فصل: تفسير الآيات (21- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 28):

{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)}
قوله: {قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} أي: استمرّوا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عزّ وجلّ، وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه، وهو أعلم بذلك {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} أي: اتبع الأصاغر رؤساءهم؛ وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلاّ ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة. قرأ أهل المدينة، والشام، وعاصم، وولده بفتح الواو واللام. وقرأ الباقون بسكون اللام، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعاً، وقد تقدّم تحقيقه، ومعنى {واتبعوا}: أنهم استمرّوا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} أي: مكراً كبيراً عظيماً، يقال: كبير وكبار، وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وجميل وجمال وجمال. قال المبرد: كباراً بالتشديد للمبالغة، ومثل {كباراً} قرّاء لكثير القراءة، وأنشد ابن السكيت:
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ** بالحسن قلب المسلم القرّاء

قرأ الجمهور: {كباراً} بالتشديد. وقرأ ابن محيصن، وحميد، ومجاهد بالتخفيف. قال أبو بكر: هو جمع كبير كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل، فلذلك وصفه بالجمع.
وقال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
واختلف في مكرهم هذا ما هو؟ فقيل: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح، وقيل: هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم.
وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرنّ إلهتكم وقيل: مكرهم كفرهم. {وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ} أي: لا تتركوا عبادة إلهتكم، وهي الأصنام والصور التي كانت لهم، ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور. {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي: لا تتركوا عبادة هذه. قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة، فقال لهم إبليس: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة، ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم، فقال لهم إبليس: إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء، لأنهم صوّروها على صورة أولئك القوم.
وقال عروة بن الزبير وغيره: إن هذه كانت أسماء لأولاد آدم، وكان ودّ أكبرهم. قال الماوردي: فأما ودّ، فهو أوّل صنم معبود، سمي ودّاً لودّهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس، وعطاء، ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم:
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا ** لهو النساء وإن الدين قد غربا

وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة.
وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان؛ وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة، وعكرمة، وعطاء.
وقال الثعلبي: كان لكهلان بن سبأ، ثم توارثوه حتى صار في همدان، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني:
يريش الله في الدنيا ويبري ** ولا يبري يعوق ولا يريش

وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة، ومقاتل. قرأ الجمهور: {ودّاً} بفتح الواو. وقرأ نافع بضمها. قال الليث: ودّ بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح، وبه سمي عمرو بن ودّ. قال في الصحاح. والودّ بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. وقرأ الجمهور: {ولا يغوث ويعقوق} بغير تنوين، فإن كانا عربيين، فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا عجميين، فللعجمة والعلمية. وقرأ الأعمش: {ولا يغوثا ويعوقا} بالصرف. قال ابن عطية: وذلك وهم. ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الإلهة؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها {وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} أي: أضلّ كبراؤهم ورؤساؤهم كثيراً من الناس. وقيل: الضمير راجع إلى الأصنام: أي: ضلّ بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم: {رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [إبراهيم: 36] وأجرى عليهم ضمير من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل. {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} معطوف على {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم.
وقال أبو حيان: إنه معطوف على قد أضلوا، ومعنى: {إِلاَّ ضَلاَلاً} إلاّ عذاباً: كذا قال ابن بحر، واستدلّ على ذلك بقوله: {إِنَّ المجرمين في ضلال وَسُعُرٍ} [القمر: 47]. وقيل: إلاّ خسراناً. وقيل: إلاّ فتنة بالمال والولد. وقيل: الضياع. وقيل: ضلالاً في مكرهم.
{مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} {ما} مزيدة للتأكيد، والمعنى: من خطيئاتهم، أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} عقب ذلك، وهي نار الآخرة. وقيل: عذاب القبر. قرأ الجمهور: {خطيئاتهم} على جمع السلامة، وقرأ أبو عمرو: {خطاياهم} على جمع التكسير، وقرأ الجحدري، وعمرو بن عبيد، والأعمش، وأبو حيوة، وأشهب العقيلي: {خطيئتهم} على الإفراد، قال الضحاك عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في حالة واحدة كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في جانب. قرأ الجمهور: {أغرقوا} من أغرق، وقرأ زيد بن عليّ: {غرقوا} بالتشديد. {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي: لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} معطوف على {قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر دعا عليهم بالهلاك. قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحي إليه: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} [هود: 36] فأجاب الله دعوته وأغرقهم.
وقال محمد بن كعب، ومقاتل، والربيع بن أنس، وابن زيد، وعطية: إنما قال هذا حين أخرج الله كلّ مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل: بأربعين. قال قتادة: لم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب.
وقال الحسن، وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذاباً من الله لهم، وعدلاً فيهم، ولكن أهلك ذرّيتهم وأطفالهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، ومعنى {دَيَّاراً}: من يسكن الديار، وأصله ديوار على فيعال، من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي: أصله من الدار أي: نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار أي: أحد. وقيل الديار: صاحب الديار، والمعنى: لا تدع أحداً منهم إلاّ أهلكته {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} أي: إن تتركهم على الأرض يضلوا عبادك عن طريق الحقّ {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي: إلاّ فاجراً بترك طاعتك كفاراً لنعمتك أي: كثير الكفران لها، والمعنى: إلاّ من سيفجر ويكفر.
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه والمؤمنين، فقال: {رَّبّ اغفر لِى ولوالدى} وكانا مؤمنين، وأبوه لامك بن متوشلخ، كما تقدّم، وأمه سمحاء بنت أنوش، وقيل: أراد آدم وحواء.
وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجدّه. وقرأ سعيد بن جبير: {ولوالدي} بكسر الدال على الإِفراد. {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} قال الضحاك، والكلبي: يعني مسجده، وقيل: منزله الذي هو ساكن فيه، وقيل: سفينته. وقيل: لمن دخل في دينه، وانتصاب {مُؤْمِناً} على الحال، أي: لمن دخل بيتي متصفاً بصفة الإيمان، فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال: {سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} [هود: 43] ثم عمم الدعوة، فقال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي: واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث. ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين، فقال: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أي: لا تزد المتصفين بالظلم إلاّ هلاكاً، وخسراناً ودماراً وقد شمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قال: هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عنه قال: صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب: أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت.

.سورة الجن:

هي ثمان وعشرون آية.
وهي مكية.
قال القرطبي: في قول الجميع.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجن بمكة.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة وابن الزبير مثله.

.تفسير الآيات (1- 13):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)}
قوله: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} قرأ الجمهور: {أوحى} رباعياً. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو إياس، والعتكي عن أبي عمرو: {وحي} ثلاثياً، وهما لغتان. واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم؛ لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك: أوحي إليّ على لسان جبريل {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} ومثله قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} [الأحقاف: 29] ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا. قوله: {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} هذا هو القائم مقام الفاعل، ولهذا فتحت أنّ، والضمير للشأن، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة. قال الضحاك: والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين.
وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. قيل: هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية. وقيل: نوع من الأرواح المجرّدة. وقيل: هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها.
وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك: {وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك: 5] وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها، وإن صرفوا عن النار. والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 56] وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم، بل الرسل جميعاً من الإنس، وإن أشعر قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} [الزمر: 71] بخلاف هذا، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة.
{فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً} أي: قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، أي: سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته. وقيل: عجباً في مواعظه. وقيل: في بركته، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة، أو على حذف المضاف، أي: ذا عجب، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي: معجباً {يَهْدِى إِلَى الرشد} أي: إلى مراشد الأمور، وهي الحقّ والصواب، وقيل: إلى معرفة الله، والجملة صفة أخرى للقرآن {فآمنا به} أي: صدّقنا به بأنه من عند الله {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} من خلقه، ولا نتخذ معه إلها آخر؛ لأنه المتفرّد بالربوبية، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به، ولم ينتفع كفار الإنس لاسيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع، وقتلهم أقبح مقتل، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون.
{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} قرأه حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص، وعلقمة، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وخلف، والسلمي: {وأنه تعالى} بفتح أنّ، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها، وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19]، وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلاّ في قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] فإنهم اتفقوا على الفتح، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع، فعلى العطف على محل الجار، والمجرور في {فآمنا به} كأنه قيل: فصدّقناه، وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع، فعلى العطف على {إنا سمعنا}، أي: فقالوا: إنا سمعنا قرآناً، وقالوا: إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم، وأبو عبيد قراءة الكسر؛ لأنه كله من كلام الجنّ ومما هو محكيّ عنهم بقوله: {فقالوا إنا سمعنا}. وقرأ أبو جعفر، وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع، وهي: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس} قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجنّ. وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} [الجن: 19] بالفتح؛ لأنه معطوف على قوله: {أَنَّهُ استمع}. وقرأ نافع، وابن عامر، وشيبة، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفاً على فآمنا به بذلك التقدير السابق، واتفقوا على الفتح في {أَنَّهُ استمع}، كما اتفقوا على الفتح في {أن المساجد} [الجن: 18] وفي {وَإِنَّ استقاموا} [الجن: 16] واتفقوا على الكسر في: {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} و{قُلْ إِنَّمَا ادعوا رَبّى} [الجن: 20] و: {قُلْ إِنْ أَدْرِى} [الجن: 25] و: {قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ} [الجن: 21]. والجدّ عند أهل اللغة العظمة والجلال، يقال: جدّ في عيني أي: عظم، فالمعنى: ارتفع عظمة ربنا وجلاله، وبه قال عكرمة، ومجاهد، وقال الحسن: المراد تعالى غناه، ومنه قيل للحظ، جدّ: ورجل مجدود أي: محظوظ، وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيد، والخليل أي: لا ينفع ذا الغنى منك الغنى أي: إنما تنفعه الطاعة، وقال القرطبي، والضحاك: جدّه آلاؤه، ونعمه على خلقه.
وقال أبو عبيدة، والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السديّ: أمره.
وقال سعيد بن جبير: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} أي: تعالى ربنا وقيل: جدّه قدرته.
وقال محمد بن عليّ بن الحسين، وابنه جعفر الصادق، والربيع بن أنس: ليس لله جدّ، وإنما قالته الجنّ للجهالة. قرأ الجمهور: {جدّ} بفتح الجيم، وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، ومحمد بن السميفع بكسر الجيم، وهو ضدّ الهزل، وقرأ أبو الأشهب: {جدي ربنا} أي: جدواه ومنفعته.
وروي عن عكرمة أيضاً أنه قرأ بتنوين {جدّ} ورفع {ربنا} على أنه بدل من جدّ {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} هذا بيان لتعالى جدّه سبحانه. قال الزجاج: تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ونزّهوا الله سبحانه عنهما.
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} الضمير في {أنه} للحديث، أو الأمر، {وسفيهنا} يجوز أن يكون اسم كان، و{يقول} الخبر، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول، والجملة خبر كان، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث، أو الأمر، ويجوز أن تكون كان زائدة، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم.
وقال مجاهد، وابن جريج، وقتادة: أرادوا به إبليس، والشطط: الغلوّ في الكفر.
وقال أبو مالك: الجور، وقال الكلبي: الكذب، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ، ومنه قول الشاعر:
بأية حال حكموا فيك فاشتطوا ** وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} أي: إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن، فعلمنا بطلان قولهم، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول؛ لأن الكذب نوع من القول، أو صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً كذباً. وقرأ يعقوب، والجحدري، وابن أبي إسحاق: {أن لن تقوّل} من التقوّل، فيكون على هذه القراءة كذباً مفعول به {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} قال الحسن، وابن زيد، وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بوادٍ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل: كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} أي: زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقاً أي: سفهاً وطغياناً، أو تكبراً وعتوّاً، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقاً؛ لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون: سدنا الجنّ والإنس.
وبالأوّل قال مجاهد، وقتادة، وبالثاني قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم، ورجل رهق: إذا كان كذلك، ومنه قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44] أي: تغشاهم، ومنه قول الأعشى:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا

يعني: إثماً. وقيل: الرهق: الخوف، أي: أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفاً منهم. وقيل: كان الرجل من الإنس يقول: أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ، فيكون قوله: {بِرِجَالٍ} وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس، أي: يعوذون بهم من شرّ الجن، وهذا فيه بعد، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاركة. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} هذا من قول الجنّ للإنس، أي: وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث. وقيل المعنى: وإن الإنس ظنوا، كما ظننتم أيها الجنّ، والمعنى: أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} هذا من قول الجنّ أيضاً، أي: طلبنا خبرها، كما به جرت عادتنا {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، والحرس جمع حارس، و{شَدِيداً} صفة ل {حرساً} أي: قوياً {وَشُهُباً} جمع شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله: {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5] ومحل قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون متعدّياً إلى مفعول واحد، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد، وحرساً منصوب على التمييز، ووصفه بالمفرد اعتباراً باللفظ، كما يقال: السلف الصالح، أي: الصالحين.
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ} أي: وأنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع، أي: مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وللسمع متعلق، ب {نقعد} أي: لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد، أي: مقاعد كائنة للسمع، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك؛ ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء؛ فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة، وهو معنى قوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي: أرصد له ليرمى به، أو لأجله لمنعه من السماع، وقوله: {الئان} هو ظرف للحال، واستعير للاستقبال، وانتصاب {رصداً} على أنه صفة ل {شهاباً}، أو مفعول له، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس.
وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك.
وحكى الواحدي عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً.
وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنوّ إلى السماء.
وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، وقد تقدّم البحث عن هذا {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي: لا ندري أشرّ أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء، أم أراد بهم ربهم رشداً، أي: خيراً. قال ابن زيد: قال إبليس: لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً، وارتفاع {أَشِرٌ} على الاشتغال، أو على الابتداء، وخبره ما بعده، والأوّل أولى، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ندري، والأولى أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي: قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: قوم دون ذلك، أي: دون الموصوفين بالصلاح. وقيل: أراد بالصالحون المؤمنين، وبمن هم دون ذلك الكافرين، والأوّل أولى، ومعنى {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أي: جماعات متفرقة وأصنافاً مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، وصار القوم قدداً: إذا تفرقت أحوالهم، ومنه قول الشاعر:
القابض الباسط الهادي لطاعته ** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

والمعنى: كنا ذوي طرائق قدداً، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد:
لم تبلغ العين كل نهمتها ** يوم تمشي الجياد بالقدد

وقوله أيضاً:
ولقد قلت وزيد حاسر ** يوم ولت خيل عمرو قدداً

قال السديّ، والضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة.
وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد. قال الحسن: الجنّ أمثالكم قدرية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة، وكذا قال السديّ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ الله في الأرض} الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، أي: وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها، ولن نفوته إن أراد بنا أمراً {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أي: هاربين منها، فهو مصدر في موضع الحال.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} يعنون القرآن {آمنا به} وصدّقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} أي: لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه، ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، والبخس النقصان، والرهق العدوان والطغيان، والمعنى: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، وقد تقدّم تحقيق الرهق قريباً. قرأ الجمهور: {بخساً} بسكون الخاء. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: {فلا يخف} جزماً على جواب الشرط، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء، والتقدير: فهو لا يخاف، والأمر ظاهر.
وقد أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وغيرهم عن ابن عباس قال: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُواْ} يا قومنا {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرشد فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} قال: كانوا من جنّ نصيبين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} قال: آلاؤه وعظمته.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أمره وقدرته.
وأخرج ابن مردويه، والديلمي، قال السيوطي بسندٍ واهٍ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} قال: إبليس.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى منادٍ يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} قال: إثماً.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فلا يكون بشيء أشدّ ولعاً منهم بهم، فذلك قوله: {فَزَادوهُمْ رَهَقاً}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلاً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال لهم: ما هذا إلاّ من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} يقول: منا المسلم ومنا المشرك، و{كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أهواء شتى.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} قال: لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته.