فصل: تفسير الآيات (224- 225):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (224- 225):

{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
العرضة: النصبة، قاله الجوهري. يقال جعلت فلاناً عرضة لكذا: أي: نصبة. وقيل: العرضة من الشدة، والقوّة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح: إذا صلحت له، وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي: قوّة، ومنه قول كعب بن زهير:
مِنْ كُلَّ نَضَّاحِة الدِّفرى إذا عَرِقَتْ ** عُرْضَتُها طَامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ

ومثله قول أوس بن حجر:
وأدْمَاءُ مِثل العجل يوماً عَرَضتُها ** لِرَحْلي وفيها هِزَّة وَتَقَاذُفُ

ويطلق العرضة على الهمة، ومنه قول الشاعر:
هم الأنصار عرضتها اللقاء

أي: همتها، ويقال: فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه، فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة: النصبة كالقبضة، والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء، أي تجعله حاجزاً له، ومانعاً منه، أي: لا تجعلوا الله حاجزاً، ومانعاً لما حلفتم عليه، وذلك؛ لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم، أو إحسان إلى الغير، أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم، أي: حاجزاً لما حلفوا عليه، ومانعاً منه، وسمى المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين، وعلى هذا يكون قوله: {أَن تَبَرُّواْ} عطف بيان {لأيمانكم} أي: لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم، وتقواكم، وإصلاحكم بين الناس، ويتعلق قوله: {لايمانكم} بقوله: {لا تجعلوا} أي: لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً، وحاجزاً، ويجوز أن يتعلق بعرضة، أي: لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم، وبين البرّ، وما بعده، وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة: الشدة، والقوّة يكون معنى الآية: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم، وعدّة في الامتناع من الخير، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث، وهو: تفسير العرضة بالهمة، وأما على المعنى الرابع، وهو من قولهم: فلان لا يزال عرضة للناس، أي: يقعون فيه، فيكون معنى الآية عليه: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم، فتبتذلونه بكثرة الحلف به، ومنه {واحفظوا أيمانكم} [المائدة: 89] وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم:
قَلِيلُ الألايَا حَافِظُ ليمينه ** وإن سبقت منه الألية بَرّت

وعلى هذا، فيكون قوله: {أَن تَبَرُّواْ} علة للنهي، أي: لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا، وتتقوا، وتصلحوا؛ لأن من يكثر الحلف بالله يجتريء على الحنث، ويفجر في يمينه.
وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها، فمن ذلك قول الزجاج: معنى الآية: أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتلّ بالله، فقال عليَّ يمين، وهو لم يحلف.
وقيل: معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البرّ، والتقوى، والإصلاح. وقيل: معناها: إذا حلفتم على أن لا تصلوا أرحامكم، ولا تتصدقوا، ولا تصلحوا، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر، فكفروا عن اليمين، وقد قيل: إن قوله: {أَن تَبَرُّواْ} مبتدأ خبره محذوف أي: البرّ، والتقوى، والإصلاح أولى. قاله الزجاج، وقيل: إنه منصوب أي: لا تمنعكم اليمين بالله البرّ، والتقوى، والإصلاح.
وروى ذلك عن الزجاج أيضاً. وقيل: معناه: أن لا تبروا، فحذف لا، كقوله: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لا تضلوا. قاله ابن جرير الطبري. وقيل: هو في موضع جرّ على قول الخليل، والكسائي، والتقدير: في {أَن تَبَرُّواْ} وقوله: {سَمِيعُ} أي: لأقوال العباد: {عَلِيمٌ} بما يصدر منهم. واللغو: مصدر لغا يلغو لغواً، ولغى يلغي لغياً: إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام، أو بما لا خير فيه، وهو الساقط الذي لا يعتدّ به، فاللغو من اليمين: هو الساقط الذي لا يعتدّ به، ومنه اللغو في الدية، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل، قال جرير:
ويذهب بينها المرى لغوا كما ** ألغيت في الدية الحوارا

وقال آخر:
وَرَب أسْرَاب حَجيجٍ كُظَّم ** عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

أي: لا يتكلمن بالساقط والرفث، ومعنى الآية: لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أي: اقترفته بالقصد إليه، وهي اليمين المعقودة، ومثله قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] ومثله قول الشاعر:
ولستَ بمأخوذ بِلَغوِ يقولُه ** إذا لم تَعَمدَّ عاقداتِ العزائِمِ

وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو، فذهب ابن عباس، وعائشة، وجمهور العلماء أيضاً: أنه قول الرجل: لا والله، وبلى والله في حديثه، وكلامه، غير معتقد لليمين، ولا مريد لها. قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء.
وقال أبو هريرة، وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه، وإلى هذا ذهبت الحنفية، والزيدية، وبه قال مالك في الموطأ.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: لغو اليمين أن تحلف، وأنت غضبان، وبه قال طاوس، ومكحول.
وروى عن مالك، وقيل: إن اللغو هو يمين المعصية، قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير، وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربنَّ الخمر، أو ليقطعنَّ الرحم، وقيل: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه، كأن يقول: أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك. قاله زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان، فيقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر: والله لا أشتريه بكذا.
وقال الضحاك: لغو اليمين: هي المكفرة. أي: إذا كفرت سقطت، وصارت لغواً. والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي، ولدلالة الأدلة عليه كما سيأتي. وقوله: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد أو قصد، وآخذكم بما تعمدته قلوبكم، وتكلمت به ألسنتكم، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك، واصنع الخير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عنه هو: أن يحلف الرجل أن لا يكلِّم قرابته أولا يتصدق، ويكون بين رجلين مغاضبة، فيحلف لا يصلح بينهما، ويقول قد حلفت، قال: يكفر عن يمينه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء قال: جاء رجل إلى عائشة، فقال: إني نذرت إن كلمت فلاناً، فإن كل مملوك لي عتيق، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك عتقاء، ولا تجعل مالك ستراً للبيت، فإن الله يقول: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} فكفر عن يمينك، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر في شأن مسطح. رواه ابن جرير، عن ابن جريج، والقصة مشهورة،
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين، وغيرهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» وثبت أيضاً في الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفَّرتُ عن يميني».
وأخرج ابن ماجه، وابن جرير عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين قطيعة رحم، أو معصية، فبرُّه أن يحنث فيها، ويرجع عن يمينه».
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نذَر، ولا يمينَ، فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم».
وأخرج أبو داود، والحاكم، وصححه عن عمر مرفوعاً مثله.
وأخرج النسائي، وابن ماجه، عن مالك الجُشَمي قال: قلت يا رسول الله يأتيني ابن عمي، فأحلف أن لا أعطيه، ولا أصله، فقال: «كفر عن يمينك».
وأخرج مالك في الموطأ، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وغيرهم عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم} في قول الرجل لا والله، وبلى والله، وكلا والله.
وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن حبان، وابن مردويه، والبيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح؛ أنه سئل عن اللغو في اليمين، فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هو كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله».
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عائشة، أنها قالت في تفسيره الآية: إن اللغو هو القوم يتدارؤون في الأمر يقول هذا: لا والله، ويقول هذا: كلا والله، يتدارون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عائشة أنها قالت: هو اللغو في المزاحة والهزل، وهو: قول الرجل لا والله، وبلى والله، فذاك لا كفارة فيه، وإنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن: قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون، ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم، فقال: أصبت والله، وأخطأت والله، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله، فقال: «كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها، ولا عقوبة».
وقد روى أبو الشيخ عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو أن اللغو لا والله، وبلى والله. أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عن ابن عباس؛ أنه قال: لغو اليمين أن تحلف، وأنت غضبان.
وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة قال: لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي عن عائشة نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها أن يحلف الرجل على تحريم ما أحلّ الله له.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: هو الرجل يحلف على المعصية، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن النخعي: هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {والله غَفُورٌ} يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها {حَلِيمٌ} إذ لم يجعل فيها الكفارة.

.تفسير الآيات (226- 227):

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
قوله: {يُؤْلُونَ} أي: يحلفون: والمصدر إيلاء، وألية، وألوة، وقرأ ابن عباس: {الذين آلوا} يقال آلى يؤالي إيلاً، ويأتلي بالتاء ائتلاء: أي: حلف، ومنه: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} [النور: 22] ومنه: قليل الألايا حافظ ليمينه البيت.
وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء، فقال الجمهور: إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر، فما دونها لم يكن مولياً، وكانت عندهم يميناً محضاً، وبهذا قال مالك والشافعي، وأحمد، وأبو ثور.
وقال الثوري، والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً، وهو قول عطاء.
وروي عن ابن عباس: أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يمسها أبداً. وقالت طائفة: إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوماً، أو أقل، أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء. وبه قال ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وحماد بن أبي سليمان، وقتادة، وإسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.
قوله: {مِن نّسَائِهِمْ} يشمل الحرائر، والإماء، إذا كنّ زوجات، وكذلك يدخل تحت قوله: {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} العبد إذا حلف من زوجته، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور قالوا: وإيلاؤه كالحر؛ وقال مالك، والزهري، وعطاء، وأبو حنيفة، وإسحاق: إن أجله شهران.
وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة. والتربص: التأني والتأخر، قال الشاعر:
تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المنُون لَعَلَّها ** تطلَّق يَوْماً أو يموتُ حَلِيلُها

وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعاً للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة، والسنتين، وأكثر من ذلك، يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل: إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها. قوله: {فَإِن فَآءوا} أي: رجعوا ومنه {حتى تَفِئ إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] أي: ترجع، ومنه قيل: للظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب، يقال فاء يفيء فيئة، وفيوءاً، وإنه لسريع الفيئة: أي: الرجعة، ومنه قول الشاعر:
فَفاءَت وَلَمَ تقض الَّذي أقبلَتْ له ** وَمِن حَاجَة الإنسان مَا لَيس قَاضِيا

قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الفيء: الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك؛ وقالت طائفة: إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر أجزأه. وبه قال الحسن، وعكرمة، والنخعي، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل.
وقد أوجب الجمهور على المولى إذا فاء بجماع امرأته الكفارة.
وقال الحسن، والنخعي: لا كفارة عليه.
قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} العزم: العقد على الشيء ويقال عزم يعزم عزماً وعزيمة وعزماناً واعتزم اعتزاماً، فمعنى عزموا الطلاق: عقدوا عليه قلوبهم. والطلاق: من طلقت المرأة تطلق- كنصر ينصر طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً، ويجوز طلقت بضم اللام، مثل عظم يعظم، وأنكره الأخفش. والطلاق: حلّ عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر كما قال مالك ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضاً، فإنه قال: {سَمِيعُ} وسميع يقتضي مسموعاً بعد المضيّ.
وقال أبو حنيفة: {سَمِيعُ} لإيلائه {عَلِيمٌ} بعزمه الذي دل عليه مضيّ أربعة أشهر.
واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم، وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر، ومعناها ظاهر واضح، وهو أن الله جعل الأجل لمن يوليَ- أي يحلف من امرأته أربعة أشهر. ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المُولى بعد هذه المدّة: {فَإِن فَآءوا} رجعوا إلى بقاء الزوجية، واستدامة النكاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم، ويرحمهم {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي: وقع العزم منهم عليه، والقصد له {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} لذلك منهم {عَلِيمٌ} به، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه، ولا شبهة، فمن حلف أن لا يطأ امرأته، ولم يقيد بمدّة، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر، فإذا مضت، فهو بالخيار، إما رجع إلى نكاح امرأته، وكانت زوجته بعد مضيّ المدة كما كانت زوجته قبلها، أو طلقها، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر، فإن أراد أن يبرّ في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً، فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدّة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه، ولزمته الكفارة، وكان ممتثلاً لما صح عنه من قوله: «من حلف على شيء، فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير منه، وليكفر عن يمينه».
وقد أخرج الشافعي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الإيلاء أن يحلف أنه لا يجامعها أبداً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عنه في قوله: {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} قال: هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فتتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيَّره السلطان إما أن يفئ، وإما أن يعزم، فيطلق كما قال الله سبحانه.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي عنه؛ قال: كان إيلاء الجاهلية السنة، والسنتين، وأكثر من ذلك، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فإن كان إيلاؤه أقلّ من أربعة أشهر، فليس بإيلاء.
وأخرج عبد بن حميد، عن علي قال: الإيلاء إيلاءان: إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأما الإيلاء في الغضب: فإذا مضت أربعة أشهر، فقد بانت منه، وأما ما كان في الرضا، فلا يؤاخذ به، وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب؛ أنه قرأ: {فإن فاءوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم}.
وأخرج عبد بن حميد، عن علي قال: الفيء: الجماع.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه من طرق، عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود مثله.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن، قال: الفيء الإشهاد، وأخرج عبد الرزاق عنه قال: الفيء الجماع، فإن كان له عذر أجزأه أن يفيء بلسانه. أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود قال: إذا حال بينه، وبينها مرض، أو سفر، أو حبس، أو شيء يعذر به، فإشهاده فيء. وللسلف في الفيء أقوال مختلفة، فينبغي الرجوع إلى معنى الفيء لغة، وقد بيناه.
وأخرج ابن جرير، عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لا شيء عليه حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك.
وأخرج الشافعي، وابن جرير، والبيهقي، عن عثمان بن عفان نحوه.
وأخرج مالك، والشافعي، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي عن عليّ نحوه.
وأخرج البخاري، وعبد بن حميد، عن ابن عمر نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، والبيهقي، عن عائشة نحوه.
وأخرج ابن جرير، والدارقطني، والبيهقي من طرق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر، فتوقف، فإن فاء، وإلا طلق.
وأخرج البيهقي، عن ثابت بن عبيدة مولى زيد بن ثابت، عن اثني عشر رجلاً من الصحابة نحوه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس قالوا: الإيلاء تطليقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر، قيل أن يفيء، فهي أملك بنفسها، وللصحابة، والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة، والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة، وهو ما عرفناك، فاشدد عليه يديك.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال: إيلاء العبد شهران.
وأخرج مالك عن ابن شهاب قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحرّ.