فصل: تفسير الآيات (18- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 40):

{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)}
قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ} هم: قوم عاد {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي: فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم، ونذر مصدر بمعنى إنذار، كما تقدّم تحقيقه، والاستفهام للتهويل والتعظيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقاً من العذاب، والصرصر: شدّة البرد، أي: ريح شديدة البرد، وقيل: الصرصر: شدّة الصوت، وقد تقدّم بيانه في سورة حمالسجدة {فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ} أي: دائم الشؤم استمرّ عليهم بنحوسه، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم. قال الزجاج: قيل: في يوم الأربعاء في آخر الشهر. قرأ الجمهور: {في يوم نحس} بإضافة {يوم} إلى {نحس} مع سكون الحاء، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو على تقدير مضاف أي في يوم عذاب نحس. وقرأ الحسن بتنوين {يوم} على أن {نحس} صفة له. وقرأ هارون بكسر الحاء. قال الضحاك: كان ذلك اليوم مرّاً عليهم. وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا: هو من المرارة، وقيل: هو من المرّة بمعنى: القوّة، أي: في يوم قويّ الشؤم مستحكمه، كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه، والظاهر أنه من الاستمرار، لا من المرارة، ولا من المرّة، أي: دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم. وجملة: {تَنزِعُ الناس}: في محل نصب على أنها صفة ل {ريحاً}، أو حال منها، ويجوز أن يكون استئنافاً، أي: تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض، فترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم، وقيل: تنزع الناس من البيوت، وقيل: من قبورهم؛ لأنهم حفروا حفائر ودخلوها {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} الأعجاز: جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، والمنقعر: المنقطع المنقلع من أصله، يقال: قعرت النخلة: إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط. شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح، وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس، وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولاً، ثم كتّبتهم على وجوههم، وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل، وهي مؤنثة اعتباراً باللفظ، ويجوز تأنيثه اعتباراً بالمعنى، كما قال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] قال المبرد: كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً، أو إلى المعنى تأنيثاً. وقيل: إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره قريباً، وكذلك قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود، فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} يجوز أن يكون جمع نذير، أي: كذبت بالرّسل المرسلين إليهم، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار، أي: كذبت بالإنذار الذي أنذروا به، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيباً للرسل؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب سائرهم؛ لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع {فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ} الاستفهام للإنكار، أي: كيف نتبع بشراً كائناً من جنسنا منفرداً وحده لا متابع له على ما يدعو إليه.
قرأ الجمهور: بنصب {بشراً} على الاشتغال، أي: أنتبع بشراً واحداً. وقرأ أبو السماك، والداني، وأبو الأشهب، وابن السميفع بالرفع على الابتداء، و{واحداً} صفته، و{نتبعه} خبره.
وروي عن أبي السماك أنه قرأ برفع {بشراً} ونصب {واحداً} على الحال {إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال} أي: إنا إذا اتبعناه لفي خطأ، وذهاب عن الحق {وَسُعُرٍ} أي: عذاب وعناء وشدّة كذا قال الفراء، وغيره.
وقال أبو عبيدة: هو جمع سعير، وهو لهب النار، والسعر: الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدّة.
وقال مجاهد: {وسعر} وبُعد عن الحقّ.
وقال السديّ: في احتراق، وقيل المراد به هنا: الجنون، من قولهم: ناقة مسعورة أي: كأنها من شدّة نشاطها مجنونة، ومنه قول الشاعر يصف ناقة:
تَخالُ بها سُعْراً إِذَا السَّعْرُ هَزَّهَا ** ذَمِيلٌ وإِيقاعٌ من السَّيْرِ مُتْعِبُ

ثم كرّروا الإنكار والاستبعاد فقالوا: {أألقي الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} أي: كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوّة، وفينا من هو أحقّ بذلك منه؟ ثم أضربوا عن الاستنكار، وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذاباً أشراً فقالوا: {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} والأشر: المرح والنشاط، أو البطر والتكبر، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام، ومنه قول الشاعر:
أشِرتُمْ بِلْبس الخَزَّ لما لَبِستُمُ ** ومن قبلُ لا تْدرون مَنْ فَتَحَ القُرى

قرأ الجمهور {أشر} كفرح. وقرأ أبو قلابة، وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الرّاء على أنه أفعل تفضيل، ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة. ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} والمراد بقوله: {غداً}: وقت نزول العذاب بهم في الدنيا، أو في يوم القيامة جرياً على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد، كما في قولهم: إن مع اليوم غداً، وكما في قول الحطيئة:
للموت فيها سِهامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ ** مَنْ لم يكن مَيَّتاً في اليوم ماتَ غَدَا

ومنه قول أبي الطماح:
ألا عَللاِني قَبْل نوح النَّوائحِ ** وَقَبْلَ اضْطرَابِ النَّفسِ بَين الجَوَانِحِ

وقبلَ غَدٍ يا لَهْف نَفْسي على غَد ** إذَا رَاحَ أصْحابِي ولستُ برائحِ

قرأ الجمهور {سيعلمون} بالتحتية إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه، وجملة: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} مستأنفة لبيان ما تقدّم إجماله من الوعيد، أي: إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي: ابتلاء وامتحاناً، وانتصاب {فتنة} على العلة {فارتقبهم} أي: انتظر ما يصنعون {واصطبر} على ما يصيبك من الأذى منهم {وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي: بين ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما في قوله: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وقال: {نبئهم} بضمير العقلاء تغليباً. {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} الشرب بكسر الشين: الحظ من الماء. ومعنى {محتضر}: أنه يحضره من هو له، فالناقة تحضره يوماً، وهم يحضرونه يوماً. قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون. قرأ الجمهور. {قسمة} بكسر القاف بمعنى: مقسوم، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها {فَنَادَوْاْ صاحبهم} أي: نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها {فتعاطى فَعَقَرَ} أي: تناول الناقة بالعقر فعقرها، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. قال محمد بن إسحاق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها، فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم شدّ عليها بالسيف، فكسر عرقوبها، ثم نحرها، والتعاطي: تناول الشيء بتكلف {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره في هذه السورة. ثم بيّن ما أجمله من العذاب فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} قال عطاء: يريد صيحة جبريل، وقد مضى بيان هذا في سورة هود، وفي الأعراف {فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم: حطام الشجر ويابسه، والمحتظر: صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الرّيح، يقال: احتظر على غنمه: إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض. قال في الصحاح: والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو العالية بفتح الظاء أي: كهشيم الحظيرة، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ومعنى الآية: أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة، وداسته الغنم بعد سقوطه، ومنه قول الشاعر:
أثرن عجاجه كدخان نار ** تشب بغرقد بال هشيم

وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة.
وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح.
وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي. قال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً، ومنه قول الشاعر:
ترى جيف المطيّ بجانبيه ** كأن عظامها خشب الهشيم

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة. ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله، كما كذبهم غيرهم، فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} وقد تقدّم تفسير النذر قريباً.
ثم بيّن سبحانه ما عذبهم به، فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي: ريحاً ترميهم بالحصباء، وهي الحصى. قال أبو عبيدة، والنضر بن شميل: الحاصب: الحجارة في الريح. قال في الصحاح: الحاصب: الريح الشديدة التي تثير الحصباء، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربها ** بحاصب كنديف القطن منثور

{إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} يعني: لوطاً ومن تبعه، والسحر: آخر الليل، وقيل: هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أوّل النهار، وانصرف {سحر} لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ولو قصد معيناً لامتنع. كذا قال: الزجاج، والأخفش، وغيرهما. وانتصاب {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا} على العلة، أو على المصدرية، أي: إنعاماً منا على لوط، ومن تبعه. {كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا، ولم يكفرها {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} أي: أنذر لوط قومه بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد، وعقوبته البالغة {فَتَمَارَوْاْ بالنذر} أي: شكوا في الإنذار ولم يصدّقوه، وهو تفاعلوا من المرية، وهي الشك {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} أي: أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، يقال راودته عن كذا مراودة ورواداً، أي: أردته، وراد الكلام يروده روداً، أي: طلبه، وقد تقدّم تفسير المراودة مستوفى في سورة يوسف {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} أي: صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شقّ، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب. وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها. قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم، فلم يروا الرسل، فرجعوا {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} قد تقدّم تفسيره في هذه السورة {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} أي: أتاهم صباحاً عذاب مستقرّ بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم. قال مقاتل: استقرّ بهم العذاب بكرة، وانصراف {بكرة} لكونه لم يرد بها وقتاً بعينه، كما سبق في {بسحر}: {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قد تقدّم تفسير هذا في هذه السورة، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإِشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} قال: باردة {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} قال: أيام شداد.
وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الأربعاء يوم نحس مستمر»، وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً.
وأخرجه ابن مردويه عن عليّ مرفوعاً.
وأخرجه ابن مردويه أيضاً عن أنس مرفوعاً، وفيه قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عاداً، وثمود».
وأخرج ابن مردويه، والخطيب بسند. قال السيوطي: ضعيف عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر».
وأخرج ابن المنذر عنه {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} قال: أصول النخل {مُّنقَعِرٍ} قال: منقلع.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: أعجاز سواد النخل.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً {وَسُعُرٍ} قال: شقاء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً قال: {كَهَشِيمِ المحتظر} قال: كحظائر من الشجر محترقة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال: كالعظام المحترقة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عنه قال: كالحشيش تأكله الغنم.

.تفسير الآيات (41- 55):

{وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}
{النذر} يجوز أن يكون جمع نذير، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى: الإنذار كما تقدّم، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وهذا أولى لقوله: {كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا} فإنه بيان لذلك، والمراد بها: الآيات التسع التي تقدّم ذكرها {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} أي: أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء، ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال: {أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} والاستفهام للإنكار، والمعنى النفي، أي: ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب، وأنتم شرّ منهم. ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأوّل، فقال: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ في الزبر} والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى: إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء. ثم أضرب عن هذا التبكيت، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر، فقال: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} أي: جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوّتنا، أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد منتصراً اعتباراً بلفظ جميع. قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع} أي: جمع كفار مكة، أو كفار العرب على العموم. قرأ الجمهور {سيهزم} بالتحتية مبنياً للمفعول. وقرأ ورش عن يعقوب: {سنهزم} بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة بالتحتية مبنياً للفاعل، وقرئ بالفوقية مبنياً للفاعل {وَيُوَلُّونَ الدبر} قرأ الجمهور {يولون} بالتحتية، وقرأ عيسى، وابن أبي إسحاق، وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر: الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقد هزمهم الله يوم بدر، وولوا الأدبار، وقتل رؤساء الشرك، وأساطين الكفر، فلله الحمد. {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي: موعد عذابهم الأخرويّ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر، وهو تمام ما وعدوا به من العذاب، وإنما هو مقدّمة من مقدّماته وطليعة من طلائعه، ولهذا قال: {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي: وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع، مأخوذ من الدهاء، وهو النكر والفظاعة، ومعنى أمرّ: أشد مرارة من عذاب الدنيا، يقال: دهاه أمر كذا، أي: أصابه دهواً ودهياً. {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ} أي: في ذهاب عن الحقّ وبعد عنه، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير {وَسُعُرٍ}، فلا نعيده {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ} والظرف منتصب بما قبله، أي: كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون، أو بقول مقدّر بعده، أي: يوم يسحبون يقال لهم: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي: قاسوا حرّها وشدّة عذابها، وسقر: علم لجهنم.
وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين {مسّ} في سين {سقر} {إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ} قرأ الجمهور بنصب {كل} على الاشتغال. وقرأ أبو السماك بالرفع، والمعنى: أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبساً بقدر قدّره، وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر: التقدير، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى. {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر} أي: إلا مرة واحدة، أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته، واللمح: النظر على العجلة والسرعة. وفي الصحاح لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة. قال الكلبي: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلاّ كطرف البصر. {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم وأعوانكم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} يتذكر ويتّعظ بالمواعظ، ويعلم أن ذلك حق، فيخاف العقوبة، وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة {وَكُلُّ شَئ فَعَلُوهُ في الزبر} أي: جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتب الحفظة {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} أي: كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره، وجليله وحقيره، يقال: سطر يسطر سطراً كتب، وأسطر مثله. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال: {إِنَّ المتقين في جنات وَنَهَرٍ} أي: في بساتين مختلفة، وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة. قرأ الجمهور: {ونهر} بفتح الهاء على الإفراد، وهو جنس يشمل أنهار الجنة، وقرأ مجاهد، والأعرج، وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان، وقرأ أبو مجلز، وأبو نهشل، والأعرج، وطلحة بن مصرف، وقتادة {نهر} بضم النون، والهاء على الجمع {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} أي: في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وهو الجنة {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء، و{عند} هنا كناية عن الكرامة، وشرف المنزلة، وقرأ عثمان البستي: {في مقاعد صدق}.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس {أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ} يقول: ليس كفاركم خير من قوم نوح، وقوم لوط.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه في قوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} قال: كان ذلك يوم بدر قالوا: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} فنزلت هذه الآية. وفي البخاري، وغيره عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك، اللَّهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً»، فأخذ أبو بكر بيده، وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك، فخرج، وهو يثب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ}.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النار على وُجُوهِهِمْ}.
وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز، والكيس».
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} قال: مسطور في الكتاب.