فصل: سورة القارعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.سورة القارعة:

هي إحدى عشرة آية.
وقيل: عشر آيات.
وهي مكية بلا خلاف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة القارعة بمكة.

.تفسير الآيات (1- 11):

{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}
{القارعة} من أسماء القيامة؛ لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب. والعرب تقول قرعتهم القارعة: إذا وقع بهم أمر فظيع. قال ابن أحمر:
وقارعة من الأيام لولا ** سبيلهم لراحت عنك حينا

وقال آخر:
متى نقرع بمروتكم نسؤكم ** ولما يوقد لنا في القدر نار

{والقارعة} مبتدأ، وخبرها قوله: {مَا القارعة}. وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ عيسى بنصبها على تقدير: احذروا القارعة. والاستفهام للتعظيم، والتفخيم لشأنها، كما تقدّم بيانه في قوله: {الحاقة * مَا الحاقة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة} [الحاقة: 1 3]. وقيل: معنى الكلام على التحذير. قال الزجاج: والعرب تحذر وتغري بالرفع كالنصب، وأنشد قول الشاعر:
لجديرون بالوفاء إذا قال ** أخو النجدة السلاح السلاح

والحمل على معنى التفخيم، والتعظيم أولى، ويؤيده وضع الظاهر موضع الضمير، فإنه أدلّ على هذا المعنى. ويؤيده أيضاً قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة} فإنه تأكيد لشدّة هولها، ومزيد فظاعتها حتى كأنها خارجة عن دائرة علوم الخلق بحيث لا تنالها دراية أحد منهم، وما الاستفهامية مبتدأ، و{أدراك} خبرها. و{ما القارعة} مبتدأ وخبر. والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني؛ والمعنى: وأيّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ثم بيّن سبحانه متى تكون القارعة فقال: {يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث}. وانتصاب الظرف بفعل محذوف تدلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم يكون الناس إلخ، ويجوز أن يكون منصوباً بتقدير اذكر.
وقال ابن عطية، ومكي، وأبو البقاء: هو منصوب بنفس القارعة، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، وإنما نصب لإضافته إلى الفعل، فالفتحة فتحة بناء لا فتحة إعراب، أي: هي يوم يكون إلخ. وقيل التقدير: ستأتيكم القارعة يوم يكون. وقرأ زيد بن عليّ برفع يوم على الخبرية للمبتدأ المقدّر. والفراش: الطير الذي تراه يتساقط في النار، والسراج، والواحدة فراشة، كذا قال أبو عبيدة وغيره. قال الفراء: الفراش هو الطائر من بعوض وغيره، ومنه الجراد. قال وبه يضرب المثل في الطيش، والهوج، يقال: أطيش من فراشة، وأنشد:
فراشة الحلم فرعون العذاب وإن ** يطلب نداه فكلب دونه كلب

وقول آخر:
وقد كان أقوام رددت حلومهم ** عليهم وكانوا كالفراش من الجهل

والمراد بالمبثوث المتفرّق المنتشر. يقال بثه: إذا فرقه. ومثل هذا قوله سبحانه في آية أخرى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] وقال: {المبثوث}، ولم يقل المبثوثة؛ لأن الكل جائز، كما في قوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] و{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقد تقدّم بيان وجه ذلك. {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} أي: كالصوف الملوّن بالألوان المختلفة الذي نفش بالندف. والعهن عند أهل اللغة: الصوف المصبوغ بالألوان المختلفة، وقد تقدّم بيان هذا في سورة سأل سائل، وقد ورد في الكتاب العزيز أوصاف للجبال يوم القيامة.
وقد قدّمنا بيان الجمع بينها.
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس، وتفرّقهم فريقين على جهة الإجمال فقال: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه * فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} قد تقدّم القول في الميزان في سورة الأعراف، وسورة الكهف، وسورة الأنبياء.
وقد اختلف فيها هنا. فقيل: هي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وبه قال الفرّاء وغيره. وقيل: هي جمع ميزان. وهو الآلة التي توضع فيها صحائف الأعمال، وعبر عنه بلفظ الجمع، كما يقال لكلّ حادثة ميزان، وقيل: المراد بالموازين الحجج والدلائل، كما في قول الشاعر:
لقد كنت قبل لقائكم ذا مرة ** عندي لكلّ مخاصم ميزانه

ومعنى عيشة راضية مرضية يرضاها صاحبها. قال الزجاج، أي: ذات رضى يرضاها صاحبها. وقيل: عيشة راضية أي: فاعلة للرضى، وهو اللين، والانقياد لأهلها. والعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه} أي: رجحت سيئاته على حسناته، أو لم تكن له حسنات يعتدّ بها {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي: فمسكنه جهنم. وسماها أمه؛ لأنه يأوي إليه، كما يأوي إلى أمه. والهاوية من أسماء جهنم. وسميت هاوية؛ لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها. ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا ** فيها مقابرنا وفيها نولد

وقول الآخر:
يا عمرو لو نالتك أرماحنا ** كنت كمن تهوي به الهاوية

والمهوى، والمهواة: ما بين الجبلين، وتهاوى القوم في المهواة: إذا سقط بعضهم في إثر بعض. قال قتادة: معنى {فَأُمُّهُ هاوية} فمصيره إلى النار. قال عكرمة: لأنه يهوي فيها على أمّ رأسه. قال الأخفش: أمه مستقرّه. {وَمَا أَدْرَاكَ ماهية} هذا الاستفهام للتهويل، والتفظيع ببيان أنها خارجة عن المعهود بحيث لا تحيط بها علوم البشر، ولا تدري كنهها. ثم بيّنها سبحانه فقال: {نَارٌ حَامِيَةٌ} أي: قد انتهى حرّها، وبلغ في الشدّة إلى الغاية، وارتفاع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي نار حامية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: {القارعة} من أسماء يوم القيامة.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قال: كقوله هوت أمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} قال: أمّ رأسه هاوية في جهنم.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات المؤمن تلقته أرواح المؤمنين يسألونه ما فعل فلان ما فعلت فلانة؟ فإذا كان مات، ولم يأتهم قالوا: خولف به إلى أمه الهاوية، فبئست الأمّ، وبئست المربية».
وأخرج ابن مردويه من حديث أبي أيوب الأنصاري نحوه.
وأخرج ابن المبارك من حديث أبي أيوب نحوه أيضاً.

.سورة التكاثر:

هي ثمان آيات.
وهي مكية عند الجميع.
وروى البخاري أنها مدنية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت بمكة {ألهاكم التكاثر}.
وأخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟» قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ {ألهاكم التكاثر}».
وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله وهو ضاحك في وجهه». قيل: يا رسول الله، ومن يقوى على ألف آية؟ فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم ألهاكم التكاثر} إلى آخرها ثم قال: «والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ألف آية».
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {ألهاكم التكاثر}- وفي لفظ: وقد أنزلت عليه {ألهاكم التكاثر}- وهو يقول: ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت».
وأخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه قراءة هذه السورة ولا نزولها بلفظ: «يقول العبد مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاثة: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأقنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه عن جرير بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني قارئ عليكم سورة {ألهاكم التكاثر} فمن بكى فله الجنة». فقرأها فمنا من بكى ومنا من لم يبك، فقال الذين لم يبكوا: قد جهدنا يا رسول الله أن نبكي فلم نقدر عليه. فقال: «إني قارئها عليكم الثانية، فمن بكى فله الجنة ومن لم يقدر أن يبكي فليتباكى».

.تفسير الآيات (1- 8):

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}
قوله: {ألهاكم التكاثر} أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بكثرتها، والتغالب فيها. يقال: ألهاه عن كذا، وألهاه: إذا شغله، ومنه قول امرئ القيس:
فألهيتها عن ذي تمائم محول

وقال الحسن: معنى ألهاكم: أنساكم. {حتى زُرْتُمُ المقابر} أي: حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال.
وقال قتادة: إن التكاثر التفاخر بالقبائل والعشائر.
وقال الضحاك: ألهاكم التشاغل بالمعاش.
وقال مقاتل، وقتادة أيضاً، وغيرهما: نزلت في اليهود حين قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا.
وقال الكلبي: نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم تعادّوا، وتكاثروا بالسيادة والأشراف في الإسلام، فقال كل حيّ منهم: نحن أكثر سيداً، وأعزّ عزيزاً، وأعظم نفراً، وأكثر قائداً، فكثر بنو عبد مناف بني سهم، ثم تكاثروا بالأموات، فكثرتهم بهم، فنزلت: {ألهاكم التكاثر} فلم ترضوا {حتى زُرْتُمُ المقابر} مفتخرين بالأموات. وقيل: نزلت في حيين من الأنصار. والمقابر جمع مقبرة بفتح الباء وضمها. وفي الآية دليل على أن الاشتغال بالدنيا، والمكاثرة بها، والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال سبحانه: {ألهاكم التكاثر} ولم يقل عن كذا، بل أطلقه؛ لأن الإطلاق أبلغ في الذمّ؛ لأنه يذهب الوهم فيه كلّ مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، ولأن حذف المتعلق مشعر بالتعميم، كما تقرّر في علم البيان؛ والمعنى أنه شغلكم التكاثر عن كلّ شيء يجب عليكم الاشتغال به من طاعة الله، والعمل للآخرة، وعبر عن موتهم بزيارة المقابر؛ لأن الميت قد صار إلى قبره، كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره هذا على قول من قال: إن معنى {زُرْتُمُ المقابر} متم، أما على قول من قال: إن معنى: {زُرْتُمُ المقابر} ذكرتم الموتى، وعددتموهم للمفاخرة، والمكاثرة، فيكون ذلك على طريق التهكم بهم، وقيل: إنهم كانوا يزورون المقابر، فيقولون هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك.
{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ردع وزجر لهم عن التكاثر، وتنبيه على أنهم سيعلمون عاقبة ذلك يوم القيامة، وفيه وعيد شديد. قال الفرّاء: أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه من التكاثر والتفاخر. ثم كرّر الردع والزجر، والوعيد فقال: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل، وقيل: الأوّل عند الموت أو في القبر، والثاني يوم القيامة. قال الفرّاء: هذا التكرار على وجه التغليظ والتأكيد. قال مجاهد: هو وعيد بعد وعيد. وكذا قال الحسن، ومجاهد. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علماً يقيناً كعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا، وجواب {لو} محذوف، أي: لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، أو لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه.
و{كلا} في هذا الموضع الثالث للزجر، والردع كالموضعين الأوّلين.
وقال الفرّاء: هي بمعنى حقاً. وقيل: هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا. قال قتادة: اليقين هنا الموت، وروي عنه أيضاً أنه قال: هو البعث. قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم. وقوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جواب قسم محذوف، وفيه زيادة وعيد وتهديد، أي: والله لترونّ الجحيم في الآخرة. قال الرازي: وليس هذا جواب لو، لأن جواب لو يكون منفياً، وهذا مثبت. ولأنه عطف عليه {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ} وهو: مستقبل لابد من وقوعه قال: وحذف جواب لو كثير، والخطاب للكفار، وقيل: عام كقوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] قرأ الجمهور: {لترون} بفتح التاء مبنياً للفاعل وقرأ الكسائي، وابن عامر بضمها مبنياً للمفعول. ثم كرّر الوعيد والتهديد للتأكيد فقال: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} أي: ثم لترونّ الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل المعنى: لترونّ الجحيم بأبصاركم على البعد منكم، ثم لترونها مشاهدة على القرب. وقيل المراد بالأوّل رؤيتها قبل دخولها، والثاني رؤيتها حال دخولها. وقيل: هو إخبار عن دوام بقائهم في النار، أي: هي رؤية دائمة متصلة. وقيل المعنى: لو تعلمون اليوم علم اليقين، وأنتم في الدنيا لترونّ الجحيم بعيون قلوبكم، وهو أن تتصوّروا أمر القيامة وأهوالها.
{ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} أي: عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة. قال قتادة: يعني: كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا ربّ النعم حيث عبدوا غيره، وأشركوا به. قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلاّ أهل النار.
وقال قتادة: إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه، وهذا هو الظاهر، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع؛ لأن تعريفه للجنس، أو الاستغراق، ومجرّد السؤال لا يستلزم تعذيب المسئول على النعمة التي يسئل عنها، فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها، وبم عمل فيها؟ ليعرف تقصيره، وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر. وقيل: السؤال عن الأمن والصحة. وقيل: عن الصحة والفراغ، وقيل: عن الإدراك بالحواسّ، وقيل: عن ملاذ المأكول والمشروب. وقيل: عن الغداء والعشاء. وقيل: عن بارد الشراب وظلال المساكن. وقيل: عن اعتدال الخلق. وقيل: عن لذة النوم، والأولى العموم، كما ذكرنا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بردة في قوله: {ألهاكم التكاثر} قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان، وفلان.
وقال الآخرون: مثل ذلك تفاخروا بالأحياء. ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، ومثل فلان، وفعل الآخرون كذلك، فأنزل الله: {ألهاكم التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر} لقد كان لكم فيما زرتم عبرة وشغل.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {ألهاكم التكاثر} قال: في الأموال والأولاد.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألهاكم التكاثر} يعني عن الطاعة {حتى زُرْتُمُ المقابر} يقول: حتى يأتيكم الموت {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يعني: لو قد دخلتم قبوركم {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} يقول: لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم. {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} قال: لو قد وقفتم على أعمالكم بين يدي ربكم. {لَتَرَوُنَّ الجحيم} وذلك أن الصراط يوضع وسط جهنم، فناج مسلم، ومخدوش مسلم، ومكدوش في نار جهنم. {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} يعني: شبع البطون، وبارد الشرب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم.
وأخرج ابن مردويه عن عياض بن غنم مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} قال: صحة الأبدان، والأسماع، والأبصار، وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً} [الإسراء: 36] وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} قال: الأمن، والصحة.
وأخرج البيهقي عن عليّ بن أبي طالب قال: النعيم العافية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: من أكل خبز البرّ، وشرب ماء الفرات مبرداً، وكان له منزل يسكنه، فذلك من النعيم الذي يسأل عنه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية: «أكل خبز البرّ، والنوم في الظلّ، وشرب ماء الفرات مبرداً» ولعل رفع هذا لا يصح، فربما كان من قول أبي الدرداء.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن مردويه عن أبي قلابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الآية قال: «ناس من أمتي يعقدون السمن والعسل بالنقيّ، فيأكلونه» وهذا مرسل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية. قال الصحابة: «يا رسول الله أيّ نعيم نحن فيه؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن قل لهم: أليس تحتذون النعال، وتشربون الماء البارد، فهذا من النعيم».
وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وأحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن محمود بن لبيد قال: لما نزلت: {ألهاكم التكاثر} فقرأ حتى بلغ: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} قالوا: يا رسول الله أيّ نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان: الماء، والتمر، وسيوفنا على رقابنا، والعدوّ حاضر، فعن أيّ نعيم نسأل؟ قال: «أما إن ذلك سيكون».
وأخرجه عبد بن حميد، والترمذي، وابن مردويه من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه من حديث الزبير بن العوّام.
وأخرج أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن حبان، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصحّ لك جسدك، ونروك من الماء البارد؟».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن جابر بن عبد الله قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، فأطعمناهم رطباً، وسقيناهم ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه».
وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه، والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله نحوه.
وأخرج مسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن أبي هريرة قال: خرج النبيّ، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما الساعة؟» قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوما» فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أين فلان؟» قالت: انطلق يستعذب لنا الماء إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، فانطلق، فجاء بعذق فيه بسر، وتمر. فقال: كلوا من هذا، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياك والحلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وعمر: «والذي نفسي بيده لنسألن عن هذا النعيم يوم القيامة» وفي الباب أحاديث.