فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 11):

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}
قوله: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} تبارك تفاعل من البركة، والبركة النماء والزيادة. وقيل: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين. وقيل: دام فهو الدائم الذي لا أوّل لوجوده، ولا آخر لدوامه.
وقال الحسن: تبارك: تقدّس، وصيغة التفاعل للمبالغة، واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء، والملك هو ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة، فهو يعزّ من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء، وقيل: المراد بالملك ملك النبوّة، والأوّل أولى؛ لأن الحمل على العموم أكثر مدحاً وأبلغ ثناء، ولا وجه للتخصيص {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} أي: بليغ القدرة لا يعجزه شيء من الأشياء يتصرّف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام، ورفع ووضع، وإعطاء ومنع.
{الذى خَلَقَ الموت والحياة} الموت: انقطاع تعلق الرّوح بالبدن ومفارقته له، والحياة تعلق الرّوح بالبدن واتصاله به. وقيل: هي ما يصح بوجوده الإحساس. وقيل: ما يوجب كون الشيء حياً. وقيل: المراد الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة. وقدّم الموت على الحياة؛ لأن أصل الأشياء عدم الحياة، والحياة عارضة لها. وقيل: لأن الموت أقرب إلى القهر.
وقال مقاتل: خلق الموت يعني: النطفة، والمضغة والعلقة، والحياة يعني: خلقه إنساناً، وخلق الروح فيه، وقيل: خلق الموت على صورة كبش لا يمرّ على شيء إلاّ مات، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمرّ بشيء إلاّ حيي، قاله مقاتل والكلبي.
وقد ورد في التنزيل: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة} [الأنفال: 50]، وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61]، وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] وغير ذلك من الآيات {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اللام متعلقة بخلق أي: خلق الموت والحياة؛ ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملاً، فيجازيكم على ذلك. وقيل المعنى: ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكراً وأشدّ منه خوفاً، وقيل: أيكم أسرع إلى طاعة الله، وأورع عن محارم الله.
وقال الزجاج: اللام متعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت.
وقال الزجاج أيضاً، والفراء: إن قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} لم يقع على أيّ، لأن فيما بين البلوى وأيّ إضمار فعل، كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع، ومثله قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ} [القلم: 40] أي: سلهم ثم انظر أيهم، فأيكم في الآية مبتدأ، وخبره أحسن؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط؛ للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين {وَهُوَ العزيز} أي: الغالب الذي لا يغالب {الغفور} لمن تاب وأناب. {الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً} الموصول يجوز أن يكون تابعاً للعزيز، الغفور نعتاً، أو بياناً، أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب على المدح، و{طباقاً} صفة لسبع سموات أي: بعضها فوق بعض، وهو جمع طبق نحو جبل وجبال، أو جمع طبقة نحو رحبة ورحاب، أو مصدر طابق، يقال: طابق مطابقة وطباقاً، ويكون على هذا الوجه الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذات طباق، ويجوز أن يكون منتصباً على المصدرية بفعل محذوف، أي: طوبقت طباقاً {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} هذه الجملة صفة ثانية لسبع سموات، أو مستأنفة لتقرير ما قبلها، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، و{من} مزيدة لتأكيد النفي.
قرأ الجمهور: {من تفاوت}. وقرأ ابن مسعود وأصحابه، وحمزة، والكسائي: {تفوّت} مشدّداً بدون ألف، وهما لغتان. كالتعاهد والتعهد، والتحامل والتحمل؛ والمعنى على القراءتين. ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين، ولا اعوجاج ولا تخالف، بل هي مستوية مستقيمة دالة على خالقها، وإن اختلفت صورها وصفاتها، فقد اتفقت من هذه الحيثية {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} الفطور: الشقوق والصدوع والخروق أي: اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة. أخبر أوّلاً بأنه لا تفاوت في خلقه، ثم أمر ثانياً بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة. قال مجاهد، والضحاك: الفطور: الشقوق جمع فطر وهو الشق.
وقال قتادة: هل ترى من خلل؟.
وقال السديّ: هل ترى من خروق، وأصله من التفطر والانفطار، وهو التشقق والانشقاق، ومنه قول الشاعر:
بنى لكم بلا عمد سماء ** وزينها فما فيها فطور

وقول الآخر:
شققت القلب ثم رددت فيه ** هواك فليم فالتام الفطور

{ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: رجعتين مرّة بعد مرّة، وانتصابه على المصدر، والمراد بالتثنية: التكثير، كما في لبيك وسعديك، أي: رجعة بعد رجعة وإن كثرت. ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة، أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية، ولهذا قال أوّلاً: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} ثم قال ثانياً: {فارجع البصر} ثم قال ثالثاً: {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة، وأقطع للمعذرة {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} أي: يرجع إليك البصر ذليلاً صاغراً عن أن يرى شيئًا من ذلك، وقيل: معنى خاسئاً: مبعداً مطروداً عن أن يبصر ما التمسه من العيب، يقال: خسأت الكلب أي: أبعدته وطردته. قرأ الجمهور {ينقلب} بالجزم جواباً للأمر. وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: كليل منقطع. قال الزجاج: أي: وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور، وهو الإعياء، يقال: حسر بصره يحسر حسوراً أي: كلّ وانقطع، ومنه قول الشاعر:
نظرت إليها بالمحصب من منى ** فعاد إليّ الطرف وهو حسير

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} بيّن سبحانه بعد خلق السموات، وخلوّها من العيب والخلل أنه زينها بهذه الزينة، فصارت في أحسن خلق وأكمل صورة وأبهج شكل، والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية، والمصابيح جمع مصباح، وهو السراج، وسميت الكواكب مصابيح؛ لأنها تضيء كإضاءة السراج وبعض الكواكب، وإن كان في غير سماء الدنيا من السموات التي فوقها، فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا؛ لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراماً صقيلة شفافة {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} أي: وجعلنا المصابيح رجوماً يرجم بها الشياطين. وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى، وهي كونها زينة للسماء الدنيا؛ والمعنى أنها يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع، والرجوم جمع رجم بالفتح، وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به، كما في قولهم: الدرهم ضرب الأمير أي: مضروبة، ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته، ويقدر مضاف محذوف أي: ذات رجم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه. وقيل: إن الضمير في قوله: {وجعلناها} راجع إلى المصابيح على حذف مضاف أي: شهبها، وهي نارها المقتبسة منها لا هي أنفسها: لقوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ووجه هذا: أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها، كذا قال أبو عليّ الفارسي جواباً لمن سأله: كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم؟ قال القشيري: وأمثل من قوله هذا أن تقول: هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر، فمن تكلم فيها بغير ذلك، فقد تكلم فيما لا يعلم، وتعدّى وظلم. وقيل: معنى الآية: وجعلناها ظنوناً لشياطين الإنس، وهم المنجمون {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} أي: وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب السعير أي: عذاب النار، والسعير: أشدّ الحريق، يقال: سعرت النار، فهي مسعورة.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} من كفار بني آدم، أو من كفار الفريقين: {عَذَابَ جَهَنَّمَ} قرأ الجمهور برفع {عذاب} على أنه مبتدأ، وخبره: {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}. وقرأ الحسن، والضحاك، والأعرج بنصبه عطفاً على {عَذَابِ السعير}، {وَبِئْسَ المصير} ما يصيرون إليه، وهو جهنم. {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا} أي: طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار {سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا} أي: صوتاً كصوت الحمير عند أوّل نهيقها، وهو أقبح الأصوات، وقوله: {لها} في محل نصب على الحال أي: كائناً لها، لأنه في الأصل صفة، فلما قدّمت صارت حالاً.
وقال عطاء: الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار، وجملة: {وَهِىَ تَفُورُ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل، ومنه قول حسان:
تركتم قدركم لا شيء فيه ** وقدر الغير حامية تفور

{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} أي: تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من تغيظها عليهم. قال ابن قتيبة: تكاد تنشقّ غيظاً على الكفار. قرأ الجمهور {تميز} بتاء واحدة مخففة، والأصل: تتميز بتاءين. وقرأ طلحة بتاءين على الأصل. وقرأ البزي عن ابن كثير بتشديدها بإدغام إحدى التاءين في الأخرى. وقرأ الضحاك {تمايز} بالألف وتاء واحدة، والأصل تتمايز، وقرأ زيد بن عليّ: {تميز} من ماز يميز، والجملة في محل نصب على الحال، أو في محل رفع على أنها خبر آخر لمبتدأ، وجملة: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} مستأنفة لبيان حال أهلها، أو في محل نصب على الحال من فاعل {تميز} والفوج: الجماعة من الناس أي: كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألهم خزنتها من الملائكة سؤال توبيخ وتقريع: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} في الدنيا {نَّذِيرٍ} ينذركم هذا اليوم، ويحذركم منه. وجملة: {قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا السؤال، فقال: قالوا: بلى قد جاءنا نذير، فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم {فَكَذَّبْنَا} ذلك النذير {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَئ} من الأشياء على ألسنتكم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كَبِيرٍ} أي في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب، والمعنى: أنه قال: كلّ فوج من تلك الأفواج حاكياً لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه: ما أنتم أيها الرسل فيم تدّعون أن الله نزل عليكم آيات تنذرونا بها إلاّ في ذهاب عن الحق، وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره.
ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة فقال: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصحاب السعير} أيّ: لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل، أو نعقل شيئًا من ذلك ما كنا في عداد أهل النار، ومن جملة من يعذب بالسعير، وهم الشياطين، كما سلف. قال الزجاج: لو كنا نسمع سمع من يعي، أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار، فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله سبحانه: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} الذي استحقوا به عذاب النار، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء {فَسُحْقًا لأصحاب السعير} أي: فبعداً لهم من الله ومن رحمته.
وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: هو وادٍ في جهنم يقال له: السحق. قرأ الجمهور: {فسحقاً} بإسكان الحاء.
وقرأ الكسائي، وأبو جعفر بضمها، وهما لغتان مثل السحت والرعب. قال الزجاج، وأبو عليّ الفارسي: فسحقاً منصوب على المصدر أي: أسحقهم الله سحقاً. قال أبو عليّ الفارسي: وكان القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، واللام في {لأصحاب السعير} للبيان، كما في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23].
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {سَبْعَ سموات طِبَاقاً} قال: بعضها فوق بعض.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} قال: ما تفوت بعضه بعضاً تفاوتاً مفرقاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله: {مِن تفاوت} قال: من تشقق، وفي قوله: {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} قال: شقوق، وفي قوله: {خَاسِئًا} قال: ذليلاً {وَهُوَ حَسِيرٌ} كليل.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً. قال: الفطور: الوهي.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً {مِن فُطُورٍ} قال: من تشقق أو خلل، وفي قوله: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ} قال: يرجع إليك {خَاسِئًا} قال: صاغراً {وَهُوَ حَسِيرٌ} قال: معييَّ، ولا يرى شيئًا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً خاسئاً قال: ذليلاً {وَهُوَ حَسِيرٌ} قال: عييّ مرتجع.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {تَكَادُ تَمَيَّزُ} قال: تتفرّق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً {تَكَادُ تَمَيَّزُ} قال: يفارق بعضها بعضاً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {فَسُحْقًا} قال: بعداً.

.تفسير الآيات (12- 21):

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}
قوله: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة، وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أي: غائبين عنه، أو غائباً عنهم، والمعنى: أنهم يخشون عذابه، ولم يروه، فيؤمنون به خوفاً من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى: يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس، وذلك في خلواتهم، أو المراد بالغيب كون العذاب غائباً عنهم لأنهم في الدنيا، وهو إنما يكون يوم القيامة، فتكون الباء على هذا سببية {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة، ومثل هذه الآية قوله: {مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب} [ق: 33]. ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه، والمعنى: إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله، فكلّ ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية، وجملة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل للاستواء المذكور، وذات الصدور هي مضمرات القلوب. والاستفهام في قوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} للإنكار، والمعنى: ألا يعلم السرّ، ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده، فالموصول عبارة عن الخالق، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وفي يعلم ضمير يعود إلى الله، أي: ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه، وجملة: {وَهُوَ اللطيف الخبير} في محل نصب على الحال من فاعل يعلم، أي: الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم امتنّ سبحانه على عباده، فقال: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} أي: سهلة لينة تستقرّون عليها، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها، والذلول في الأصل هو المنقاد الذي يذلّ لك، ولا يستصعب عليك، والمصدر الذلّ، والفاء في قوله: {فامشوا في مَنَاكِبِهَا} لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة. قال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها.
وقال قتادة، وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها، وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} أي: مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض {وَإِلَيْهِ النشور} أي: وإليه البعث من قبوركم لا إلى غيره، وفي هذا وعيد شديد.
ثم خوّف سبحانه الكفار فقال: {ءامَنْتُمْ مَّن في السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: عقوبة من في السماء، وقيل: من في السماء قدرته، وسلطانه، وعرشه، وملائكته، وقيل: من في السماء من الملائكة، وقيل: المراد جبريل، ومعنى {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارض} يقلعها ملتبسة بكم، كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وقوله: {أَن يَخْسِفَ} بدل اشتمال من الموصول أي: ءأمنتم خسفه، أو على حذف من أي: من أن يخسف {فَإِذَا هي تَمُورُ} أي: تضطرب، وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون.
قرأ الجمهور. {ءأمنتم} بهمزتين. وقرأ البصريون، والكوفيون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واواً. ثم كرّر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر، فقال: {أَمْ أَمِنتُمْ مّن في السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} أي: حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: سحاب فيها حجارة، وقيل: ريح فيها حجارة {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: إنذاري إذا عاينتم العذاب، ولا ينفعكم هذا العلم، وقيل: النذير هنا محمد، قاله عطاء، والضحاك. والمعنى: ستعلمون رسولي وصدقه، والأوّل أولى. والكلام في: {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} كالكلام في: {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} فهو: إما بدل اشتمال، أو بتقدير من {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية. كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الرس، وقوم فرعون {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدّر، أي: أغفلوا ولم ينظروا، ومعنى: {صافات} أنها صافة لأجنحتها في الهواء، وتبسيطها عند طيرانها {وَيَقْبِضْنَ} أي: يضممن أجنحتهنّ. قال النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحه: صافّ، وإذا ضمها: قابض كأنه يقبضها، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح، وقبضه بعد البسط، ومنه قول أبي خراش:
يبادر جنح الليل فهو مزايل ** تحت الجناح بالتبسط والقبض

وإنما قال: {وَيَقْبِضْنَ} ولم يقل قابضات، كما قال صافات؛ لأن القبض يتجدد تارة فتارة، وأما البسط فهو الأصل، كذا قيل. وقيل: إن معنى {وَيَقْبِضْنَ}: قبضهنّ لأجنحتهنّ عند الوقوف من الطيران، لا قبضها في حال الطيران، وجملة {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن، أو مستأنفة؛ لبيان كمال قدرة الله سبحانه. والمعنى: أنه ما يمسكهنّ في الهواء عند الطيران إلاّ الرحمن القادر على كلّ شيء {إِنَّهُ بِكُلّ شَئ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.
{أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} الاستفهام للتقريع والتوبيخ. والمعنى: أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله، والجند الحزب والمنعة. قرأ الجمهور: {أمّن} هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من، وأم بمعنى بل، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها، كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة؛ لأن بعدها هنا {من} الاستفهامية، فأغنت عن ذلك التقدير، ومن الاستفهامية مبتدأ، واسم الإشارة خبره، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة، وينصركم صفة لجند، ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم، والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزاً نصر الرحمن.
وقرأ طلحة بن مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية، وجملة: {إِنِ الكافرون إِلاَّ في غُرُورٍ} معترضة مقرّرة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال، والمعنى: ما الكافرون إلاّ في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرّهم به.
{أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعراباً، أي: من الذي يدرّ عليكم الأرزاق من المطر وغيره، إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم {بَل لَّجُّواْ في عُتُوّ وَنُفُورٍ} أي: لم يتأثروا لذلك بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحقّ ونفور عنه، ولم يعتبروا ولا تفكروا، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره، والعتوّ العناد، والطغيان، والنفور الشرود.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} قال: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وأبو عبيدة بن الجراح.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {فِى مَنَاكِبِهَا} قال: جبالها.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أطرافها.
وأخرج الطبراني، وابن عديّ، والبيهقي في الشعب، والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله: «إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بَل لَّجُّواْ في عُتُوّ وَنُفُورٍ} قال: في ضلال.