فصل: تفسير الآيات (14- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (14- 22):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} أي: والوهم. قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود.
وقال السديّ، ومقاتل: هم اليهود تولوا المنافقين، ويدلّ على الأوّل قوله: {غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} فإن المغضوب عليهم هم اليهود، ويدلّ على الثاني قوله: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} فإن هذه صفة المنافقين، كما قال الله فيهم: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء} [النساء: 143] وجملة: {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي: يحلفون أنهم مسلمون، أو يحلفون أنهم ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، والجملة عطف على تولوا داخلة في حكم التعجيب من فعلهم، وجملة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له. {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بسبب هذا التولي والحلف على الباطل {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال القبيحة {اتخذوا أيمانهم جُنَّةً} قرأ الجمهور: {أيمانهم} بفتح الهمزة جمع يمين، وهي ما كانوا يحلفون عليه من الكذب بأنهم من المسلمين توقياً من القتل، فجعلوا هذه الأيمان وقاية وسترة دون دمائهم، كما يجعل المقاتل الجنة وقاية له من أن يصاب بسيف أو رمح أو سهم. وقرأ الحسن، وأبو العالية {إيمانهم} بكسر الهمزة أي: جعلوها تصديقهم جنة من القتل، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، ولم تؤمن قلوبهم {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى: فصدّوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم للإسلام {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: يهينهم ويخزيهم، قيل: هو تكرير لقوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} للتأكيد، وقيل: الأوّل عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرار، فإن العذاب الموصوف بالشدّة غير العذاب الموصوف بالإهانة. {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا} أي: لن تغني عنهم من عذابه شيئًا من الإغناء. قال مقاتل: قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذن، فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا، وأموالنا، وأولادنا إن كان قيامة، فنزلت الآية {أولئك} الموصوفون بما ذكر {أصحاب النار} لا يفارقونها {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجون منها {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} الظرف منصوب بقوله: {مُّهِينٌ}، أو بمقدّر، أي: اذكر {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي: يحلفون لله يوم القيامة على الكذب كما يحلفون لكم في الدنيا، وهذا من شدّة شقاوتهم ومزيد الطبع على قلوبهم، فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة، فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف ويحلفون على الكذب {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ} أي: يحسبون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعاً، أو يدفع ضرراً، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: الكاملون في الكذب المتهالكون عليه البالغون فيه إلى حدّ لم يبلغ غيرهم إليه بإقدامهم عليه، وعلى الأيمان الفاجرة في موقف القيامة بين يدي الرحمن.
{استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي: غلب عليهم واستعلى واستولى. قال المبرّد: استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به، وقيل: قوي عليهم، وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء، أي: جمعه وضمّ بعضه إلى بعض، والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليهم واستولى، وأحاط بهم {فأنساهم ذِكْرَ الله} أي: أوامره والعمل بطاعاته، فلم يذكروا شيئًا من ذلك، وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه، وقيل: لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المذكورين الموصوفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ، وخبره {حِزْبُ الشيطان} أي: جنوده، وأتباعه، ورهطه {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} أي: الكاملون في الخسران حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران لأنهم باعوا الجنة والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه، وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} تقدّم معنى المحادّة لله ولرسوله في أوّل هذه السورة، والجملة تعليل لما قبلها {أُوْلَئِكَ في الأذلين} أي: أولئك المحادّون لله ورسوله، المتصفون بتلك الصفات المتقدّمة من جملة من أذله الله من الأمم السابقة واللاحقة؛ لأنهم لما حادّوا الله ورسوله صاروا من الذلّ بهذا المكان. قال عطاء: يريد الذلّ في الدنيا، والخزي في الآخرة. {كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها مع كونهم في الأذلين، أي: كتب في اللوح المحفوظ، وقضى في سابق علمه: لأغلبنّ أنا ورسلي بالحجة والسيف. قال الزجاج: معنى غلبة الرسل على نوعين: من بعث منهم بالحرب، فهو غالب في الحرب، ومن بعث منهم بغير الحرب، فهو غالب بالحجة. قال الفراء: كتب بمعنى قال، وقوله: {أَنَاْ} توكيد، ثم ذكر مثل قول الزجاج. {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} فهو قويّ على نصر أوليائه غالب لأعدائه لا يغلبه أحد. {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له أي: يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما، وجملة: {يُوَادُّونَ} في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعدّياً إلى مفعولين، أو في محل نصب على الحال إن كان متعدّياً إلى مفعول واحد، أو صفة أخرى ل {قوماً}، أي: جامعون بين الإيمان والموادّة لمن حادّ الله ورسوله {وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي: ولو كان المحادّون لله ورسوله آباء الموادّين، إلخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك، ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوّة والبنوّة والأخوّة والعشيرة {أُوْلَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} يعني: الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ومعنى {كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان}: خلقه، وقيل: أثبته، وقيل: جعله، وقيل: جمعه، والمعاني متقاربة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} قوّاهم بنصر منه على عدوّهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيا أمرهم، وقيل: هو نور القلب.
وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإيمان، وقيل: برحمة. قرأ الجمهور: {كتب} مبنياً للفاعل، ونصب الإيمان على المفعولية. وقرأ زرّ بن حبيش، والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول، ورفع الإيمان على النيابة. وقرأ زرّ بن حبيش: {عشيراتهم} بالجمع، ورويت هذه القراءة عن عاصم {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} على الأبد {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} أي: قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة {وَرَضُواْ عَنْهُ} أي: فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} أي: جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم، وتكريم فخيم {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} أي: الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.
وقد أخرج أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلّ حجرة من حجره، وعنده نفر من المسلمين، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم، فلا تكلموه»، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فقال حين رآه: «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا، واعتذروا، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية والتي بعدها.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجرّاح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة، فقتله، فنزلت: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.

.سورة الحشر:

هي أربع وعشرون آية.
وهي مدنية.
قال القرطبي: في قول الجميع.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحشر بالمدينة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر قال: سورة النضير: يعني أنها نزلت في بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات.

.تفسير الآيات (1- 7):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)}
قوله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} قد تقدّم تفسير هذا في سورة الحديد. {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر} هم بنو النضير، وهم. رهط من اليهود من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أوّل من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أوّل حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل: إن أوّل الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام، فليقرأ هذه الآية، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر» قال ابن العربي: الحشر أوّل وأوسط وآخر، فالأوّل إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة.
وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلاّ الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط، فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» واللام في {لأوّل الحشر} متعلقة ب {أخرج}، وهي لام التوقيت كقوله: {لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78]. {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} هذا خطاب للمسلمين، أي: ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم؛ لعزتهم، ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة، وعقار، ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدّة {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أي: وظنّ بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله: {مَّانِعَتُهُمْ} خبر مقدّم، و{حصونهم} مبتدأ مؤخر، والجملة خبر {أنهم}، ويجوز أن يكون {مانعتهم} خبر {أنهم}، و{حصونهم} فاعل {مانعتهم}، ورجح الثاني أبو حيان، والأوّل أولى {فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي: أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة، وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك، وقيل: هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قاله ابن جريج، والسديّ، وأبو صالح، فإنّ قتله أضعف شوكتهم.
وقيل: إن الضمير في {أتاهم}، و{لم يحتسبوا} للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، والأوّل أولى لقوله: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير، لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب: الخوف الذي يرعب الصدر، أي: يملؤه، وقذفه: إثباته فيه. وقيل: كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك، وتفسيره به، بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين} وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج، ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين: أنهم عرضوها لذلك. قرأ الجمهور: {يخربون} بالتخفيف، وقرأ الحسن، والسلمي، ونصر بن عاصم، وأبو العالية، وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته. واختار القراءة الأولى أبو عبيد، وأبو حاتم. قال الزهري، وابن زيد، وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل، كانوا يستحسنون الخشبة، أو العمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها.
وقال الزهري أيضاً: {يخربون بيوتهم} بنقض المعاهدة، و{أيدي المؤمنين} بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها، وب {أيدي المؤمنين} في إجلائهم عنها، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال {فاعتبروا ياأولى الأبصار} أي: اتعظوا وتدبروا، وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها. {وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ في الدنيا} أي: لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه، وقضى به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا، كما فعل ببني قريظة. والجلاء: مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاءً. والفرق بين الجلاء والإخراج، وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً من جهتين: إحداهما: أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني: أن الجلاء لا يكون إلاّ لجماعة، والإخراج يكون لجماعة ولواحد، كذا قال الماوردي.
{وَلَهُمْ في الآخرة عَذَابُ النار} هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب، وإن نجوا من عذاب الدنيا، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره من الجلاء في الدنيا، والعذاب في الآخرة {بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي: بسبب المشاقة منهم لله ولرسوله بعدم الطاعة، والميل مع الكفار، ونقض العهد {وَمَن يُشَاقّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} اقتصر هاهنا على مشاقة الله؛ لأن مشاقته مشاقة لرسوله. قرأ الجمهور: {يشاق} بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف، ومحمد بن السميفع: {يشاقق} بالفك. {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله} قال مجاهد: إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل، فنهاهم بعضهم، وقالوا: إنما هي مغانم للمسلمين، وقال الذين قطعوا: بل هو غيظ للعدوّ؛ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخل، وتحليل من قطعه من الإثم فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} قال قتادة، والضحاك: إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات.
وقال محمد بن إسحاق: إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، فقال بنو النضير، وهم أهل كتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبيّ تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟، وهل وجدت، فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد المسلمون في أنفسهم، فنزلت الآية، ومعنى الآية: أيُّ شيء قطعتم من ذلك أو تركتم فبإذن الله، والضمير في {تركتموها} عائد إلى {ما} لتفسيرها باللينة، وكذا في قوله: {قَائِمَةً على أُصُولِهَا}، ومعنى {على أُصُولِهَا}: أنها باقية على ما هي عليه.
واختلف المفسرون في تفسير اللينة، فقال الزهري، ومالك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والخليل: إنها النخل كله إلاّ العجوة.
وقال مجاهد: إنها النخل كله، ولم يستثن عجوة ولا غيرها.
وقال الثوري: هي كرام النخل.
وقال أبو عبيدة: إنها جميع أنواع التمر سوى العجوة والبرني.
وقال جعفر بن محمد: إنها العجوة خاصة، وقيل: هي ضرب من النخل، يقال لتمره: اللون، تمره أجود التمر.
وقال الأصمعي: هي الدقل. وأصل اللينة. لونة، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وجمع اللينة لين، وقيل: ليان. وقرأ ابن مسعود {ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماً على أصولها} أي: قائمة على سوقها، وقرئ: {على أصلها}، وقرئ: {قائماً على أصوله} {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} أي: ليذلّ الخارجين عن الطاعة، وهم اليهود، ويغيظهم في قطعها وتركها، لأنهم إذا رأوا المؤمنين يتحكمون في أموالهم كيف شاءوا من القطع والترك ازدادوا غيظاً. قال الزجاج: {وليخزي الفاسقين} بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا من قطع وترك، والتقدير: وليخزي الفاسقين أذن في ذلك، يدل على المحذوف قوله: {فَبِإِذْنِ الله}، وقد استدلّ بهذه الآية على جواز الاجتهاد، وعلى تصويب المجتهدين، والبحث مستوفى في كتب الأصول.
{وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي: ما ردّه عليه من أموال الكفار، يقال: فاء يفيء، إذا رجع، والضمير في {منهم} عائد إلى بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} يقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفاً، وهو سرعة السير، وأوجفه صاحبه: إذا حمله على السير السريع، ومنه قول تميم بن مقبل:
مذ أوبد بالبيض الحديد صقالها ** عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا

وقال نصيب:
ألا رُبَّ ركب قد قطعت وجيفهم ** إليك ولولا أنت لم يوجف الركب

و{ما} في {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} نافية، والفاء جواب الشرط إن كانت {ما} في قوله: {مَّا أَفَاء الله} شرطية، وإن موصولة، فالفاء زائدة، و{من} في قوله: {مِنْ خَيْلٍ} زائدة للتأكيد، والركاب. ما يركب من الإبل خاصة، والمعنى: أن ما ردّ الله على رسوله من أموال بني النضير لم تركبوا لتحصيله خيلاً، ولا إبلاً، ولا تجشمتم لها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، فجعل الله سبحانه أموال بني النضير لرسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة لهذا السبب، فإنه افتتحها صلحاً، وأخذ أموالها، وقد كان سأله المسلمون أن يقسم لهم، فنزلت الآية: {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} من أعدائه، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أصحابه لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، بل مشوا إليها مشياً، ولم يقاسوا فيها شيئًا من شدائد الحروب، {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يسلط من يشاء على من أراد، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]. {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله خاصة، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد، ووضع {أهل القرى} موضع قوله: {مِنْهُمْ} أي: من بني النضير للإشعار بأن هذا الحكم لا يختصّ ببني النضير وحدهم، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب. قيل: والمراد بالقرى: بنو النضير، وقريظة، وفدك، وخيبر.
وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها، هل معناهما متفق، أو مختلف؟ فقيل: معناهما متفق كما ذكرنا، وقيل: مختلف وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل. قال ابن العربي: لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات. أما الآية الأولى، وهي قوله: {وَمَا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ} فهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها.
وأما الآية الثانية، وهي قوله: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال، فنشأ الخلاف من ها هنا؛ فطائفة قالت: هي ملحقة بالأولى، وهي مال الصلح، وطائفة قالت: هي ملحقة بالثالثة، وهي آية الأنفال. والذين قالوا: إنها ملحقة بآية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة، أو محكمة؟ هذا معنى حاصل كلامه.
وقال مالك: إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، والآية الثانية: هي في بني قريظة، ويعني: أن معناها يعود إلى آية الأنفال. ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة، وأنّ أربعة أخماسه كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} المراد بقوله: {لِلَّهِ} أنه {يحكم فيه بما يشاء} {وَلِلرَّسُولِ} يكون ملكاً له {وَلِذِى القربى} وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، لأنهم قد منعوا من الصدقة، فجعل لهم حقاً في الفيء. قيل: تكون القسمة في هذا المال على أن يكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسه يقسم أخماساً. للرّسول خمس، ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس، وقيل: يقسم أسداساً. السادس: سهم الله سبحانه، ويصرف إلى وجوه القرب، كعمارة المساجد، ونحو ذلك {كيلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} أي: كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء دون الفقراء، والدولة: اسم للشيء يتداوله القوم بينهم، يكون لهذا مرّة ولهذا مرّة. قال مقاتل: المعنى: أنه يغلب الأغنياء الفقراء، فيقسمونه بينهم. قرأ الجمهور: {يكون} بالتحتية {دولة} بالنصب أي: كيلا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، وهشام، وأبو حيان: {تكون} بالفوقية {دولة} بالرفع، أي: كيلا تقع، أو توجد دولة، وكان تامة. وقرأ الجمهور: {دولة} بضم الدال. وقرأ أبو حيوة، والسلمي بفتحها. قال عيسى بن عمر، ويونس، والأصمعي: هما لغتان بمعنى واحد.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة بالفتح الذي يتداول من الأموال، وبالضم الفعل، وكذا قال أبو عبيدة. ثم لما بيّن لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} أي: ما أعطاكم من مال الغنيمة فخذوه، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه، ولا تأخذوه. قال الحسن، والسديّ: ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه، وما منعكم منه فلا تطلبوه.
وقال ابن جريج: ما آتاكم من طاعتي فافعلوا، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه. والحقّ أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، أو قول أو فعل، وإن كان السبب خاصاً، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا به من الشرع، فقد أعطانا إياه، وأوصله إلينا، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها. ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم به الرّسول، وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه، وخوفهم شدّة عقوبته، فقال: {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} فهو معاقب من لم يأخذه ما آتاه الرّسول، ولم يترك ما نهاه عنه.
وقد أخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير،- وهم طائفة من اليهود- على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم، ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة، والأموال إلاّ الحلقة، يعني: السلاح، فأنزل الله فيهم {سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} إلى قوله: {لأوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} فقاتلهم النبيّ حتى صالحهم على الإجلاء، وجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم ذلك، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله: {لأوَّلِ الحشر} فكان إجلاؤهم ذلك أوّل حشر في الدنيا إلى الشام.
وأخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقيّ في البعث عن ابن عباس قال: من شك أن المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لأوَّلِ الحشر} قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: «اخرجوا»، قالوا: «إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقيّ في الدلائل، وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وأن يسيروا إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. وفي البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير، وقطع وهي البويرة، ولها يقول حسان:
لهان على سراة بني لؤيّ ** حريق بالبويرة مستطير

فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِىَ الفاسقين}.
وأخرج الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: اللينة: النخلة {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} قال: استنزلوهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل، فحكّ في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً، فلنسألنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر، وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} الآية، وفي الباب أحاديث، والكلام في صلح بني النضير مبسوط في كتب السير.
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، ومما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّة في سبيل الله.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد، ولم يكن يومئذٍ خيل ولا ركاب يوجف بها. قال: والإيجاف أن يوضعوا السير، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من ذلك خيبر، وفدك، وقرى عرينة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمد لينبع، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتواها كلها، فقال ناس: هلا قسمها الله، فأنزل الله عذره فقال: {مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} الآية.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: كان ما أفاء الله على رسوله من خيبر نصف لله ورسوله، والنصف الآخر للمسلمين، فكان الذي لله ورسوله من ذلك الكثيبة، والوطيح، وسلالم، ووحدوه، وكان الذي للمسلمين الشقّ: ثلاثة عشر سهماً، ونطاة خمسة أسهم، ولم يقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر لأحد من المسلمين إلاّ لمن شهد الحديبية، ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلاّ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ.
وأخرج أبو داود، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفايا في النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبساً لنوائبه، وأما فدك فكانت لابن السبيل، وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء: قسم منها جزءين بين المسلمين، وحبس جزءاً لنفسه ولنفقة أهله، فما فضل عن نفقة أهله ردّها على فقراء المهاجرين.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن زنجويه في الأموال، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلاّ وله في هذا الفيء حقّ إلاّ ما ملكت أيمانكم.
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن ابن مسعود قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله»، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أمّ يعقوب، فجاءت ابن مسعود، فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، قال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله؟ قالت: لقد قرأت ما بين الدّفتين، فما وجدت فيه شيئًا من هذا، قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، أما قرأت {ومَا آتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه.