فصل: تفسير الآيات (20- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 24):

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
قوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني، وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرها، بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة، واللعب: هو الباطل، واللهو: كل شيء يتلهى به ثم يذهب. قال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. قال مجاهد: كلّ لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو: ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها، وقيل: اللعب: الاقتناء، واللهو: النساء، وقد تقدّم تحقيق هذا في سورة الأنعام، والزينة: التزين بمتاع الدنيا من دون عمل للآخرة {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} قرأ الجمهور بتنوين {تفاخر} والظرف صفة له، أو معمول له، وقرأ السلمي بالإضافة، أي: يفتخر به بعضكم على بعض، وقيل: يتفاخرون بالخلقة والقوّة، وقيل: بالأنساب والأحساب، كما كانت عليه العرب {وَتَكَاثُرٌ في الأموال والأولاد} أي: يتكاثرون بأموالهم وأولادهم، ويتطاولون بذلك على الفقراء. ثم بيّن سبحانه لهذه الحياة شبهاً، وضرب لها مثلاً فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} أي: كمثل مطر أعجب الزراع نباته، والمراد بالكفار هنا: الزراع لأنهم يكفرون البذر، أي: يغطونه بالتراب، ومعنى نَبَاتُهُ: النبات الحاصل به {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجفّ بعد خضرته وييبس {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرّونق إلى لون الصفرة والذبول {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي: فتاتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه، وقد تقدّم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف، والمعنى: أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه، لخضرته وكثرة نضارته. ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كأن لم يكن. وقرئ: {مصفارّاً} والكاف في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا، وسرعة زوالها، ذكر ما أعدّه للعصاة في الدار الآخرة فقال: {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} وأتبعه بما أعدّه لأهل الطاعة، فقال: {وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان}، والتنكير فيهما للتعظيم. قال قتادة: عذاب شديد لأعداء الله، ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته. قال الفراء: التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة، قلا يوقف على شديد. ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا، فقال: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} لمن اغترّ بها ولم يعمل لآخرته. قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، ومن اشتغل بطلبها فله متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وهذه الجملة مقرّرة للمثل المتقدّم ومؤكدة له. ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة، فقال: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} أي: سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي، وقيل: المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول، وقيل: المراد الصفّ الأوّل، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا، بل هو من جملة ما تصدّق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} أي: كعرضهما، وإذا كان هذا قدر عرضها، فما ظنك بطولها.
قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطات كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل: المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة.
وقال ابن كيسان: عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، ومن ذلك قول الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة ** على الخائف المطلوب كفة حابل

وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى، فقال: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة. وفي هذا دليل على أن استحقاق الجنة يكون بمجرّد الإيمان بالله ورسله، ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلاّ من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة، وهو مبتدأ وخبره {فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} أي: يعطيه من يشاء إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً {والله ذُو الفضل العظيم} فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق، والجواد الذي لا يبخل. ثم بيّن سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره، وثبت في أمّ الكتاب، فقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} من قحط مطر، وضعف نبات، ونقص ثمار. قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار، وقيل: الجوائح في الزرع {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} قال قتادة: بالأوصاب والأسقام.
وقال مقاتل: إقامة الحدود.
وقال ابن جريج: ضيق المعاش {إِلاَّ في كتاب} في محل نصب على الحال من مصيبة، أي: إلاّ حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة: {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى {نَّبْرَأَهَا}: نخلقها {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير.
{لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} أي: اختبرناكم بذلك، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} منها أي: أعطاكم منها، فإن ذلك يزول عن قريب، وكلّ زائل عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا يحزن على فواته، ومع أن الكل بقضاء الله وقدره، فلن يعدو امرأ ما كتب له، وما كان حصوله كائناً لا محالة، فليس بمستحقّ للفرح بحصوله، ولا للحزن على فوته، قيل: والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلاّ فليس من أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح. قرأ الجمهور: {بما آتاكم} بالمدّ، أي: أعطاكم، وقرأ أبو العالية، ونصر بن عاصم، وأبو عمرو بالقصر، أي: جاءكم، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: لا يحبّ من اتصف بهاتين الصفتين، وهما الاختيال والافتخار، قيل: هو ذمّ للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل: إن من فرح بالحظوظ الدنيوية، وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاستحقار. والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي، فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله. {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} الموصول في محل رفع بالابتداء، وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدّر، أي: الذين يبخلون فالله غنيّ عنهم، ويدل على ذلك قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد}. وقيل: الموصول في محل جرّ بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد، وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً. وقيل: هو في محل جرّ نعت له، وهو أيضاً بعيد. قال سعيد بن جبير: الذين يبخلون بالعلم، ويأمرون الناس بالبخل به لئلا يعلموا الناس شيئًا.
وقال زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله، وقيل: إنه البخل بالصدقة، وقال طاووس: إنه البخل بما في يديه، وقيل: أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد في كتبهم لئلا يؤمن به الناس، فتذهب مآكلهم، قاله السدّي والكلبي، قرأ الجمهور: {بالبخل} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس، وعبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، وحميد، وابن محيصن، وحمزة، والكسائي بفتحتين، وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية، وابن السميفع بفتح الباء وإسكان الخاء. وقرأ نصر بن عاصم بضمهما، وكلها لغات {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} أي: ومن يعرض عن الإنفاق، فإن الله غنيّ عنه محمود عند خلقه لا يضره ذلك. قرأ الجمهور {هو الغني} بإثبات ضمير الفصل. وقرأ نافع، وابن عامر: {فإن الله الغني الحميد} بحذف الضمير.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} يقول: في الدين والدنيا {إِلاَّ في كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} قال: نخلقها {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} منها.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو شيء قد فرغ منه من قبل أن تبرأ الأنفس.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} الآية قال: ليس أحد إلاّ وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً.
وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال: يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، إنه قال: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} وليس هذا من مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة.

.تفسير الآيات (25- 29):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} أي: بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كلّ رسول {والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} قال قتادة، ومقاتل بن حيان: الميزان: العدل: أمرناهم بالعدل، كما في قوله: {والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] وقوله: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17] وقال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل به، ومعنى: {لِيَقُومَ الناس بالقسط}؛ ليتبعوا ما أمروا به من العدل، فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط: العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله: إنزال أسبابه وموجباته. وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها، فيكون إنزاله بمعنى: إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب:
علفتها تبناً وماء بارداً

{وَأَنزْلْنَا الحديد} أي: خلقناه، كما في قوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] والمعنى: أنه خلقه من المعادن، وعلم الناس صنعته، وقيل: إنه نزل مع آدم {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} لأنه تتخذ منه آلات الحرب. قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى: أنه تتخذ منه آلة للدفع، وآلة للضرب. قال مجاهد: فيه جنة وسلاح، ومعنى {ومنافع لِلنَّاسِ}: أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه مثل السكين، والفأس، والإبرة، وآلات الزراعة، والنجارة، والعمارة {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} معطوف على قوله: {ليقوم الناس} أي: لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت، ليقوم الناس وليعلم، وقيل: معطوف على علة مقدّرة، كأنه قيل: ليستعملوه وليعلم الله، والأوّل أولى. والمعنى: أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصره دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، و{بالغيب} في محلّ نصب على الحال من فاعل ينصره، أو من مفعوله أي: غائباً عنهم، أو غائبين عنه {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} أي: قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك؛ لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم} لما ذكر سبحانه إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم، وكرّر القسم للتوكيد {وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} أي: جعلنا فيهم النبوّة والكتب المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء، وبعضهم يتلون الكتاب {فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ} أي: فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم، وقيل: المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن الطاعة. {ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا} أي: اتبعنا على آثار الذرية، أو على آثار نوح وإبراهيم برسلنا الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى، وإلياس، وداود، وسليمان، وغيرهم {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي: أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه {وآتيناه الإنجيل} وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه، وقد تقدّم ذكر اشتقاقه في سورة آل عمران.
قرأ الجمهور: {الإنجيل} بكسر الهمزة، وقرأ الحسن بفتحها {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} الذين اتبعوه هم الحواريون جعل الله في قلوبهم مودّة لبعضهم البعض، ورحمة يتراحمون بها، بخلاف اليهود، فإنهم ليسوا كذلك، وأصل الرأفة: اللين، والرحمة: الشفقة، وقيل: الرأفة: أشدّ الرحمة {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} انتصاب {رهبانية} على الاشتغال، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وليس بمعطوفة على ما قبلها، وقيل: معطوفة على ما قبلها، أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة، ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم. والأوّل أولى، ورجحه أبو علي الفارسي وغيره، وجملة: {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} صفة ثانية لرهبانية، أو مستأنفة مقرّرة؛ لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم، والرهبانية بفتح الراء وضمها، وقد قرئ بهما، وهي بالفتح: الخوف من الرهب، وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة، وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح، وتعلقوا بالكهوف والصوامع؛ لأن ملوكهم غيروا وبدلوا، وبقي منهم نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك، وقتادة، وغيرهما {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} الاستثناء منقطع، أي: ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله.
وقال الزجاج: ما كتبناها عليهم معناه لم نكتب عليهم شيئًا ألبتة، قال: ويكون {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى: ما كتبنا عليهم إلاّ ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي: لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم، بل صنعوها وكفروا بدين عيسى، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدّلوا، وتركوا الترهب، ولم يبق على دين عيسى إلاّ قليل منهم، وهم المرادون بقوله: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى، وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون}: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذمّ لهم على تقدير أن الاستثناء منقطع أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً. وأما على القول بأن الاستثناء متصل، وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلاّ ليبتغوا بها رضوان الله بعد أن وفقناهم لابتداعها، فوجه الذم ظاهر.
ثم أمر سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدّمين بالتقوى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} بترك ما نهاكم عنه {وآمنوا برسوله} محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي: نصيبين من رحمته بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، وأصل الكفل: الحظ والنصيب، وقد تقدّم الكلام على تفسيره في سورة النساء {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يعني: على الصراط كما قال: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8] وقيل: المعنى ويجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما سلف من ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: بليغ المغفرة والرحمة {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} اللام متعلقة بما تقدّم من الأمر بالإيمان والتقوى، والتقدير: اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا؛ ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب {أَن لا يَقْدِرُونَ على شَئ مّن فَضْلِ الله} و{لا} في قوله: {لّئَلاَّ} زائدة للتوكيد، قاله الفراء، والأخفش، وغيرهما، و{أن} في قوله: {أَن لا يَقْدِرُونَ} هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، وخبرها ما بعدها، والجملة في محل نصب على أنها مفعول يعلم، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئًا من فضل الله الذي تفضل به على من آمن بمحمد، ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، وجملة: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} معطوفة على الجملة التي قبلها، أي: ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل بيد الله سبحانه، وقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} خبر ثان لأنّ، أو هو الخبر، والجارّ والمجرور في محل نصب على الحال {والله ذُو الفضل العظيم} هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا: ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف.
وقال الكلبي: هو رزق الله، وقيل: نعم الله التي لا تحصى، وقيل: هو الإسلام، وقد قيل: إن (لا) في {لئلا} غير مزيدة، وضمير {لا يقدرون} للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والمعنى: لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبيّ والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه، والأوّل أولى. وقرأ ابن مسعود: {لكيلا يعلم} وقرأ خطاب بن عبد الله: {لأن يعلم} وقرأ عكرمة: {ليعلم} وقرئ: {ليلا} بقلب الهمزة ياء، وقرئ بفتح اللام.
وقد أخرج عبد بن حميد، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله، قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال: هل تدري أيّ عرى الإسلام أوثق؟ قلت: الله، ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملاً إذ فقهوا في دينهم؛ يا عبد الله هل تدري أيّ الناس أعلم؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً بالعمل، وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها: فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها، وهم الذين قال الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} هم الذين آمنوا بي وصدقوني {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} الذين جحدوني وكفروا بي.
وأخرج النسائي، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئًا أشدّ من شتم يشتمناه هؤلاء، إنهم يقرءون {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47] مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا، فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل، أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلاّ ما بدلوا منهما، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل منه الوحوش، ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحرث البقول، فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم، وليس أحد من القبائل إلاّ له حميم فيهم، ففعلوا ذلك، فأنزل الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي، ولم يبق منهم إلاّ القليل انحط صاحب الصومعة من صومعته، وجاء السياح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدّقوه، فقال الله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أجرين: بإيمانهم بعيسى وتصديقهم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد وتصديقهم به {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} القرآن واتباعهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، والبيهقي في الشعب عن أنس أن النبيّ قال: «إن لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله».
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعريّ في قوله: {كِفْلَيْنِ} قال: ضعفين وهي بلسان الحبشة.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} قال: الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله.