوْمِ القيامة} غاية لعدم الاستجابة {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون} الضمير الأوّل للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى: والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات، والجمع في الضميرين باعتبار معنى {من} وأجري على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل. {وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء} أي: إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وقد قيل: إن الله يخلق الحياة في الأصنام، فتكذبهم. وقيل المراد: أنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال. وأما الملائكة، والمسيح، وعزير، والشياطين، فإنهم يتبرّءون ممن عبدهم يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63] {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} أي: كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين، أي: جاحدين مكذبين، وقيل: الضمير في {كانوا} للعابدين، كما في قوله: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، والأوّل أولى. {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي: آيات القرآن حال كونها {بينات} واضحات المعاني ظاهرات الدلالات {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي: لأجله وفي شأنه، وهو عبارة عن الآيات {لَمَّا جَاءهُمْ} أي: وقت أن جاءهم {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: ظاهر السحرية {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أم هي المنقطعة، أي: بل أيقولون افتراه؟ والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم: إن رسول الله افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال: {قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً} أي: قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير، كما تدّعون، فلا تقدرون على أن تردّوا عني عقاب الله، فكيف أفتري عل الله لأجلكم، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني؟ {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي: تخوضون فيه من التكذيب، والإفاضة في الشيء: الخوض فيه، والاندفاع فيه، يقال: أفاضوا في الحديث، أي: اندفعوا فيه، وأفاض البعير: إذا دفع جرّته من كرشه، والمعنى: الله أعلم بما تقولون في القرآن، وتخوضون فيه من التكذيب له، والقول بأنه سحر وكهانة {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده، وأني قد بلغتكم، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود، وفي هذا وعيد شديد {وَهُوَ الغفور الرحيم} لمن تاب وآمن، وصدّق بالقرآن وعمل بما فيه، أي: كثير المغفرة والرحمة بليغهما.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} البدع من كلّ شيء المبدأ، أي: ما أنا بأوّل رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل. قيل: البدع بمعنى: البديع كالخفّ والخفيف، والبديع: ما لم ير له مثل، من الابتداع وهو الاختراع، وشيء بدع بالكسر، أي: مبتدع، وفلان بدع في هذا الأمر، أي: بديع كذا قال الأخفش، وأنشد قطرب:
فما أنا بدع من حوادث تعتري ** رجالاً غدت من بعد بؤسي وأسعدا

وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: {بدعاً} بفتح الدال على تقدير حذف المضاف، أي: ما كنت ذا بدع، وقرأ مجاهد بفتح الباء، وكسر الدال على الوصف {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} أي: ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة، أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا. وأما في الآخرة، فقد علم أنه وأمته في الجنة، وأن الكافرين في النار. وقيل: إن المعنى: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة، وإنها لما نزلت فرح المشركون، وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] والأوّل أولى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} قرأ الجمهور {يوحى} مبنياً للمفعول، أي: ما أتبع إلاّ القرآن، ولا أبتدع من عندي شيئًا، والمعنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: أنذركم عقاب الله، وأخوّفكم عذابه على وجه الإيضاح.
وقد أخرج أحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عباس {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: الخط. قال سفيان: لا أعلم إلاّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نبيّ من الأنبياء يخط، فمن صادف مثل خطه علم» ومعنى هذا ثابت في الصحيح، ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة. ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط؟ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبيّ؟ أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا، فليس ما يفعله أهل الرمل إلاّ جهالات وضلالات.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «{أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: حسن الخط».
وأخرج الطبراني في الأوسط، والحاكم من طريق الشعبي، عن ابن عباس {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} قال: خط كان يخطه العرب في الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} يقول: بينة من الأمر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في قوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} يقول: لست بأوّل الرسل {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} فأنزل الله بعد هذا {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقوله: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات} الآية [الفتح: 5]، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به، وبالمؤمنين جميعاً.
وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء قالت: لما مات عثمان بن مظعون قلت: رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أمّ العلاء: فوالله لا أزكي بعده أحداً».

.تفسير الآيات (10- 16):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}
قوله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ} أي: أخبروني {إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} يعني: ما يوحى إليه من القرآن، وقيل المراد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن كان مرسلاً من عند غير الله، وقوله: {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} في محل نصب على الحال بتقدير قد، وكذلك قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ} والمعنى: أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله، أي: القرآن من المعاني الموجودة في التوراة، المطابقة له من إثبات التوحيد، والبعث والنشور وغير ذلك، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني، وإن اختلفت الألفاظ.
وقال الجرجاني: مثل صلة، والمعنى: وشهد شاهد عليه أنه من عند الله، وكذا قال الواحدي، {فَئَامَنَ} الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله، ومن جنس ما ينزله على رسله، وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام، كما قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة وغيرهم، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة، فيكون المراد بالشاهد: رجلاً من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه، واختار هذا ابن جرير، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام، وأن هذه الآية مدنية لا مكية.
وروي عن مسروق أن المراد بالرجل: موسى عليه السلام، وقوله: {واستكبرتم} معطوف على شهد، أي: آمن الشاهد، واستكبرتم أنتم عن الإيمان {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فحرمهم الله سبحانه الهداية؛ لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان، ومن فقد هداية الله له ضلّ.
وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو؟ فقال الزجاج: محذوف، تقديره: أتؤمنون، وقيل: قوله: {فآمن واستكبرتم} وقيل: محذوف، تقديره: فقد ظلمتم لدلالة {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} عليه، وقيل تقديره: فمن أضلّ منكم، كما في قوله: {أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أضل} الآية [فصلت: 52].
وقال أبو علي الفارسي تقديره: أتأمنون عقوبة الله؟ وقيل: التقدير: ألستم ظالمين؟ ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: لأجلهم، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} أي: لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوّة خيراً ما سبقونا إليه؛ لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختصّ برحمته من يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ويصطفي لدينه من يشاء {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} أي: بالقرآن، وقيل: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: بالإيمان {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم، كما قالوا أساطير الأوّلين، والعامل في {إذ} مقدّر، أي: ظهر عنادهم، ولا يجوز أن يعمل فيه {فَسَيَقُولُونَ} لتضادّ الزمانين، أعني: المضيّ والاستقبال ولأجل الفاء أيضاً، وقيل: إن العامل فيه فعل مقدّر من جنس المذكور، أي: لم يهتدوا به، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} قرأ الجمهور بكسر الميم من {من} على أنها حرف جرّ، وهي مع مجرورها خبر مقدّم، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لردّ قولهم: {هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} فإن كونه قد تقدّم القرآن كتاب موسى، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدلّ على أنه حقّ، وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم.
وقرئ بفتح ميم {من} على أنها موصولة ونصب كتاب، أي: وآتينا من قبله كتاب موسى، ورويت هذه القراءة عن الكلبي {إَمَامًا وَرَحْمَةً} أي: يقتدى به في الدين، ورحمة من الله لمن آمن به، وهما منتصبان على الحال، قاله الزجاج وغيره.
وقال الأخفش على القطع، وقال أبو عبيدة: أي: جعلناه إماماً ورحمة {وهذا كتاب مُّصَدّقٌ} يعني: القرآن فإنه مصدّق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة، ولغيره من كتب الله، وقيل: مصدّق للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وانتصاب {لّسَاناً عَرَبِيّاً} على الحال الموطئة، وصاحبها الضمير في مصدّق العائد إلى كتاب، وجوّز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدّق، والأوّل أولى، وقيل: هو على حذف مضاف أي: ذا لسان عربيّ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} قرأ الجمهور {لينذر} بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب أي: لينذر الكتاب، الذين ظلموا، وقيل: الضمير راجع إلى الله، وقيل: إلى الرسول، والأوّل أولى. وقرأ نافع، وابن عامر، والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وقوله: {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} في محل نصب عطفاً على محل {لينذر}.
وقال الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع أي: وهو بشرى، وقيل: على المصدرية لفعل محذوف، أي: وتبشر بشرى، وقوله: {لّلْمُحْسِنِينَ} متعلق ببشرى {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي: جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة السجدة {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} المعنى: أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم، ولا يحزنون من فوات محبوب، وأن ذلك مستمر دائم.
{أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} أي: أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم {خالدين فِيهَا}، وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام، والاستقرار في الجنة على الأبد، مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوّف إلى ما عداه {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله، وترك معاصيه. {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} قرأ الجمهور {حسناً} بضم الحاء، وسكون السين. وقرأ عليّ، والسلمي بفتحهما، وقرأ ابن عباس، والكوفيون {إحساناً} وقد تقدّم في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] من غير اختلاف بين القراء، وتقدّم في سورة الأنعام، وسورة بني إسرائيل {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23، الأنعام: 151] فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية، وعلى جميع هذه القراءات، فانتصابه على المصدرية، أي: وصيناه أن يحسن إليهما حسناً، أو إحساناً، وقيل: على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى: ألزمنا، وقيل: على أنه مفعول له {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} قرأ الجمهور {كرها} في الموضعين بضم الكاف. وقرأ أبو عمرو، وأهل الحجاز بفتحهما. قال الكسائي: وهما لغتان بمعنى واحد. قال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن؛ لأنه الغضب والغلبة، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال: لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلاّ التي في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وقيل: إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره. وإنما ذكر سبحانه حمل الأمّ ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به، والمعنى: أنها حملته ذات كره، ووضعته ذات كره، ثم بيّن سبحانه مدّة حمله وفصاله فقال: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} أي: مدتهما هذه المدّة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع، أي: يفطم عنه.
وقد استدلّ بهذه الآية على أن أقلّ الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع سنتان، أي: مدّة الرضاع الكامل، كما في قوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدّة الحمل، وأكثر مدّة الرضاع. وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب؛ لأنها حملته بمشقة، ووضعته بمشقة، وأرضعته هذه المدّة بتعب ونصب، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك. قرأ الجمهور {وفصاله} بالألف، وقرأ الحسن، ويعقوب، وقتادة، والجحدري {وفصله} بفتح الفاء، وسكون الصاد بغير ألف، والفصل والفصال بمعنى: كالفطم والفطام، والقطف والقطاف {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: بلغ استحكام قوّته وعقله، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى، ولابد من تقدير جملة تكون حتى غاية لها، أي: عاش واستمرّت حياته حتى بلغ أشدّه، قيل: بلغ عمره ثماني عشرة سنة، وقيل: الأشد: الحلم قاله الشعبي، وابن زيد.
وقال الحسن: هو بلوغ الأربعين، والأوّل أولى لقوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}، فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد. قال المفسرون: لم يبعث الله نبياً قط إلاّ بعد أربعين سنة {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} أي: ألهمني. قال الجوهري: استوزعت الله فأوزعني، أي: استلهمته فألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أي: ألهمني شكر ما أنعمت به عليّ من الهداية، وعلى والديّ من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيراً. وقيل: أنعمت عليّ بالصحة والعافية، وعلى والديّ بالغنى والثروة، والأولى عدم تقييد النعمة عليه، وعلى أبويه بنعمة مخصوصة {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} أي: وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه مني {وَأَصْلِحْ لِى في ذُرّيَّتِى} أي: اجعل ذرّيتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر، كما سيأتي في آخر البحث {إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} من ذنوبي {وَإِنّى مِنَ المسلمين} أي: المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الإنسان المذكور، والجمع لأنه يراد به الجنس، وهو مبتدأ، وخبره: {الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} من أعمال الخير في الدنيا، والمراد بالأحسن: الحسن، كقوله: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} [الزمر: 55] وقيل: إن اسم التفضيل على معناه، ويراد به: ما يثاب العبد عليه من الأعمال، لاما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن، وليس بأحسن {وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم} فلا نعاقبهم عليها. قرأ الجمهور {يتقبل} {ويتجاوز} على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ حمزة، والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه، والتجاوز الغفران، وأصله من جزت الشئ: إذا لم تقف عليه، ومعنى {فِى أصحاب الجنة}: أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم، فالجارّ والمجرور في محل النصب على الحال كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه أي: كائناً في جملتهم، وقيل: إن {في} بمعنى {مع} أي: مع أصحاب الجنة، وقيل: إنهما خبر مبتدأ محذوف أي: هم في أصحاب الجنة {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} وعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأن قوله: {أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ} إلخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف، أي: وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا.
وقد أخرج أبو يعلى، وابن جرير، والطبراني، والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، يحطّ الله تعالى عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي عليه»، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: «أبيتم فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم»، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود، فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك، قال: فإني أشهد بالله أنه النبيّ الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا: كذبت، ثم ردّوا عليه وقالوا شراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم لن يقبل منكم قولكم»، فخرجنا ونحن ثلاثة: رسول الله وأنا وابن سلام، فأنزل الله: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} إلى قوله: {لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} وصححه السيوطي.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: «إنه من أهل الجنة» إلاّ لعبد الله بن سلام، وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ} وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال: نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت فيّ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل}، ونزل فيّ {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43].
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} قال: عبد الله بن سلام.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية، فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ}.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله: يقال لها: زنيرة، وكان عمر يضربها على الإسلام، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} الآية.
وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة، يقولون: لو كان خيراً ما جعلهم الله أوّل الناس فيه».
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزل قوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} الآية إلى قوله: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} في أبي بكر الصديق.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك، فقلت لعمر: لم تظلم؟ قال: كيف؟ قلت اقرأ: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] كم الحول؟ قال: سنة، قلت: كم السنة؟ قال: اثنا عشر شهراً، قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان؛ ويؤخر الله من الحمل ما شاء، ويقدّم ما شاء، فاستراح عمر إلى قولي.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول: إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً، وإذا وضعت لستة أشهر، فحولان كاملان، لأن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً}.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} الآية، فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعاً وإخوته، وولده كلهم، ونزلت فيه أيضاً {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} إلى آخر السورة.