فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 6):

{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
الألف، واللام في: {يا أيها الكافرون} للجنس، ولكنها لما كانت الآية خطاباً لمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره كان المراد بهذا العموم خصوص من كان كذلك؛ لأن من الكفار عند نزول هذه الآية من أسلم وعبد الله سبحانه. وسبب نزول هذه السورة أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأمره الله سبحانه أن يقول لهم: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: لا أفعل ما تطلبون مني من عبادة ما تعبدون من الأصنام. قيل: والمراد فيما يستقبل من الزمان؛ لأن {لا} النافية لا تدخل في الغالب إلاّ على المضارع الذي في معنى الاستقبال، كما أن {ما} لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الحال. {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي: ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلب منكم من عبادة إلهي. {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ولا أنا قط فيما سلف عابد ما عبدتم فيه، والمعنى: أنه لم يعهد مني ذلك.
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته، كذا قيل، وهذا عل قول من قال إنه لا تكرار في هذه الآيات؛ لأن الجملة الأولى لنفي العبادة في المستقبل لما قدّمنا من أن (لا) لا تدخل إلاّ على مضارع في معنى الاستقبال، والدليل على ذلك أن (لن) تأكيد لما تنفيه (لا). قال الخليل في (لن): إن أصله (لا)، فالمعنى: لا أعبد ما تعبدون في المستقبل، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أطلبه من عبادة إلهي. ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ولست في الحال بعابد معبودكم، ولا أنتم في الحال بعابدين معبودي. وقيل: بعكس هذا، وهو أن الجملتين الأوليين للحال، والجملتين الأخريين للاستقبال بدليل قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} كما لو قال القائل: أنا ضارب زيداً، وأنا قاتل عمراً، فإنه لا يفهم منه إلاّ الاستقبال. قال الأخفش، والفرّاء: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون، ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد، ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد.
قال الزجاج: نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السورة عبادة آلهتهم عن نفسه في الحال وفيما يستقبل، ونفى عنهم عبادة الله في الحال وفيما يستقبل. وقيل: إن كل واحد منهما يصلح للحال، والاستقبال، ولكنا نخص أحدهما بالحال، والثاني بالاستقبال رفعاً للتكرار. وكل هذا فيه من التكلف والتعسف مالا يخفى على منصف، فإن جعل قوله: ولا {أعبد ما تعبدون} للاستقبال، وإن كان صحيحاً على مقتضى اللغة العربية، ولكنه لا يتمّ جعل قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} للاستقبال؛ لأن الجملة اسمية تفيد الدوام، والثبات في كل الأوقات، فدخول النفي عليها يرفع ما دلت عليه من الدوام، والثبات في كل الأوقات، ولو كان حملها على الاستقبال صحيحاً للزم مثله في قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} وفي قوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} فلا يتمّ ما قيل من حمل الجملتين الأخريين على الحال، وكما يندفع هذا يندفع ما قيل من العكس، لأن الجملة الثانية، والثالثة، والرابعة كلها جمل اسمية مصدرة بالضمائر التي هي المبتدأ في كل واحد منها مخبر عنها باسم الفاعل العامل فيما بعده منفية كلها بحرف واحد، وهو لفظ لا في كل واحد منها، فكيف يصح القول مع هذا الاتحاد بأن معانيها في الحال والاستقبال مختلفة.
وأما قول من قال: إن كل واحد منها يصلح للحال والاستقبال، فهو إقرار منه بالتكرار؛ لأن حمل هذا على معنى، وحمل هذا على معنى مع الاتحاد يكون من باب التحكم الذي لا يدلّ عليه دليل.
وإذا تقرّر لك هذا، فاعلم أن القرآن نزل بلسان العرب، ومن مذاهبهم التي لا تجحد، واستعمالاتهم التي لا تنكر أنهم إذا أرادوا التأكيد كرّروا؛ كما أن مذاهبهم أنهم إذا أرادوا الاختصار أوجزوا، هذا معلوم لكل من له علم بلغة العرب، وهذا مما لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه؛ لأنه إنما يستدل على ما فيه خفاء، ويبرهن على ما هو متنازع فيه. وأما ما كان من الوضوح، والظهور والجلاء بحيث لا يشك فيه شاك، ولا يرتاب فيه مرتاب، فهو مستغن عن التطويل غير محتاج إلى تكثير القال والقيل.
وقد وقع في القرآن من هذا ما يعلمه كل من يتلو القرآن، وربما يكثر في بعض السور، كما في سورة الرحمن، وسورة المرسلات، وفي أشعار العرب من هذا ما لا يأتي عليه الحصر، ومن ذلك قول الشاعر:
يا لبكر انشروا لي كليبا ** يا لبكر أين أين الفرار

وقول الآخر:
هلا سألت جموع كن ** دة يوم ولوا أين أينا

وقول الآخر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمه ** خير تميم كلها وأكرمه

وقول الآخر:
ألا يا اسلمى ثم اسلمى ثمت اسلمى ** ثلاث تحيات وإن لم تكلم

وقول الآخر:
يا جعفر يا جعفر يا جعفر ** إن أك دحداحاً فأنت أقصر

وقول الآخر:
أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس

وقد ثبت عن الصادق المصدوق، وهو أفصح من نطق بلغة العرب أنه كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات، وإذا عرفت هذا، ففائدة ما وقع في السورة من التأكيد هو قطع أطماع الكفار عن أن يجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما سألوه من عبادته آلهتهم، وإنما عبر سبحانه بما التي لغير العقلاء في المواضع الأربعة؛ لأنه يجوز ذلك كما في قوله: سبحان ما سخركن لنا، ونحوه، والنكتة في ذلك أن يجري الكلام على نمط واحد، ولا يختلف.
وقيل: إنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق. وقيل: إن {ما} في المواضع الأربعة هي: المصدرية لا الموصولة، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا أنتم عابدون عبادتي إلخ، وجملة: {لَكُمْ دِينَكُمْ} مستأنفة؛ لتقرير قوله: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ}. كما أن قوله: {وَلِىَ دِينِ} تقرير لقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} في الموضعين، أي: إن رضيتم بدينكم، فقد رضيت بديني، كما في قوله: {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} [الشورى: 15] والمعنى: أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي، كما تطمعون. وديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم. وقيل المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي؛ لأن الدين الجزاء. قيل: وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقيل: ليست بمنسوخة؛ لأنها أخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ. قرأ الجمهور بإسكان الياء من قوله: {ولي} وقرأ نافع، وهشام، وحفص، والبزي بفتحها. وقرأ الجمهور أيضاً بحذف الياء من ديني وقفاً ووصلاً، وأثبتها نصر بن عاصم، وسلام، ويعقوب، وصلاً ووقفاً. قالوا: لأنها اسم، فلا تحذف. ويجاب بأن حذفها لرعاية الفواصل سائغ، وإن كانت اسماً.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عباس: أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد، وكفّ عن شتم آلهتنا، ولا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة، ولك فيها صلاح، قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فجاء الوحي من عند الله: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة، وأنزل الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} إلى قوله: {بَلِ الله فاعبد وَكُن مّنَ الشاكرين} [الزمر: 64- 66].
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا مولى أبي البحتري قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هلمّ، فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن، وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً، فأنزل الله: {قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} إلى آخر السورة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشاً قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله: {قُلْ يأَيُّهَا الكافرون} السورة كلها.

.سورة النصر:

وتسمى سورة التوديع.
هي ثلاث آيات.
وهي مدنية بلا خلاف.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزل بالمدينة {إذا جاء نصر الله والفتح}.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع: {إذا جاء نصر الله والفتح} حتى ختمها فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الوداع.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعيت إلي نفسي».
وأخرج ابن مردويه عنه قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعيت إلي نفسي، وقرب إلي أجلي».
وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه أيضا قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم حبيبة قالت: لما أنزل {إذا جاء نصر الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعث نبيا إلا عمر في أمته شطر ما عمر النبي الماضي قبله، فإن عيسى ابن مريم كان أربعين سنة في بني إسرائيل، وهذه لي عشرون سنة، وأنا ميت في هذه السنة». فبكت فاطمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت أول أهلي بي لحوقا فتبسمت».
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: «إنه قد نعيت إلي نفسي». فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت؟ فقال: «اصبري؛ فإنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت».
وقد تقدم في تفسير سورة الزلزلة أن هذه السورة تعدل ربع القرآن.

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}
النصر: العون، مأخوذ من قولهم: قد نصر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، ومنع من قحطها، ومنه قول الشاعر:
إذا انصرف الشهر الحرام فودّعي ** بلاد تميم وانصري أرض عامر

يقال نصره على عدوّه ينصره نصراً: إذا أعانه. والاسم النصرة. واستنصره على عدوّه: إذا سأله أن ينصره عليه. قال الواحدي: قال المفسرون: {إِذَا جَاء} ك يا محمد {نَصْرُ الله} على من عاداك، وهم: قريش {والفتح} فتح مكة. وقيل: المراد نصره صلى الله عليه وسلم على قريش من غير تعيين. وقيل: نصره على من قاتله من الكفار. وقيل: هو فتح سائر البلاد. وقيل: هو ما فتحه الله عليه من العلوم، وعبر عن حصول النصر، والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجهان إليه صلى الله عليه وسلم. وقيل: {إذا} بمعنى قد. وقيل: بمعنى (إذ). قال الرازي: الفرق بين النصر والفتح: أن الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان منغلقاً، والنصر كالسبب للفتح، فلهذا بدأ بذكر النصر، وعطف عليه الفتح. أو يقال النصر كمال الدين، والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة. أو يقال: النصر الظفر، والفتح الجنة، هذا معنى كلامه. ويقال: الأمر أوضح من هذا وأظهر، فإن النصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم، والاستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء، ودخول منازلهم.
{وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا} أي: أبصرت الناس من العرب، وغيرهم يدخلون في دين الله الذي بعثك به جماعات فوجاً بعد فوج. قال الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال العرب: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم، وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً، أي: جماعات كثيرة بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين، فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام. قال عكرمة، ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين. وانتصاب {أفواجاً} على الحال من فاعل يدخلون، ومحل قوله: يدخلون في دين الله النصب على الحال إن كانت الرؤية بصرية، وإن كانت بمعنى العلم، فهو في محل نصب عى أنه المفعول الثاني.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} هذا جواب الشرط، وهو العامل فيه، والتقدير: فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله.
وقال مكي: العامل في {إذا} هو {جاء}. ورجحه أبو حيان، وضعف الأوّل بأن ما جاء بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها، وقوله: {بِحَمْدِ رَبّكَ} في محل نصب على الحال، أي: فقل سبحان الله ملتبساً بحمده، أو حامداً له. وفيه الجمع بين تسبيح الله المؤذن بالتعجب مما يسره الله له مما لم يكن يخطر بباله ولا بال أحد من الناس، وبين الحمد له على جميل صنعه له، وعظيم منته عليه بهذه النعمة التي هي النصر، والفتح لأمّ القرى التي كان أهلها قد بلغوا في عداوته إلى أعلى المبالغ حتى أخرجوه منها بعد أن افتروا عليه من الأقوال الباطلة، والأكاذيب المختلفة ما هو معروف من قولهم: هو مجنون، هو ساحر، هو شاعر، هو كاهن.
ونحو ذلك. ثم ضم سبحانه إلى ذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، أي: اطلب منه المغفرة لذنبك هضماً لنفسك، واستقصاراً لعملك، واستدراكاً لما فرط منك من ترك ما هو الأولى.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يرى قصوره عن القيام بحق الله، ويكثر من الاستغفار والتضرّع، وإن كان قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وقيل: إن الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء هو تعبد تعبدهم الله به، لا لطلب المغفرة لذنب كائن منهم. وقيل: إنما أمره الله سبحانه بالاستغفار تنبيهاً لأمته، وتعريضاً بهم فكأنهم هم المأمورون بالاستغفار. وقيل: إن الله سبحانه أمره بالاستغفار لأمته لا لذنبه. وقيل: المراد بالتسبيح هنا الصلاة. والأولى حمله على معنى التنزيه مع ما أشرنا إليه من كون فيه معنى التعجب سروراً بالنعمة، وفرحاً بما هيأه الله من نصر الدين، وكبت أعدائه، ونزول الذلة بهم، وحصول القهر لهم. قال الحسن: أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح، والتوبة؛ ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح، فكان يكثر أن يقول: «سبحانك اللَّهم وبحمدك اغفر لي إنك أنت التوّاب» قال قتادة، ومقاتل: وعاش صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين. وجملة: {إِنَّهُ كَانَ تواباً} تعليل لأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، أي: من شأنه التوبة على المستغفرين له يتوب عليهم، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتوّاب من صيغ المبالغة، ففيه دلالة على أنه سبحانه مبالغ في قبول توبة التائبين.
وقد حكى الرازي في تفسيره اتفاق الصحابة على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عمر سألهم عن قول الله: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فقالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: قلت مثل ضرب لمحمد صلى الله عليه وسلم نعيت له نفسه.
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه، فقال: لم يدخل هذا معنا، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من قد علمتم، فدعاهم ذات يوم، فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلاّ ليريهم، فقال: ما تقولون في قول الله عزّ وجلّ: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح}؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فذلك: علامة أجلك {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوابَا} فقال عمر: لا أعلم منها إلاّ ما تقول.
وأخرج ابن النجار عن سهل بن سعد عن أبي بكر أن سورة: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفسه نعيت إليه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: «سبحان الله وبحمده، وأستغفره وأتوب إليه» فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه فقال: «خبرني ربي أني سأرى علامة من أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} فتح مكة. {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوبَا}».

وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم وبحمدك، اللَّهم اغفر لي» يتأوّل القرآن يعني: {إذا جاء نصر الله والفتح}، وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جاء أهل اليمن هم أرقّ قلوباً، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية».
وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: «الله أكبر قد جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً، وسيخرجون منه أفواجاً».
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا} قال: «ليخرجنّ منه أفواجاً، كما دخلوا فيه أفواجاً».