فصل: تفسير الآيات (29- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 35):

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}
لما بيّن سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر، بيّن أيضاً أن في الجنّ كذلك، فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} العامل في الظرف مقدّر، أي: واذكر إذ صرفنا. أي: وجهنا إليك نفراً من الجنّ، وبعثناهم إليك، وقوله: {يَسْتَمِعُونَ القرءان} في محل نصب صفة ثانية ل {نفراً} أو حال؛ لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي: حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل: حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أولى {قَالُواْ أَنصِتُواْ} أي: قال بعضهم لبعض: اسكتوا، أمروا بعضهم بعضاً بذلك؛ لأجل أن يسمعوا {فَلَمَّا قُضِىَ} قرأ الجمهور {قضي} مبنياً للمفعول، أي: فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير، ولاحق بن حميد، وأبو مجلز على البناء للفاعل، أي: فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من تلاوته، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في {حَضَرُوهُ} للقرآن، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي: انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذرين لهم، وانتصاب: {منذرين} على الحال المقدّرة، أي: مقدّرين الإنذار، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبيّ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك. {قَالُواْ يا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} يعنون: القرآن؛ وفي الكلام حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا. قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما قبله من الكتب المنزّلة {يَهْدِى إِلَى الحق} أي: إلى الدين الحقّ {وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: إلى طريق الله القويم. قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الجنّ والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم. {ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ به} يعنون: محمداً صلى الله عليه وسلم، أو القرآن {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي: بعضها، وهو ما عدا حقّ العباد، وقيل: {إن} من هنا لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى، وقيل: هي زائدة {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب، والتعبد بالأوامر والنواهي.
وقال الحسن: ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة. والأوّل أولى، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وعلى القول الأوّل، فقال القائلون به: أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا تراباً، كما يقال للبهائم والثاني أرجح.
وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 46، 47] فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار، وهو مقام عدل، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة، وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضاً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة، وجزاء من عمل الصالحات الجنة، وجزاء من قال لا إله إلاّ الله الجنة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط، كما في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ في الأسواق} [الفرقان: 20] وقال سبحانه في إبراهيم الخليل: {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27]، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم، فهو من ذرّيته، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} [الأنعام: 130] فقيل: المراد من مجموع الجنسين، وصدق على أحدهما، وهم الإنس: كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي: من أحدهما. {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الأرض} أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه وإن هرب كل مهرب، فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها، وفي هذا ترهيب شديد {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله. بيّن سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى من لا يجب داعي الله، وأخبر أنهم {فِى ضلال مُّبِينٍ} أي: ظاهر واضح، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث، فقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السموات والارض} الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم، والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، أي: ألم يتفكروا، ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداءً {وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} أي: لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عيّ بالأمر وعيي: إذا لم يهتد لوجهه، ومنه قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما ** عيت ببيضها الحمامه

قرأ الجمهور {ولم يعي} بسكون العين، وفتح الياء مضارع عيي. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء. {بِقَادِرٍ على أَن يُحْىِ الموتى}. قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كما في قوله: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 166]. قال الكسائي، والفراء، والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام، فتقول: ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ ابن مسعود، وعيسى بن عمر، والأعرج، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ويعقوب، وزيد بن عليّ: {يقدر} على صيغة المضارع، واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال: لأن دخول الباء في خبر أنّ قبيح {بلى إِنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} الظرف متعلق بقول مقدّر، أي: يقال ذلك اليوم للذين كفروا {أَلَيْسَ هذا بالحق} وهذه الجملة هي المحكية بالقول، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى؛ كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه {قَالُواْ بلى وَرَبّنَا} اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم؛ لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره {قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفركم بهذا في الدنيا، وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ، وتهكم عظيم. لما قرّر سبحانه الأدلة على النبوّة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت عليه البراهين، ولم ينجع في الكافرين، فاصبر كما صبر أولوا العزم، أي: أرباب الثبات والحزم، فإنك منهم. قال مجاهد: أولوا العزم من الرسل خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وهم أصحاب الشرائع.
وقال أبو العالية: هم نوح، وهود، وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم.
وقال السديّ: هم ستة إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى.
وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم يونس.
وقال الشعبي، والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة، وقيل: هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وقيل: إن الرسل كلهم أولوا عزم، وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل.
وقال الحسن: هم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي: لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار. لما أمره سبحانه بالصبر، ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} أي: كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلاّ قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم.
قرأ الجمهور: {بلاغ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا الذي وعظتهم به بلاغ، أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو مبتدأ، والخبر لهم الواقع بعد قوله: {وَلاَ تَسْتَعْجِل} أي: لهم بلاغ. وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وزيد بن عليّ: {بلاغاً} بالنصب على المصدر، أي: بلغ بلاغاً. وقرأ أبو مجلز: {بلغ} بصيغة الأمر. وقرئ {بلغ} بصيغة الماضي {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} قرأ الجمهور: {فهل يهلك} على البناء للمفعول. وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل، والمعنى: أنه لا يهلك بعذاب الله إلاّ القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله. قال قتادة: لا يهلك على الله إلاّ هالك مشرك. قيل: وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلاّ القوم الفاسقون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود قال: هبطوا، يعني: الجن على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} إلى قوله: {ضلال مُّبِينٍ}.
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن مردويه عن الزبير {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} قال: بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 17].
وأخرج ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} الآية، قال: كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم عنه نحوه وقال: أتوه ببطن نخلة.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عنه أيضاً قال: صرفت الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، وكانوا أشراف الجنّ بنصيبين.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبيّ بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم شجرة.
وأخرج عبد بن حميد، وأحمد، ومسلم، والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحداً ليلة الجنّ؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال: «إنه أتاني داعي الجنّ، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم».
وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ.
وقد روي نحو هذا من طرق. والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه وسلم مع الجنّ حضر إحداهما ابن مسعود، ولم يحضر في الأخرى.
وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة بعد مرّة، وأخذوا عنه الشرائع.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل: النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح، وهود، وصالح، وموسى، وداود، وسليمان.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وأخرج ابن أبي حاتم، والديلمي عن عائشة قالت: ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طوى، ثم ظلّ صائماً ثم طوى، ثم ظلّ صائماً، قال: «يا عائشة، إن الدين لا ينبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلاّ بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلاّ أن يكلفني ما كلفهم، فقال: {اصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي، ولا قوّة إلاّ بالله».

.سورة محمد:

وتسمى سورة القتال، وسورة الذين كفروا.
وهي تسع وثلاثون آية.
وقيل: ثمان وثلاثون.
وهي مدنية.
قال الماوردي: في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة، فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا عليه، فنزل قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك}.
وقال الثعلبي: إنها مكية.
وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك وسعيد بن جبير،وهو غلط من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى.
وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال بالمدينة.
وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه قال: نزلت سورة محمد مدنية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله}.

.تفسير الآيات (1- 12):

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}
قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} هم كفار قريش كفروا بالله، وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، كذا قال مجاهد، والسديّ.
وقال الضحاك: معنى {عن سبيل الله}: عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل: هم أهل الكتاب، والموصول مبتدأ، وخبره {أَضَلَّ أعمالهم} أي: أبطلها وجعلها ضائعة. قال الضحاك: معنى {أَضَلَّ أعمالهم}: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم. وقيل: أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق: من صلة الأرحام، وفكّ الأسارى وقري الأضياف، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها، لكن المعنى: أنه سبحانه حكم ببطلانها. ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين، فقال: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ} ظاهر هذا العموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها؛ فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في ناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه وعلوّ مكانه، وجملة: {وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ} معترضة بين المبتدأ، وهو قوله: {والذين ءامَنُواْ}، وبين خبره، وهو قوله: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} ومعنى كونه الحق: أنه الناسخ لما قبله، وقوله: {مّن رَّبّهِم} في محل نصب على الحال، ومعنى {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي: السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان، والعمل الصالح {سيئاتهم وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: شأنهم وحالهم. قال مجاهد: شأنهم، وقال قتادة: حالهم. وقيل: أمرهم، والمعاني متقاربة. قال المبرد: البال: الحال ها هنا. قيل والمعنى: أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، ونحو ذلك، وقال النقاش: إن المعنى: أصلح نياتهم، ومنه قول الشاعر:
فإن تقبلي بالودّ أقبل بمثله ** وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

والإشارة بقوله: {ذلك} إشارة إلى ما مرّ مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف أي: الأمر ذلك بسبب إِنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ، فالباطل: الشرك، والحق: التوحيد والإيمان، والمعنى: أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم، بسبب اتباعهم للحقّ الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان، وعمل الطاعات {كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم} أي: مثل ذلك الضرب يبين للناس أمثالهم، أي: أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة.
قال الزجاج: {كذلك يضرب}: يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين، يعني: أن من كان كافراً أضلّ الله عمله، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته. {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} لما بيّن سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار، والمراد بالذين كفروا: المشركين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب، وانتصاب {ضرب} على أنه مصدر لفعل محذوف. قال الزجاج: أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخصّ الرقاب بالذكر؛ لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها، وقيل: هو منصوب على الإغراء. قال أبو عبيدة: هو كقولهم: يا نفس صبراً، وقيل التقدير: اقصدوا ضرب الرقاب. وقيل: إنما خصّ ضرب الرقاب؛ لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدّة ما ليس في نفس القتل، وهي حزّ العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن، علوّه وأحسن أعضائه {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي: بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل فيهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل، وهو مأخوذ من الشيء الثخين، أي: الغليظ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال {فَشُدُّواْ الوثاق} الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر: اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط. قال الجوهري: وأوثقه في الوثاق أي: شدّه، قال: والوثاق بكسر الواو لغة فيه. قرأ الجمهور {فشدّوا} بضم الشين، وقرأ السلمي بكسرها. وإنما أمر سبحانه بشدّ الوثاق؛ لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم، وأحيطوهم بالوثاق {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا، أو تفدوا فداء، والمنّ: الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر، ولم يذكر القتل هنا اكتفاءً بما تقدّم. قرأ الجمهور {فداءً} بالمد. وقرأ ابن كثير {فدى} بالقصر، وإنما قدّم المنّ على الفداء، لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك، فقال: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أوزار الحرب التي لا تقوم إلاّ بها من السلاح والكراع، أسند الوضع إليها، وهو لأهلها على طريق المجاز، والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار. قال مجاهد: المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام، وبه قال الحسن، والكلبي. قال الكسائي: حتى يسلم الخلق. قال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل المعنى: حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم، وهو سلاحهم بالهزيمة، أو الموادعة.
وروي عن الحسن، وعطاء أنهما قالا: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، فإذا أثخنتموهم، فشدّوا الوثاق.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وإنه لا يجوز أن يفادوا، ولا يمنّ عليهم، والناسخ لها قوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57]، وقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} [التوبة: 36] وبهذا قال قتادة، والضحاك، والسديّ، وابن جريج، وكثير من الكوفيين، قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلاّ من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] روي ذلك عن عطاء وغيره.
وقال كثير من العلماء: إن الآية محكمة، والإمام مخيّر بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخير بين المنّ والفداء. وبه قال مالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد وغيرهم. وهذا هو الراجح؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك.
وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلاّ بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} [الأنفال: 67] فإذا أسر بعد ذلك، فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره. {ذلك وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، وقيل: في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل، أي: افعلوا ذلك، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف يدلّ عليه ما تقدّم، أي: ذلك حكم الكفار، ومعنى {لَّوْ يَشَاء الله لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ}، أي: قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب {ولكن} أمركم بحربهم {لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ليختبر بعضكم ببعض، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم، ويعذب الكفار بأيديهم. {والذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله} قرأ الجمهور: {قاتلوا} مبنياً للفاعل، وقرأ أبو عمرو، وحفص: {قتلوا} مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ الجحدري، وعيسى بن عمر، وأبو حيوة: {قتلوا} على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف، والمعنى على القراءة الأولى، والرابعة: أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد. ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال: {سَيَهْدِيهِمْ} أي: سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا، ويعطيهم الثواب في الآخرة {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم وأمرهم. قال أبو العالية: قد ترد الهداية، والمراد بها: إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطريق المفضية إليها، وقال ابن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرّقوا إلى منازلهم.
قال الواحدي: هذا قول عامة المفسرين.
وقال الحسن: وصف الله لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وقيل: فيه حذف، أي: عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها. وقيل: هذا التعريف بدليل يدلهم عليها، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه حتى يدخله منزله، كذا قال مقاتل. وقيل: معنى {عَرَّفَهَا لَهُمْ}: طيبها بأنواع الملاذّ، مأخوذ من العرف، وهو الرائحة. ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ} أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار، ويفتح لكم، ومثله قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} [الحج: 40]. قال قطرب: إن تنصروا نبيّ الله ينصركم {وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي: عند القتال، وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر، والمعونة في مواطن الحرب، وقيل: على الإسلام، وقيل: على الصراط {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فتعسوا بدليل ما بعده، ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، وانتصاب {تعساً} على المصدر للفعل المقدّر خبراً. قال الفراء: مثل سقياً لهم ورعياً، وأصل التعس: الانحطاط والعثار. قال ابن السكيت: التعس: أن يجرّ على وجهه، والنكس: أن يجر على رأسه، قال: والتعس أيضاً: الهلاك. قال الجوهري: وأصله الكبّ، وهو ضد الانتعاش، ومنه قول مجمع بن هلال:
تقول وقد أفردتها من حليلها ** تعست كما أتعستني يا مجمع

قال المبرّد: أي: فمكروهاً لهم، قال ابن جريج: بعداً لهم، وقال السديّ: خزياً لهم.
وقال ابن زيد: شقاءً لهم، وقال الحسن: شتماً لهم.
وقال ثعلب: هلاكاً لهم، وقال الضحاك: خيبةً لهم، وقيل: قبحاً لهم، حكاه النقاش.
وقال الضحاك: رغماً لهم.
وقال ثعلب أيضاً: شرًّا لهم.
وقال أبو العالية: شقوةً لهم. واللام في {لهم} للبيان، كما في قوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وقوله: {وَأَضَلَّ أعمالهم} معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول. والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم مما ذكره الله من التعس والإضلال، أي: الأمر ذلك، أو ذلك الأمر {بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله} على رسوله من القرآن، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث {فَأَحْبَطَ} الله {أعمالهم} بذلك السبب، والمراد بالأعمال: ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه. ثم خوّف سبحانه الكفار، وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم، فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض} أي: ألم يسيروا في أرض عاد، وثمود، وقوم لوط وغيرهم؛ ليعتبروا {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية.
ثم بيّن سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والتدمير: الإهلاك، أي: أهلكهم واستأصلهم، يقال: دمّره ودمر عليه بمعنى، ثم توعد مشركي مكة فقال: {وللكافرين أمثالها} أي: لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة. قال الزجاج، وابن جرير: الضمير في {أمثالها} يرجع إلى {عاقبة الذين من قبلهم}، وإنما جمع لأن العواقب متعدّدة بحسب تعدّد الأمم المعذبة، وقيل: أمثال العقوبة، وقيل: الهلكة، وقيل: التدميرة، والأوّل أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها {بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمنوا} أي: بسبب أن الله ناصرهم، {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} أي: لا ناصر يدفع عنهم. وقرأ ابن مسعود {ذلك بأن الله وليّ الذين آمنوا} قال قتادة: نزلت يوم أحد. {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} قد تقدّم تفسير الآية في غير موضع، وتقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي: يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به؛ كأنهم أنعام ليس لهم همّة إلاّ بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي: مقام يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرّون فيه، والجملة في محل نصب على الحال، أو مستأنفة.
وقد أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} قال: هم أهل مكة قريش نزلت فيهم: {والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} قال: هم أهل المدينة الأنصار {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قال: أمرهم.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {أَضَلَّ أعمالهم} قال: كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً.
وأخرج النحاس عنه أيضاً في قوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} قال: فجعل الله النبيّ والمؤمنين بالخيار في الأسارى، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: هذا منسوخ نسختها: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5].
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن الحسن قال: أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله: {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء}.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن المنذر، وابن مردويه عن ليث قال: قلت لمجاهد: بلغني أن ابن عباس قال: لا يحلّ قتل الأسارى؛ لأن الله قال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} فقال مجاهد: لا تعبأ بهذا شيئًا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلهم ينكر هذا، ويقول: هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فأما اليوم فلا، يقول الله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ويقول: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب} فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيء منهم إلاّ الإسلام، فإن لم يسلموا فالقتل، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا، فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استحيوهم، وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحوّلوا عن دينهم، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصغير، والمرأة، والشيخ الفاني.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها».
وأخرج ابن سعد، وأحمد، والنسائي، والبغوي، والطبراني، وابن مردويه عن سلمة بن نفيل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث قال: «لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس {وللكافرين أمثالها} قال: لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى، فأهلكوا بالسيف.