فصل: تفسير الآيات (31- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 37):

{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}
لما نزل قوله سبحانه: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلاّ تسعة عشر يخوّفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم، أفيعجز كل مائة رجل منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم يخرجون من النار؟ فقال أبو الأشدّ، وهو رجل من بني جمح: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة، فأنا أمشي بين أيديكم، فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر، ونمضي ندخل الجنة، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً} يعني: ما جعلنا المدبرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلاّ ملائكة، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، فكيف تتعاطون أيها الكفار مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة؛ لأنهم خلاف جنس المخلوقين من الجنّ والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجالس من الرقة والرأفة. وقيل: لأنهم أقوم خلق الله بحقه والغضب له، وأشدهم بأساً وأقواهم بطشاً {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} أي: ضلالة لِلَّذِينَ استقلوا عددهم، ومحنة لهم، والمعنى: ما جعلناهم عددهم هذا العدد المذكور في القرآن إلاّ ضلالة ومحنة لهم، حتى قالوا ما قالوا، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب الله عليهم. وقيل: معنى {إِلاَّ فِتْنَةً} إلاّ عذاباً، كما في قوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي: يعذبون، واللام في قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} متعلق ب {جعلنا}، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى لموافقة ما نزل من القرآن بأن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر لما عندهم. قاله قتادة، والضحاك، ومجاهد، وغيرهم، والمعنى: أن الله جعل عدّة الخزنة هذه العدّة؛ ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لموافقة ما في القرآن لما في كتبهم.
{وَيَزْدَادَ الذين ءامَنُواْ إيمانا} وقيل: المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام. وقيل: أراد الذين آمنوا المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم لما رأوا من موافقة أهل الكتاب لهم، وجملة {وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون} مقرّرة لما تقدّم من الاستيقان وازدياد الإيمان، والمعنى: نفي الارتياب عنهم في الدّين، أو في أن عدّة خزنة جهنم تسعة عشر، ولا ارتياب في الحقيقة من المؤمنين، ولكنه من باب التعريض لغيرهم ممن في قلبه شك {وَلِيَقُولَ الذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} المراد بالذين في قلوبهم مرض: هم المنافقون؛ والسورة وإن كانت مكية، ولم يكن إذ ذاك نفاق، فهو إخبار بما سيكون في المدينة، أو المراد بالمرض مجرّد حصول الشكّ والريب، وهو كائن في الكفار. قال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية الخلاف، والمراد بقوله: {والكافرون} كفار العرب من أهل مكة، وغيرهم، ومعنى {مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}: أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل.
قال الليث: المثل الحديث، ومنه قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي: حديثها، والخبر عنها {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء} أي: مثل ذلك الإضلال المتقدّم ذكره، وهو قوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ}. {يُضِلُّ الله مَن يَشَاء} من عباده، والكاف نعت مصدر محذوف {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} من عباده، والمعنى: مثل ذلك الإضلال للكافرين والهداية للمؤمنين، يضلّ الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقيل المعنى: كذلك يضلّ الله عن الجنة من يشاء، ويهدي إليها من يشاء.
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} أي: ما يعلم عدد خلقه، ومقدار جموعه من الملائكة، وغيرهم إلاّ هو وحده لا يقدر على علم ذلك أحد.
وقال عطاء: يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار لا يعلم عدّتهم إلاّ الله، والمعنى: أن خزنة النار، وإن كانوا تسعة عشر، فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلاّ الله سبحانه. ثم رجع سبحانه إلى ذكر سقر فقال: {وَمَا هي إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} أي: وما سقر، وما ذكر من عدد خزنتها إلاّ تذكرة وموعظة للعالم. وقيل: {وَمَا هِىَ} أي: الدلائل والحجج والقرآن إلاّ تذكرة للبشر.
وقال الزجاج: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة، وهو بعيد. وقيل: {مَا هِىَ} أي: عدّة خزنة جهنم إلاّ تذكرة للبشر؛ ليعلموا كمال قدرة الله، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار. وقيل: الضمير في {وَمَا هِىَ} يرجع إلى الجنود.
ثم ردع سبحانه المكذبين وزجرهم فقال: {كَلاَّ والقمر} قال الفراء: {كلا} صلة للقسم، التقدير، أي: والقمر. وقيل المعنى: حقاً والقمر. قال ابن جرير: المعنى ردّ زعم من زعم أنه يقاوم خزنة جهنم أي: ليس الأمر كما يقول، ثم أقسم على ذلك بالقمر وبما بعده، وهذا هو الظاهر من معنى الآية. {واليل إِذْ أَدْبَرَ} أي: ولى. قرأ الجمهور: {إذا} بزيادة الألف، دبر بزنة ضرب على أنه ظرف لما يستقبل من الزمان، وقرأ نافع، وحفص، وحمزة: {إذ} بدون ألف، أدبر بزنة أكرم ظرف لما مضى من الزمان ودبر، وأدبر لغتان، كما يقال: أقبل الزمان وقبل الزمان، يقال: دبر الليل وأدبر: إذا تولى ذاهباً. {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} أي: أضاء وتبين {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} هذا جواب القسم، والضمير راجع إلى سقر، أي: إنّ سقر لإحدى الدواهي، أو البلايا الكبر، والكبر جمع كبرى، وقال مقاتل: إن الكبر اسم من أسماء النار. وقيل: إنها أي: تكذبيهم لمحمد لإحدى الكبر. وقيل: إن قيام الساعة لإحدى الكبر، ومنه قول الشاعر:
يابن المعلى نزلت إحدى الكبر ** داهية الدهر وصماء الغير

قرأ الجمهور: {لإحدى} بالهمزة، وقرأ نصر بن عاصم، وابن محيصن، وابن كثير في رواية عنه: {إنها لحدى} بدون همزة.
وقال الكلبي: أراد بالكبر دركات جهنم وأبوابها. {نَذِيراً لّلْبَشَرِ} انتصاب {نذيراً} على الحال من الضمير في {إنها}، قاله الزجاج.
وروي عنه، وعن الكسائي، وأبي عليّ الفارسي أنه حال من قوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 2] أي: قم يا محمد فأنذر حال كونك نذيراً للبشر.
وقال الفراء: هو مصدر بمعنى الإنذار منصوب بفعل مقدّر. وقيل: إنه منتصب على التمييز لإحدى لتضمنها معنى التنظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذاراً، وقيل: إنه مصدر منصوب بأنذر المذكور في أوّل السورة. وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: منصوب بتقدير ادع. وقيل: منصوب بتقدير ناد أو بلغ. وقيل: إنه مفعول لأجله، والتقدير: وإنها لإحدى الكبر؛ لأجل إنذار البشر. قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ أبيّ بن كعب، وابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نذير، أو هو نذير.
وقد اختلف في النذير، فقال الحسن: هي النار. وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو رزين: المعنى أنا نذير لكم منها، وقيل: القرآن نذير للبشر لما تضمنه من الوعد والوعيد {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} هو بدل من قوله: {لّلْبَشَرِ} أي: نذيراً لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى الطاعة أو يتأخر عنها، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل من آمن وكفر، وقيل: فاعل المشيئة هو الله سبحانه، أي: لمن شاء الله أن يتقدّم منكم بالإيمان أو يتأخر بالكفر، والأوّل أولى.
وقال السديّ: لمن شاء منكم أن يتقدّم إلى النار المتقدم ذكرها، أو يتأخر إلى الجنة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما سمع أبو جهل {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}. قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر وأنتم الدّهم، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطش برجل من خزنة جهنم؟ وأخرج ابن مردويه عنه في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: قال أبو الأشدّ: خلوا بيني وبين خزنة جهنم أنا أكفيكم مؤنتهم، قال: وحدّثت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وصف خزّان جهنم فقال: «كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لهم مثل قوّة الثقلين، يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم».
وأخرج الطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة أسري به قال: فصعدت أنا وجبريل إلى السماء الدنيا، فإذا أنا بملك يقال له: إسماعيل، وهو صاحب سماء الدنيا، وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف، وتلا هذه الآية {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ}».
وأخرج أحمد عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أصبع إلاّ عليه ملك ساجد».
وأخرجه الترمذي، وابن ماجه. قال الترمذي: حسن غريب، ويروى عن أبي ذرّ موقوفاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {إِذْ أَدْبَرَ} قال: دبور ظلامه.
وأخرج مسدّد في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت ابن عباس عن قوله: {واليل إِذْ أَدْبَرَ} فسكت عني حتى إذا كان من آخر الليل وسمع الأذان، ناداني يا مجاهد هذا حين دبر الليل.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} قال: من شاء اتبع طاعة الله ومن شاء تأخر عنها.

.تفسير الآيات (38- 56):

{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}
قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي: مأخوذة بعملها ومرتهنة به، إما خلصها وإما أوبقها، والرهينة اسم بمعنى الرهن، كالشيمة بمعنى الشيم، وليست صفة، ولو كانت صفة لقيل: رهين؛ لأن فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمعنى: كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة. {إِلاَّ أصحاب اليمين} فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم.
واختلف في تعيينهم. فقيل: هم الملائكة. وقيل: المؤمنون. وقيل: أولاد المسلمين. وقيل: الذين كانوا عن يمين آدم. وقيل: أصحاب الحقّ. وقيل: هم المعتمدون على الفضل دون العمل. وقيل: هم الذين اختارهم الله لخدمته {فِي جنات} هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة استئناف جواباً عن سؤال نشأ مما قبله، ويجوز أن يكون {في جنات} حالاً من {أصحاب اليمين}، وأن يكون حالاً من فاعل {يتساءلون}، وأن يكون ظرفاً ل {يتساءلون}، وقوله: {يَتَسَاءلُونَ} يجوز أن يكون على بابه، أي: يسأل بعضهم بعضاً، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون أي: يسألون غيرهم، نحو دعيته وتداعيته، فعلى الوجه الأوّل يكون {عَنِ المجرمين} متعلقاً ب {يتساءلون} أي: يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال المجرمين، وعلى الوجه الثاني تكون {عن} زائدة، أي: يسألون المجرمين.
وقوله: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} هو على تقدير القول، أي: يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم: ما سلككم في سقر، أو يسألونهم قائلين لهم: ما سلككم في سقر، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال، والمعنى: ما أدخلكم في سقر، تقول سلكت الخيط في كذا: إذا دخلته فيه. قال الكلبي: يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه، فيقول له: يا فلان ما سلكك في النار. وقيل: إن الملائكة يسألون الملائكة عن أقربائهم، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم: ما سلككم في سقر. قال الفراء: في هذا ما يقوّي أن أصحاب اليمين هم الولدان؛ لأنهم لا يعرفون الذنوب. ثم ذكر سبحانه ما أجاب به أهل النار عليهم فقال: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} أي: من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا. {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين} أي: لم نتصدق على المساكين. قيل: وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالشرعيات. {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين} أي: نخالط أهل الباطل في باطلهم. قال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه.
وقال السديّ: كنا نكذب مع المكذبين.
وقال ابن زيد: نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم: كاذب مجنون ساحر شاعر. {وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين} أي: بيوم الجزاء والحساب {حتى أتانا اليقين} وهو: الموت، كما في قوله: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99].
{فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} أي: شفاعة الملائكة والنبيين، كما تنفع الصالحين. {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} التذكرة التذكير بمواعظ القرآن، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها، وانتصاب {معرضين} على الحال من الضمير في متعلق الجارّ والمجرور، أي: أيّ شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى. ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل، ومعنى مُّسْتَنفِرَةٌ: نافرة، يقال: نفر واستنفر، مثل عجب واستعجب، والمراد الحمر الوحشية. قرأ الجمهور: {مستنفرة} بكسر الفاء، أي: نافرة، وقرأ نافع، وابن عامر بفتحها، أي: منفرة مذعورة، واختار القراءة الثانية أبو حاتم، وأبو عبيد. قال في الكشاف: المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له، وحملها عليه، {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} أي: من رماة يرمونها، والقسور الرامي، وجمعه قسورة، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن كيسان. وقيل: هو الأسد، قاله عطاء والكلبي. قال ابن عرفة: من القسر بمعنى القهر؛ لأنه يقهر السباع. وقيل: القسورة أصوات الناس. وقيل: القسورة بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة الرماة.
وقال ابن الأعرابي: القسورة أوّل الليل، أي: فرت من ظلمة الليل، وبه قال عكرمة، والأوّل أولى، وكلّ شديد عند العرب فهو: قسورة، ومنه قول الشاعر:
يا بنت كوني خيرة لخيره ** أخوالها الحيّ وأهل القسورة

ومنه قول لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ** أتانا الرجال العابدون القساور

ومن إطلاقه على الأسد قول الشاعر:
مضمر تحذره الأبطال ** كأنه القسوّر الرهال

{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: لا يكتفون بتلك التذكرة بل يريد. قال المفسرون: إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله. والصحف الكتب واحدتها صحيفة، والمنشرة المنشورة المفتوحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ} [الإسراء: 93] قرأ الجمهور: {منشرة} بالتشديد. وقرأ سعيد بن جبير بالتخفيف. وقرأ الجمهور أيضاً: بضم الحاء من صحف. وقرأ سعيد بن جبير بإسكانها. ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال: {كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة} يعني: عذاب الآخرة؛ لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات. وقيل: كلا بمعنى حقاً. ثم كرّر الردع والزجر لهم فقال: {كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} يعني: القرآن، أو حقاً إنه تذكرة، والمعنى: أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه.
{فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: فمن شاء أن يتعظ به اتعظ. ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} قرأ الجمهور: {يذكرون} بالياء التحتية. وقرأ نافع، ويعقوب بالفوقية، واتفقوا على التخفيف، وقوله: {إلاّ أن يشاء الله} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال. قال مقاتل: إلاّ أن يشاء الله لهم الهدى {هُوَ أَهْلُ التقوى} أي: هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته {وَأَهْلُ المغفرة} أي: هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب، والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة، فيغفر ذنوبهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} قال: مأخوذة بعملها.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {إِلاَّ أصحاب اليمين} قال: هم المسلمون.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب: {إِلاَّ أصحاب اليمين} قال: هم أطفال المسلمين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {حتى أتانا اليقين} قال: الموت.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن أبي موسى الأشعري في قوله: {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} قال: هم الرماة رجال القسيّ.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن ابن عباس قال: القسورة الرجال الرماة القنص.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال.
وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس {مِن قَسْوَرَةٍ} قال: هو ركز الناس يعني: أصواتهم.
وأخرج أحمد، والدارمي، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ وصححه، وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة} فقال: قال ربكم: «أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها، فأنا أهل أن أغفر له».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس مرفوعاً نحوه.