فصل: تفسير الآيات (32- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (32- 38):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} المراد بهؤلاء: هم المنافقون، وقيل: أهل الكتاب، وقيل: هم المطعمون يوم بدر من المشركين، ومعنى صدّهم عن سبيل الله: منعهم للناس عن الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم معنى {شَاقُّواْ الرسول}: عادوه وخالفوه {مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبيّ من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر، وما ضرّوا إلاّ أنفسهم {وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} أي: يبطلها، والمراد بهذه الأعمال: ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل، لأن الكفر مانع، وقيل: المراد بالأعمال: المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، فقال: {ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله؛ ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم، كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر، فقال: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} قال الحسن أي: لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي.
وقال الزهري: بالكبائر.
وقال الكلبي، وابن جريج: بالرياء والسمعة.
وقال مقاتل: بالمنّ. والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائناً ما كان من غير تخصيص بنوع معين. ثم بيّن سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر، والصدّ عن سبيل الله، فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر؛ لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصاً. ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف، فقال: {فَلاَ تَهِنُواْ} أي: تضعفوا عن القتال، والوهن: الضعف {وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} أي: ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم، فإن ذلك لا يكون إلاّ عند الضعف. قال الزجاج: منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {وتدّعوا} بتشديد الدال من ادّعى القوم وتداعوا. قال قتادة: معنى الآية: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة، أو منسوخة؟ فقيل: إنها محكمة، وإنها ناسخة لقوله: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] وقيل: منسوخة بهذه الآية. ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداءً، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، أو التخصيص، وجملة {وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ} في محل نصب على الحال، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي، أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة.
قال الكلبي: أي: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: {والله مَعَكُمْ} في محل نصب على الحال، أي: معكم بالنصر، والمعونة عليهم {وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم} أي: لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وتراً: إذا نقصه حقه، وأصله من وترت الرجل: إذا قتلت له قريباً، أو نهبت له مالاً، ويقال فلان مأتور: إذا قتل له قتيل، ولم يؤخذ بدمه. قال الجوهري: أي: لن ينقصكم في أعمالكم، كما تقول دخلت البيت، وأنت تريد في البيت. قال الفراء: هو مشتق من الوتر وهو الدخل، وقيل: مشتق من الوتر وهو الفرد، فكأن المعنى: ولن يفردكم بغير ثواب. {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: باطل وغرور لا أصل لشيء منها، ولا ثبات له ولا اعتداد به {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي: إن تؤمنوا بالله، وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة، والأجر: الثواب على الطاعة {وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم} أي: لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات، بل أمركم بإخراج القليل منها، وهو الزكاة. وقيل: المعنى: لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله؛ لأنه أملك لها، وهو المنعم عليكم بإعطائها. وقيل: لا يسألكم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة، كما في قوله: {ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] والأوّل أولى. {ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا} أي: أموالكم كلها {فَيُحْفِكُمْ} قال المفسرون: يجهدكم، ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد، والمحفي: المستقصي في السؤال، والإحفاء: الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب، أي: استئصاله، وجواب الشرط قوله: {تَبْخَلُواْ} أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا من الامتثال {وَيُخْرِجْ أضغانكم} معطوف على جواب الشرط، ولهذا قرأ الجمهور {يخرج} بالجزم وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن، وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء. وعلى قراءة الجمهور، فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. {هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله} أي: ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون؛ لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير {فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ} بما يطلب منه، ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ثم بيّن سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} أي: يمنعها الأجر والثواب ببخله، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى.
وقيل: إن أصله أن يتعدى بعلى، ولا يتعدى بعن إلاّ إذا ضمن معنى الإمساك {والله الغنى} المطلق المتنزّه عن الحاجة إلى أموالكم {وَأَنتُمُ الفقراء} إلى الله، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وجملة: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} معطوفة على الشرطية المتقدّمة، وهي: {وإن تؤمنوا}، والمعنى: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} في التولي عن الإيمان والتقوى. قال عكرمة: هم فارس، والروم.
وقال الحسن: هم العجم.
وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل: الأنصار، وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون.
وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس. قال ابن جرير: والمعنى: {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} في البخل بالإنفاق في سبيل الله.
وقد أخرج عبد بن حميد، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع لا إله إلاّ الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد: فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم.
وأخرج ابن نصر، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلاّ مقبول حتى نزلت: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا: قد هلك، حتى نزلت هذه الآية: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك. وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئًا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئًا رجوناه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {يَتِرَكُمْ} قال: يظلمكم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابي هريرة قال: لما نزلت: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه. وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرّد به، وفيه مقال معروف.
وأخرجه عنه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان، ثم قال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس»، وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي.
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه.

.سورة الفتح:

هي تسع وعشرون آية.
وهي مدنية.
قال القرطبي: بالإجماع.
وقد أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الفتح بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة ومروان قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها.
وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية؛ لأن المراد بالسورة المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها.
وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب: هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. فقال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: «لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس». ثم قرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}.
وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: لما نزلت: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} الآية إلى قوله: {فوزا عظيما} مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال: «لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها».

.تفسير الآيات (1- 7):

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}
قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} اختلف في تعيين هذا الفتح، فقال الأكثر: هو صلح الحديبية، والصلح قد يسمى فتحاً. قال الفراء: والفتح قد يكون صلحاً، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله. قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. قال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرّضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال قوم: إنه فتح مكة.
وقال آخرون: إنه فتح خيبر. والأوّل أرجح، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية. وقيل: هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح، وقيل: هو ما فتح له من النبوّة، والدعوة إلى الإسلام، وقيل: فتح الروم، وقيل: المراد بالفتح في هذه الآية: الحكم والقضاء. كما في قوله: {افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] فكأنه قال: إنا قضينا لك قضاءً مبيناً، أي: ظاهراً واضحاً مكشوفاً. {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} اللام متعلقة ب {فتحنا}، وهي لام العلة. قال ابن الأنباري: سألت أبا العباس يعني: المبرد، عن اللام في قوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} فقال: هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً؛ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة.
وقال صاحب الكشاف: إن اللام لم تكن علة للمغفرة؛ ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي: المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز. كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوّك؛ لنجمع لك بين عزّ الدارين، وأعراض العاجل والآجل. وهذا كلام غير جيد، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح، فكيف يصح أن تكون معللة.
وقال الرازي في توجيه التعليل: إن المراد بقوله: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله} التعريف بالمغفرة، تقديره: إنا فتحنا لك؛ لتعرف أنك مغفور لك معصوم.
وقال ابن عطية: المراد أن الله فتح لك؛ لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك، فكأنها لام الصيرورة.
وقال أبو حاتم: هي لام القسم وهو خطأ، فإن لام القسم لا تكسر، ولا ينصب بها.
واختلف في معنى قوله: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقيل: ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر بعدها.
قاله مجاهد، وسفيان الثوري، وابن جرير، والواحدي، وغيرهم.
وقال عطاء: ما تقدّم من ذنبك، يعني: ذنب أبويك آدم وحوّاء، وما تأخر من ذنوب أمتك. وما أبعد هذا عن معنى القرآن. وقيل: ما تقدّم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا كالذي قبله. وقيل: ما تقدّم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين الأولين في البعد. وقيل: لو كان ذنب قديم، أو حديث؛ لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأوّل أولى. ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة: ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره، وإن لم يكن ذنباً في حق غيره. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإظهار دينك على الدين كله، وقيل: بالجنة، وقيل: بالنبوّة والحكمة، وقيل: بفتح مكة، والطائف، وخيبر، والأولى أن يكون المعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة، والهداية إلى صراط مستقيم، وهو الإسلام. ومعنى {يهديك}: يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذلّ: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين} أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء، فصدّقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم، وقال الربيع بن أنس: خشية مع خشيتهم.
وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض} يعني: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوط بعضهم ببعض {وَكَانَ الله عَلِيماً} كثير العلم بليغه {حَكِيماً} في أفعاله وأقواله {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه اللام متعلقة بمحذوف يدلّ عليه ما قبله تقديره: يبتلي بتلك الجنود من يشاء، فيقبل الخير من أهله، والشرّ ممن قضى له به؛ ليدخل ويعذب. وقيل: متعلقة بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} كأنه قال: إنا فتحنا لك ما فتحنا؛ ليدخل ويعذب، وقيل: متعلقة ب {ينصرك} أي: نصرك الله بالمؤمنين؛ ليدخل ويعذب، وقيل: متعلقة ب {يزدادوا} أي: يزدادوا، ليدخل ويعذب، والأوّل أولى {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي: يسترها، ولا يظهرها ولا يعذبهم بها، وقدّم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى {وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} أي: وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة، وتكفير سيئاتهم عند الله، وفي حكمه فوزاً عظيماً، أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غمّ، وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضرّ، وقوله: {عَندَ الله} متعلق بمحذوف على أنه حال من {فوزاً}؛ لأنه صفة في الأصل، فلما قدم صار حالاً، أي: كائناً عند الله، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين، وجزاء المنافقين والمشركين ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: {وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} وهو معطوف على يدخل، أي: يعذبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم.
وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشدّ منهم عذاباً، وأحقّ منهم بما وعدهم الله به، ثم وصف الفريقين، فقال: {الظانين بالله ظَنَّ السوء} وهو ظنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يغلب، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام.
ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي: ما يظنونه، ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم، والمعنى: أن العذاب، والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم. قال الخليل، وسيبويه: السوء هنا: الفساد. قرأ الجمهور {السوء} بفتح السين. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضمها {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}. لما بيّن سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بيّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة، وعذاب جهنم {وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض} من الملائكة، والإنس، والجنّ، والشياطين {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} كرّر هذه الآية؛ لقصد التأكيد، وقيل: المراد بالجنود هنا: جنود العذاب، كما يفيده التعبير بالعزة هنا، مكان العلم هنالك.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ فقالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}، فقال رجل: إي رسول الله، أو فتح هو؟ قال: «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح»، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه، فسرّي عنه، وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنه أنزل عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}.
وأخرج البخاريّ وغيره عن أنس في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: الحديبية.
وأخرج البخاريّ، وغيره عن البراء قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: «فتح مكة».
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتورم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً»، وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة في قُلُوبِ المؤمنين} قال: السكينة: هي الرحمة، وفي قوله: {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} قال: إن الله بعث نبيه بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فلما صدّق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ، فلما صدّقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم، فقال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3]. فأوثق إيمان أهل السماء، وأهل الأرض، وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلاّ الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود: {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} قال: تصديقاً مع تصديقهم.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس قال: لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية. قال: «لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسول الله، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حتى بلغ: {فَوْزاً عَظِيماً}.