فصل: تفسير الآيات (19- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 39):

{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}
قوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أشدّ الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه. يقال: هلع بالكسر، فهو هلع وهلوع على التكثير.
وقال عكرمة: هو الضجور. قال: الواحدي، والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} أي: إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض، أو نحو ذلك، فهو جزوع، أي: كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة، ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك.
وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشرّ لم يصبر. قال ثعلب: قد فسّر الله الهلوع: هو الذي إذا أصابه الشرّ أظهر شدّة الجزع، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس، والعرب تقول: ناقة هلوع، وهلواع: إذا كانت سريعة السير خفيفته، ومنه قول الشاعر:
شكاء ذعلبة إذا استدبرتها ** جرح إذا استقبلتها هلواع

والذعلبة: الناقة السريعة، وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدّرة، أو محققة؛ لكونها طبائع جبل الإنسان عليها، والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً. {إِلاَّ المصلين} أي: المقيمين للصلاة وقيل: المراد بهم أهل التوحيد يعني: أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع؛ وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.
ثم بيّنهم سبحانه فقال: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} أي: لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً. قال الزجاج: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة، وقال الحسن، وابن جريج: هو التطوع منها. قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدّون الصلاة المكتوبة. وقيل: الذين يصلونها لوقتها، والمراد بالآية جميع المؤمنين، وقيل: الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين. {والذين في أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ} قال قتادة، ومحمد بن سيرين: المراد الزكاة المفروضة.
وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقيل: صلة الرحم، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً، ولجعله قريناً للصلاة، وقد تقدّم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى. {والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين} أي: بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه. وقيل: يصدّقونه بأعمالهم، فيتعبون أنفسهم في الطاعات {والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ} أي: خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم، واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم. وجملة: {إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} مقرّرة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد، وأن حق كل أحد أن يخافه.
{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} إلى قوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون} قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى.
{والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} أي: لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئًا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم. قرأ الجمهور: {لأماناتهم} بالجمع، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن {لأمانتهم} بالإفراد، والمراد: الجنس: {وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ} أي: يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، وقد تقدّم القول في الشهادة في سورة البقرة، قرأ الجمهور: {بشهادتهم} بالإفراد. وقرأ حفص، ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع. قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات. قال الفرّاء: ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: على أذكارها وأركانها وشرائطها، لا يخلون بشيء من ذلك. قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها.
وقال ابن جريج: المراد التطوّع، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلاً، وما وصفهم به ثانياً، فإن معنى الدوام: هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل، كما سلف؛ ومعنى المحافظة: أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها وقيل: المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرّر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحقّ أن يستقلّ بموصوف منفرد، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بتلك الصفات {فِى جنات مُّكْرَمُونَ} أي: مستقرّون فيها، مكرمون بأنواع الكرامات، وخبر المبتدأ قوله: {فِي جنات}، وقوله: {مُّكْرَمُونَ} خبر آخر، ويجوز أن يكون الخبر مكرمون، وفي جنات متعلق به. {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أي: أيّ شيء لهم حواليك مسرعين، قال الأخفش: مهطعين مسرعين، ومنه قول الشاعر:
بمكة أهلها ولقد أراهم ** إليهم مهطعين إلى السماع

وقيل: المعنى: ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك، ولا يعملون بما تأمرهم؟ وقيل: ما بالهم مسرعين إلى التكذيب. وقيل: ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك، فيكذبونك ويستهزئون بك.
وقال الكلبي: إن معنى {مُهْطِعِينَ}: ناظرين إليك.
وقال قتادة: عامدين. وقيل: مسرعين إليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك. {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} أي: عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة، وعزين جمع عزة، وهي العصبة من الناس، ومنه قول الشاعر:
ترانا عنده والليل داج ** على أبوابه حلقاً عزينا

وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ** أمسى سراتهم إليك عزينا

وقال عنترة:
وقرن قد تركت لدي ولي ** عليه الطير كالعصب العزينا

وقيل: أصلها عزوة من العزو؛ كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى. قال في الصحاح: والعزة: الفرقة من الناس، والهاء عوض من التاء، والجمع عزى وعزون، وقوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} متعلق بعزين، أو بمهطعين. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قال المفسرون: كان المشركون يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنّ قبلهم، فنزلت الآية. قرأ الجمهور: {أن يدخل} مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وطلحة بن مصرف، والأعرج، ويحيى بن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل. ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال: {كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ} أي: من القذر الذين يعلمون به، فلا ينبغي لهم هذا التكبر. وقيل المعنى: إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو امتثال الأمر والنهي، وتعريضهم للثواب والعقاب، كما في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 59]، ومنه قول الأعشى:
وأزمعت من آل ليلى ابتكارا ** وشطت على ذي هوى أن يزارا

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً}.
وأخرج ابن المنذر عنه: {هَلُوعاً} قال: الشره.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: على مواقيتها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن عمران بن حصين: {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: الذي لا يلتفت في صلاته.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عقبة بن عامر {الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا.
وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قال: ينظرون {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} قال: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به.
وأخرج مسلم، وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، ونحن حلق متفرقون فقال: «ما لي أراكم عزين».
وأخرج أحمد، وابن ماجه، وابن سعد، وابن أبي عاصم، والباوردي، وابن قانع، والحاكم، والبيهقي في الشعب، والضياء عن بشر بن جحاش قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} إلى قوله: {كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ}، ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفه، ووضع عليها أصبعه، وقال: «يقول الله: ابن آدم، أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة».

.تفسير الآيات (40- 44):

{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}
قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ} (لا) زائدة كما تقدّم قريباً، والمعنى: فأقسم {بِرَبّ المشارق والمغارب} يعني: مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه. قرأ الجمهور: {المشارق والمغارب} بالجمع، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن، وحميد بالإفراد. {إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ} أي: على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي: بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر؛ ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء، وعدم تبديلهم بخلق آخر. {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} أي: اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل بما أمرت به ولا يعظمنّ عليك ما هم فيه، فليس عليك إلاّ البلاغ {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} وهو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قرأ الجمهور: {يلاقوا}. وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد: {حتى يلقوا} {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً} يوم بدل من يومهم، وسراعاً منتصب على الحال من ضمير يخرجون، قرأ الجمهور {يخرجون} على البناء للفاعل. وقرأ السلمي، والأعمش، والمغيرة، وعاصم في رواية على البناء للمفعول، والأجداث جمع جدث، وهو القبر {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قرأ الجمهور: {نصب} بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ ابن عامر، وحفص بضم النون والصاد، وقرأ عمرو بن ميمون، وأبو رجاء بضم النون وإسكان الصاد. قال في الصحاح: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذا النصب بالضم، وقد يحرّك. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

والجمع الأنصاب.
وقال الأخفش، والفراء: النصب جمع النصب، مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع النصب فهو جمع الجمع. وقيل: النصب جمع نصاب، وهو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3].
وقال النحاس: نصب ونصب بمعنى واحد. وقيل: معنى {إلى نُصُبٍ}: إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك، وقال الكلبي: إلى شيء منصوب علم أو راية أي: كأنهم إلى علم يدعون إليه، أو راية تنصب لهم يوفضون، قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوّلهم على آخرهم.
وقال أبو عمرو: النصب شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. ومعنى يوفضون: يسرعون، والإيفاض الإسراع. يقال: أوفض إيفاضاً، أي: أسرع إسراعاً، ومنه قول الشاعر:
فوارس ذبيان تحت الحديد ** كالجنّ يوفض من عبقر

وعبقر: قرية من قرى الجن، كما تزعم العرب، ومنه قول لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر

وانتصاب {خاشعة أبصارهم} على الحال من ضمير يوفضون، وأبصارهم مرتفعة به، والخشوع الذلة والخضوع، أي: لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة شديدة.
قال قتادة هي: سواد الوجوه، ومنه غلام مراهق: إذا غشيه الاحتلام، يقال: رهقه بالكسر يرهقه رهقاً، أي: غشيه، ومثل هذا قوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم ذكره. وهو مبتدأ وخبره: {اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي: الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر، ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به، وإن كان مستقبلاً، فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه.
وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب} قال: للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه، ومغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس وغير مغربها بالأمس.
وأخرج ابن جرير عنه: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال: إلى علم يستبقون.

.سورة نوح:

هي تسع وعشرون آية، أو ثمان وعشرون آية.
وهي مكية.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة: {إنا أرسلنا نوحا} بمكة.

.تفسير الآيات (1- 20):

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}
قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ} قد تقدّم أن نوحاً أوّل رسول أرسله الله، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وقد تقدّم مدّة لبثه في قومه، وبيان جميع عمره، وبيان السنّ التي أرسل وهو فيها في سورة العنكبوت. {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} أي: بأن أنذر على أنها مصدرية. ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول. وقرأ ابن مسعود: {أنذر} بدون أن، وذلك على تقدير القول، أي فقلنا له: أنذر {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: عذاب شديد الألم، وهو عذاب النار.
وقال الكلبي: هو ما نزل بهم من الطوفان. وجملة: {قَالَ يَا قَوْمٌ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مستأنفة استئنافاً بيانياً على تقدير سؤال، كأنه قيل: فماذا قال نوح؟ فقال: قال لهم إلخ. والمعنى: إني لكم منذر من عقاب الله ومخوّف لكم، ومبين لما فيه نجاتكم. {أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} {أن} هي التفسيرية لنذير، أو هي المصدرية أي: بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره، {واتقوه} أي: اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه، {وأطيعون} فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله.
{يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} هذا جواب الأمر، و{من} للتبعيض، أي: بعض ذنوبكم، وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته.
وقال السديّ: المعنى يغفر لكم ذنوبكم، فتكون {من} على هذا زائدة. وقيل: المراد بالبعض: ما لا يتعلق بحقوق العباد. وقيل: هي لبيان الجنس. وقيل: يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدّره لكم، على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان. وقيل: التأخير بمعنى البركة في أعمارهم أن آمنوا، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا. قال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم.
وقال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب.
وقال الفراء: المعنى لا يميتكم غرقاً ولا حرقاً ولا قتلاً {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ} أي: ما قدّره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب إذا جاء، وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة، فبادروا إلى الإيمان والطاعة. وقيل المعنى: إن أجل الله، وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان. وقيل المعنى: إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: شيئًا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به، أو لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
{قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً} أي: قال نوح منادياً لربه، وحاكياً له ما جرى بينه وبين قومه، وهو أعلم به منه إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائماً في الليل والنهار من غير تقصير. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} عما دعوتهم إليه وبعداً عنه. قال مقاتل: يعني تباعداً من الإيمان، وإسناد الزيادة إلى الدعاء؛ لكونه سببها، كما في قوله: {زَادَتْهُمْ إيمانا} [الأنفال: 2]. قرأ الجمهور: {دعائي} بفتح الياء، وقرأ الكوفيون، ويعقوب، والدوري عن أبي عمرو بإسكانها، والاستثناء مفرّغ. {وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} أي: كلما دعوتهم إلى سبب المغفرة، وهو الإيمان بك، والطاعة لك {جَعَلُواْ أصابعهم في ءاذانهم} لئلا يسمعوا صوتي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي: غطوا بها وجوههم لئلا يروني. وقيل: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان. وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس فلان ثياب العداوة. وقيل: استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم {وَأَصَرُّواْ} أي: استمروا على الكفر، ولم يقلعوا عنه ولا تابوا منه {واستكبروا} عن قبول الحق، وعن امتثال ما أمرهم به {استكبارا} شديداً.
{ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا} أي: مظهراً لهم الدعوة مجاهراً لهم بها. {ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ} أي: دعوتهم معلناً لهم بالدعاء {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي: وأسررت لهم الدعوة إسراراً كثيراً. قيل المعنى: أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجع ذلك فيهم. قال مجاهد: معنى أعلنت صحت. وقيل: معنى {أسررت}: أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها. وانتصاب {جهاراً} على المصدرية؛ لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار، فالجهار نوع من الدعاء كقولهم: قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف، أي: دعاء جهاراً، وأن يكون مصدراً في موضع الحال أي: مجاهراً، ومعنى {ثم} الدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما. قرأ الجمهور: {إني} بسكون الياء، وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها. {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أي: سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أي: كثير المغفرة للمذنبين. وقيل: معنى {استغفروا}: توبوا عن الكفر إنه كان غفاراً للتائبين {يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي: يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار. وقيل: المراد بالسماء المطر، كما في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

والمدرار: الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء، ولم يؤنث، لأن مفعالاً لا يؤنث؛ تقول امرأة مئناث ومذكار، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إرسالاً مدراراً، وقد تقدّم الكلام عليه في سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر.
وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق، ولهذا قال: {وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} يعني: بساتين {وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} جارية. قال عطاء: المعنى يكثر أموالكم وأولادكم. أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي: أيّ عذر لكم في ترك الرجاء، والرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: ما لكم لا تخافون الله، والوقار العظمة من التوقير، وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون حقّ عظمته، فتوحدونه وتطيعونه، و{لاَ تَرْجُونَ} في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين، والعامل فيه معنى الاستقرار في لكم، ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثواباً، ولا تخافون منه عقاباً.
وقال مجاهد، والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل، وخزاعة، ومضر يقولون: لم أرج: لم أبل.
وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان.
وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً.
وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤدّون لله طاعة.
وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقاً، ولا تشكرون له نعمة، وجملة: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة: نطفة، ثم مضغة، ثم علقة إلى تمام الخلق، كما تقدّم بيانه في سورة المؤمنين، والطور في اللغة المرّة، وقال ابن الأنباري: الطور الحال، وجمعه أطوار. وقيل: أطواراً صبياناً، ثم شباناً، ثم شيوخاً. وقيل: الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى: كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟ {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً} الخطاب لمن يصلح له، والمراد: الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب قال الحسن: خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء، وأرض وأرض خلق وأمر، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وانتصاب {طباقاً} على المصدرية، تقول: طابقه مطابقة، وطباقاً، أو حال بمعنى ذات طباق، فحذف ذات وأقام طباقاً مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جرّ {طباقاً} على النعت {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي: منوّراً لوجه الأرض، وجعل القمر في السموات مع كونها في سماء الدنيا؛ لأنها إذا كانت في إحداهنّ فهي فيهنّ، كذا قال ابن كيسان.
قال الأخفش: كما تقول: أتاني بنو تميم، والمراد بعضهم.
وقال قطرب: فيهنّ بمعنى معهنّ، أي: خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض، كما في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده ** ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال

أي: مع ثلاثة أحوال {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} أي: كالمصباح لأهل الأرض؛ ليتوصلوا بذلك إلى التصرّف فيما يحتاجون إليه من المعاش. {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} يعني: آدم خلقه الله من أديم الأرض، والمعنى: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين، و{نباتاً} إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد، أو مصدر لفعل محذوف، أي: أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتاً.
وقال الخليل، والزجاج: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى {أنبتكم}: جعلكم تنبتون نباتاً. وقيل المعنى: والله أنبت لكم من الأرض النبات، فنباتاً على هذا مفعول به. قال ابن بحر: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي: في الأرض {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} يعني: يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة. {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} أي: فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم. {لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي: طرقاً واسعة، والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء، وغيره. وقيل الفج: المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} قال: لئلا يسمعوا ما يقول: {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} قال: ليتنكروا، فلا يعرفهم {واستكبروا استكبارا} قال: تركوا التوبة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عنه {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} قال: غطوا وجوههم لئلا يروا نوحاً ولا يسمعوا كلامه.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} قال: لا تعلمون لله عظمة.
وأخرج ابن جرير، والبيهقي عنه أيضاً: {وَقَاراً} قال: عظمة. وفي قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} قال: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: لا تخافون لله عظمة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: لا تخشون له عقاباً ولا ترجون له ثواباً.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عليّ بن أبي طالب: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر، فوقف، فنادى بأعلى صوته {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال: الشمس والقمر، وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك عليكم أنه من كتاب الله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال: تضيء لأهل السموات، كما تضيء لأهل الأرض.
وأخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب قال: اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض العتب، فتعاتبا فذهب ذلك، فقال عبد الله بن عمرو لكعب: سلني عما شئت، فلا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن، فقال له: أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع، كما هو في الأرض؟ قال: نعم ألم تروا إلى قول الله {خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً}.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه عن ابن عباس: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} قال: وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض.
وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} قال: خلق فيهنّ حين خلقهنّ ضياء لأهل الأرض، وليس في السماء من ضوئه شيء، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً: {سُبُلاً فِجَاجاً} قال: طرقاً مختلفة.