فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 20):

{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}
لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه، وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدلّ على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان، فقال: {والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا} الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول، ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأفٍّ كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص و{أفٍّ} بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات.
وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل. أي: سورة الإِسراء، واللام في قوله: {لَّكُمَا} لبيان التأفيف، أي: التأفيف لكما، كما في قوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] قرأ الجمهور {أتعدانني} بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة، والمغيرة، وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن، وشيبة، وأبو جعفر، وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور: {أن أخرج} بضم الهمزة وفتح الراء مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، والأعمش، وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنياً للفاعل. والمعنى: أتعدانني أن أبعث بعد الموت، وجملة {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} في محل نصب على الحال، أي: والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا، ولم يبعث منهم أحد، وهكذا جملة: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهما يستغيثان الله له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء يقال: استغاث الله، واستغاث به.
وقال الرازي: معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل: الاستغاثة: الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: يقال: أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله: {وَيْلَكَ} هو بتقدير القول، أي: يقولان له: ويلك، وليس المراد به: الدعاء عليه، بل الحثّ له على الإيمان، ولهذا قالا له: {آمن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه {فَيَقُولُ} عند ذلك مكذباً لما قالاه: {مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أي: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلاّ أحاديث الأوّلين، وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب. قرأ الجمهور: {إن وعد الله} بكسر إن على الاستئناف، أو التعليل، وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها، على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء، أي: آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ {أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول، أي: وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85] كما يفيده قوله: {فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس}، وجملة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر، وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله. {وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ} أي: لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين، والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًّا {وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم} أي: جزاء أعمالهم. قرأ الجمهور: {لنوفيهم} بالنون. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وعاصم، وأبو عمرو، ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار الثانية أبو حاتم {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي: لا يزاد مسيء، ولا ينقص محسن، بل يوفّى كل فريق ما يستحقه من خير وشرّ، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} الظرف متعلق بمحذوف، أي: اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء، فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل: معنى {يعرضون}: يعذبون، من قولهم: عرضه على السيف، وقيل: في الكلام قلب. والمعنى: تعرض النار عليهم {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا} أي: يقال لهم ذلك، قيل: وهذا المقدّر هو الناصب للظرف، والأوّل أولى. قرأ الجمهور {أذهبتم} بهمزة واحدة، وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، ويعقوب، وابن كثير بهمزتين مخففتين. ومعنى الاستفهام: التقريع والتوبيخ. قال الفراء، والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين. قال الكلبي: المراد بالطيبات: اللذات، وما كانوا فيه من المعايش {واستمتعتم بِهَا} أي: بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أي: العذاب الذي فيه ذلّ لكم، وخزي عليكم. قال مجاهد، وقتادة: الهون: الهوان بلغة قريش {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرض بِغَيْرِ الحق} أي: بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي: تخرجون عن طاعة الله، وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة، فإنهم قد جمعوا بينهما.
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: {والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا} فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلاّ أن الله أنزل عُذري.
وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر، وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل، وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: {والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا} الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال: هذا ابن لأبي بكر.
وأخرج نحوه أبو حاتم عن السديّ، ولا يصح هذا كما قدّمنا.

.تفسير الآيات (21- 28):

{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
قوله: {واذكر أَخَا عَادٍ} أي: واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح، كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقوله: {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدل اشتمال منه، أي: وقت إنذاره إياهم {بالأحقاف} وهي ديار عاد، جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوّتهم، والمعنى: أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم؛ ليتعظوا ويخافوا، وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء: الأحقاف: رمال بلاد الشحر.
وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت، وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود: {من بين يديه ومن بعده} والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود، وبين قوله لقومه: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} والأوّل أولى. والمعنى: أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكياً عنه: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقيل: إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام، وأوفق بالمعنى {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} أي: لتصرفنا عن عبادتها، وقيل: لتزيلنا، وقيل: لتمنعنا، والمعنى متقارب، ومنه قول عروة بن أذينة:
إن تك عن حسن الصنيعة مأفو ** كاً ففي آخرين قد أفكوا

يقول: إن لم توفق للإحسان، فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب العظيم {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك لنا به. {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} أي: إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي {وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، فأما العلم بوقت مجيء العذاب، فما أوحاه إليّ {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل. {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} الضمير يرجع إلى {ما} في قوله: {بِمَا تَعِدُنَا}.
وقال المبرد، والزجاج: الضمير في {رَأَوْهُ} يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: {عَارِضاً}، فالضمير يعود إلى السحاب، أي: فلما رأوا السحاب عارضاً، ف {عارضاً} نصب على التكرير، يعني: التفسير، وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري: العارض: السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} وانتصاب {عارضاً} على الحال، أو التمييز {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي: متوجهاً نحو أوديتهم.
قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، و{قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي: غيم فيه مطر، وقوله: {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} صفة لعارض؛ لأن إضافته لفظية لا معنوية، فصح وصف النكرة به، وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود، فقال: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} يعني: من العذاب حيث قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وقوله: {رِيحٌ} بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وجملة: {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفة لريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه. {تُدَمّرُ كُلَّ شَئ بِأَمْرِ رَبّهَا} هذه الجملة صفة ثانية لريح، أي: تهلك كل شيء مرّت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير: الإهلاك، وكذا الدمار، وقرئ {يدمر} بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم، ورفع {كلّ} على الفاعلية من دمر دماراً، ومعنى {بِأَمْرِ رَبّهَا}: أن ذلك بقضائه وقدره {فَأْصْبَحُواْ لاَ تَرَى إلا مساكنهم} أي: لا ترى أنت يا محمد، أو كل من يصلح للرؤية إلاّ مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم. قرأ الجمهور {لا ترى} بالفوقية على الخطاب، ونصب مساكنهم. وقرأ حمزة، وعاصم بالتحتية مضمومة مبنياً للمفعول، ورفع مساكنهم. قال سيبويه: معناه لا يرى أشخاصهم إلاّ مساكنهم، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الثانية. قال الكسائي، والزجاج: معناها لا يرى شيء إلاّ مساكنهم، فهي محمولة على المعنى كما تقول: ما قام إلاّ هند، والمعنى: ما قام أحد إلاّ هند، وفي الكلام حذف، والتقدير: فجاءتهم الريح فدمرتهم، فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء، وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف. {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} قال المبرد: ما في قوله: {فيما} بمنزلة (الذي)، و{إن} بمنزلة (ما)، يعني: النافية، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوّة الأبدان، وقيل: {إن} زائدة، وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، ومثله قول الشاعر:

فما إن طبنا جبن ولكن ** منايانا ودولة آخرينا

والأوّل أولى؛ لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش، وأمثالهم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} أي: إنهم أعرضوا عن قبول الحجة، والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواسّ التي بها تدرك الأدلة، ولهذا قال: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَئ} أي: فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد، وصحة الوعد والوعيد، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع، وجمع البصر ما يغني عن الإعادة، و{من} في {مِن شَئ} زائدة، والتقدير: فما أغنى عنهم شيء من الإِغناء، ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع {إذ كانوا يجحدون بآيات الله} الظرف متعلق ب {أغنى}، وفيها معنى التعليل أي: لأنهم كانوا يجحدون {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ القرى} الخطاب لأهل مكة، والمراد بما حولهم من القرى: قرى ثمود، وقرى لوط، ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: بينا الحجج ونوّعناها؛ لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا. ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر، فقال: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ} أي: فهلا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان: كل ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي {اتخذوا} ضمير راجع إلى الموصول، والثاني آلهة، و{قرباناً} حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، و{آلهةً} بدلاً منه لفساد المعنى، وقيل: يصح ذلك ولا يفسد المعنى، ورجحه ابن عطية، وأبو البقاء، وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرهم، ولم يحضروا عند الحاجة إليهم، وقيل: بل هلكوا، وقيل: الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار، أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها، والأوّل أولى. والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى ضلال آلهتهم. والمعنى: وذلك الضلال والضياع أثر {إِفْكِهِمْ} الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله. قرأ الجمهور {إفكهم} بكسر الهمزة، وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً، أي: كذبهم. وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء، أي: صيرهم آفكين. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ، وكسر الفاء بمعنى: صارفهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} معطوف على {إفكهم} أي: وأثر افترائهم، أو أثر الذي كانوا يفترونه. والمعنى: وذلك إفكهم أي: كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون أنها آلهة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأحقاف: جبل بالشام.
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر.
وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: «يا عائشة: وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}».
وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللَّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به»، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّي عنه، فسألته فقال: «لا أدري، لعله كما قال قوم عاد: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قالوا: غيم فيه مطر، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رجالهم، ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم، ومالت عليهم بالرمل، فكانوا تحت الرمل سبع ليال، وثمانية أيام حسوماً لهم أنين، ثم أمر الله الريح، فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر، فهو قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلاّ قدر خاتمي هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} يقول: لم نمكنكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة، وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالاً وأطول أعماراً.