فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 4):

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}
قوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} الضمير يجوز أن يكون عائداً إلى ما يفهم من السياق لما قدمنا من بيان سبب النزول، وأن المشركين قالوا: يا محمد انسب لنا ربك. فيكون مبتدأ، والله مبتدأ ثان. و{أحد} خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ويجوز أن يكون {الله} بدلاً من {هو}، والخبر {أحد}. ويجوز أن يكون الله خبراً أوّلاً، و{أحد} خبراً ثانياً، ويجوز أن يكون {أحد} خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو أحد. ويجوز أن يكون {هو} ضمير شأن؛ لأنه موضع تعظيم، والجملة بعده مفسرة له وخبر عنه، والأوّل أولى. قال الزجاج: هو كناية عن ذكر الله، والمعنى: إن سألتم تبيين نسبته {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}. قيل: وهمزة {أحد} بدل من الواو، وأصله واحد.
وقال أبو البقاء: همزة {أحد} أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن أحد يفيد العموم دون واحد. ومما يفيد الفرق بينهما ما قاله الأزهري: أنه لا يوصف بالأحدية غير الله تعالى، لا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد؛ كما يقال رجل واحد، ودرهم واحد، قيل: والواحد يدخل في الأحد، والأحد لا يدخل فيه فإذا قلت لا يقاومه واحد جاز أن يقال لكنه يقاومه اثنان بخلاف قولك لا يقاومه أحد. وفرّق ثعلب بين واحد وبين أحد بأن الواحد يدخل في العدد وأحد لا يدخل فيه. وردّ عليه أبو حيان بأنه يقال أحد وعشرون، ونحوه، فقد دخله العدد، وهذا كما ترى، ومن جملة القائلين بالقلب الخليل. قرأ الجمهور: {قل هو الله أحد} بإثبات {قل}. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ: {الله أحد} بدون {قل}. وقرأ الأعمش: {قل هو الله الواحد} وقرأ الجمهور: بتنوين {أحد}، وهو: الأصل. وقرأ زيد بن عليّ، وأبان بن عثمان، وابن أبي إسحاق، والحسن، وأبو السماك، وأبو عمرو في رواية عنه بحذف التنوين للخفة، كما في قول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

وقيل: إن ترك التنوين لملاقاته لام التعريف، فيكون الترك لأجل الفرار من التقاء الساكنين. ويجاب عنه بأن الفرار من التقاء الساكنين قد حصل مع التنوين بتحريك الأوّل منهما بالكسر {الله الصمد} الإسم الشريف مبتدأ، و{الصمد} خبره. والصمد: هو الذي يصمد إليه في الحاجات، أي: يقصد لكونه قادراً على قضائها، فهو فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض؛ لأنه مصمود إليه، أي: مقصود إليه، قال الزجاج: الصمد السند الذي انتهى إليه السؤدد. فلا سيد فوقه، قال الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ** بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وقيل: معنى الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزول. وقيل: معنى الصمد ما ذكر بعده من أنه الذي لم يلد ولم يولد.
وقيل: هو المستغني عن كل أحد، والمحتاج إليه كل أحد. وقيل: هو المقصود في الرغائب، والمستعان به في المصائب، وهذان القولان يرجعان إلى معنى القول الأوّل. وقيل: هو الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. وقيل: هو الكامل الذي لا عيب فيه.
وقال الحسن، وعكرمة، والضحاك، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وعبد الله بن بريدة، وعطاء، وعطية العوفي، والسديّ، الصمد هو المصمت الذي لا جوف، ومنه قول الشاعر:
شهاب حروب لا تزال جياده ** عوابس يعلكن الشكيم المصمدا

وهذا لا ينافي القول الأوّل لجواز أن يكون هذا أصل معنى الصمد، ثم استعمل في السيد المصمود إليه في الحوائج، ولهذا أطبق على القول الأوّل أهل اللغة وجمهور أهل التفسير، ومنه قول الشاعر:
علوته بحسام ثم قلت له ** خذها حذيف فأنت السيد الصمد

وقال الزبرقان بن بدر:
سيروا جميعاً بنصف الليل واعتمدوا ** ولا رهينة إلاّ سيد صمد

وتكرير الاسم الجليل؛ للإشعار بأن من لم يتصف بذلك، فهو بمعزل عن استحقاق الألوهية، وحذف العاطف من هذه الجملة؛ لأنها كالنتيجة للجملة الأولى. وقيل: إن الصمد صفة للاسم الشريف، والخبر هو ما بعده. والأوّل أولى؛ لأن السياق يقتضي استقلال كل جملة. {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي: لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء، لأنه لا يجانسه شيء، ولاستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً. قال قتادة: إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله. وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله فقال: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}. قال الرازي: قدّم ذكر نفي الولد مع أن الولد مقدّم للاهتمام، لأجل ما كان يقوله الكفار من المشركين: إن الملائكة بنات الله، واليهود: عزير ابن الله، والنصارى: المسيح ابن الله، ولم يدّع أحد أن له والداً، فلهذا السبب بدأ بالأهمّ، فقال: {لَمْ يَلِدْ} ثم أشار إلى الحجة فقال: {وَلَمْ يُولَدْ}، كأنه قيل: الدليل على امتناع الولد اتفاقنا على أنه ما كان ولداً لغيره، وإنما عبّر سبحانه بما يفيد انتفاء كونه لم يلد ولم يولد في الماضي، ولم يذكر ما يفيد انتفاء كونه كذلك في المستقبل؛ لأنه ورد جواباً عن قولهم: ولد الله، كما حكى الله عنهم بقوله: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله} [الصافات: 151، 152] فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم، وهم: إنما قالوا ذلك بلفظ يفيد النفي فيما مضى، وردت الآية لدفع قولهم هذا.
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفاً بالصفات المتقدمة كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء، وأخر اسم كان لرعاية الفواصل، وقوله: {له} متعلق بقوله: {كفواً} قدم عليه لرعاية الاهتمام؛ لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته.
وقيل: إنه في محل نصب على الحال، والأوّل أولى.
وقد ردّ المبرد على سيبويه بهذه الآية؛ لأن سيبويه قال: إنه إذا تقدّم الظرف كان هو الخبر، وههنا لم يجعل خبراً مع تقدّمه، وقد ردّ على المبرد بوجهين: أحدهما أن سيبويه لم يجعل ذلك حتماً بل جوّزه. والثاني أنا لا نسلم كون الظرف هنا ليس بخبر، بل يجوز أن يكون خبراً ويكون كفواً منتصباً على الحال وحكى في الكشاف عن سيبويه على أن الكلام العربيّ الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقرّ، واقتصر في هذه الحكاية على نقل أوّل كلام سيبويه، ولم ينظر إلى أخره، فإنه قال في آخر كلامه: والتقديم والتأخير والإلغاء، والاستقرار عربيّ جيد كثير. انتهى. قرأ الجمهور: {كفواً} بضم الكاف والفاء، وتسهيل الهمزة، وقرأ الأعرج، وسيبويه، ونافع في رواية عنه بإسكان الفاء، وروي ذلك عن حمزة مع إبداله الهمزة واواً وصلاً ووقفاً، وقرأ نافع في رواية عنه: {كفأ} بكسر الكاف، وفتح الفاء من غير مدّ. وقرأ سليمان بن عليّ بن عبد الله بن العباس كذلك مع المد، وأنشد قول النابغة:
لا تقذفني بركن لا كفاء له

والكفء في لغة العرب النظير. يقول. هذا كفؤك أي: نظيرك. والاسم الكفاءة بالفتح.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والمحاملي في أماليه، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة عن بريد لا أعلمه إلاّ رفعه. قال: {الصمد} الذي لا جوف له، ولا يصح رفع هذا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: {الصمد} الذي لا جوف له، وفي لفظ: ليس له أحشاء.
وأخرج ابن أبي عاصم، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: {الصمد} الذي لا يطعم، وهو المصمت. وقال: أو ما سمعت النائحة، وهي تقول:
لقد بكر الناعي بخير بني أسد ** بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

وكان لا يطعم عند القتال، وقد روي عنه أن الذي يصمد إليه في الحوائج، وأنه أنشد البيت، واستدلّ به على هذا المعنى، وهو أظهر في المدح، وأدخل في الشرف، وليس لوصفه بأنه لا يطعم عند القتال كثير معنى.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: {الصمد} السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والغنيّ الذي قد كمل في غناه، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والعالم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفة لا تنبغي إلاّ له ليس له كفو وليس كمثله شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن مسعود قال: {الصمد} هو السيد الذي قد انتهى سؤدده، فلا شيء أسود منه.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: {الصمد} الذي تصمد إليه الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء.
وأخرج ابن جرير من طرق عنه في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} قال: ليس له كفو ولا مثل.

.سورة الفلق:

هي خمس آيات.
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر.
ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة.
وأخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق- قال السيوطي: صحيحة- عن ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين في المصحف يقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه؛ إنهما ليستا من كتاب الله، إنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما.
قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وغيرهم عن زر بن حبيش قال: أتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فقلت له: أبا المنذر، إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه فقال: أما والذي بعث محمدا بالحق، لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، وما سألني عنهما أحد منذ سألته غيرك، قال: قيل لي: «قل». فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هاتين السورتين فقال: «قيل لي فقلت، فقولوا كما قلت».
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت علي الليلة آيات لم أر مثلهن قط: {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}».
وأخرج ابن الضريس وابن الأنباري والحاكم وصححه وابن مردويه في الشعب عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله، أقرئني سورة يوسف وسورة هود قال: «يا عقبة اقرأ بـ {قل أعوذ برب الفلق}؛ فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله وأبلغ منها، فإذا استطعت أن لا تفوتك فافعل».
وأخرج ابن سعد والنسائي والبغوي والبيهقي عن أبي حابس الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا حابس، أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟» قال: بلى يا رسول الله. قال: «{قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس} هما المعوذتان».
وأخرج الترمذي وحسنه وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان ومن عين الإنس، فلما نزلت سورة المعوذتين أخذ بهما وترك ما سوى ذلك.
وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال، ومنها أنه كان يكره الرقى إلا بالمعوذتين.
وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب السور إلى الله {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}».
وأخرج النسائي وابن الضريس وابن حبان في صحيحه وابن الأنباري وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: أخذ بمنكبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اقرأ». قلت: ما اقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال: «{قل أعوذ برب الفلق}». ثم قال: «اقرأ». قلت: بأبي أنت وأمي ما اقرأ؟ قال: «{قل أعوذ برب الناس} ولم تقرأ بمثلهما».
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده عليه رجاء بركتهما».
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من طريق مالك بالإسناد المذكور.
وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن زيد بن أرقم قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى، فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين، وقال: إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان، فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد، ويقرأ آية ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال.
وأخرجه ابن مردويه والبيهقي من حديث عائشة مطولا.
وكذلك أخرجه ابن مردويه من حديث ابن عباس.
وقد ورد في فضل المعوذتين وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما في الصلاة وغيرهما أحاديث وفيما ذكرناه كفاية.
وأخرج الطبراني في الصغير عن علي بن أبي طالب قال: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: «لعن الله العقرب لا تدع مصليا ولا غيره». ثم دعا بماء وملح وجعل يمسح عليها ويقرأ: {قل يا أيها الكافرون}، و{قل هو الله أحد}، و{قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}».

.تفسير الآيات (1- 5):

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}
{الفلق} الصبح، يقال: هو أبين من فلق الصبح. وسمي فلقاً، لأنه يفلق عنه الليل. وهو فعل بمعنى مفعول. قال الزجاج: لأن الليل ينفلق عنه الصبح، ويكون بمعنى مفعول. يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح، وهذا قول جمهور المفسرين، ومنه قول ذي الرّمة:
حتى إذا ما انجلى عن وجهه فلق ** هادئة في أخريات الليل منتصب

وقول الآخر:
يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا ** أرعى النجوم لي أن نوّر الفلق

وقيل: هو سجن في جهنم. وقيل: هو اسم من أسماء جهنم. وقيل: شجرة في النار. وقيل: هو الجبال والصخور، لأنها تفلق بالمياه، أي: تشقق. وقيل: هو التفليق بين الجبال؛ لأنها تنشق من خوف الله. قال النحاس: يقال لكل ما اطمأنّ من الأرض فلق، ومنه قول زهير:
ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ** أيدي الركاب بهم من راكس فلقا

والراكس: بطن الوادي، ومثله قول النابغة:
أتاني ودوني راكس فالضواجع

وقيل: هو الرحم تنفلق بالحيوان. وقيل: هو كل ما انفلق عن جميع ما خلق الله من الحيوان والصبح والحبّ والنوى، وكلّ شيء من نبات، وغيره قاله الحسن، والضحاك. قال القرطبي: هذا القول يشهد له الانشقاق، فإن الفلق الشقّ، فلقت الشيء فلقاً: شققته، والتفليق مثله، يقال فلقته، فانفلق وتفلق، فكلّ ما انفلق عن شيء من حيوان، وصبح، وحبّ، ونوى، وماء فهو فلق، قال الله سبحانه: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96] وقال: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95]. انتهى. والقول الأوّل أولى؛ لأن المعنى، وإن كان أعمّ منه وأوسع مما تضمنه لكنه المتبادر عند الإطلاق.
وقد قيل في وجه تخصيص الفلق الإيماء إلى أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كلّ هذا العالم يقدر أيضاً أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه، ويخشاه. وقيل: طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرح؛ فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظراً لطلوع الصباح. كذلك الخائف يكون مترقباً لطلوع صباح النجاح، وقيل: غير هذا مما هو مجرّد بيان مناسبة ليس فيها كثير فائدة تتعلق بالتفسير.
{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} متعلق ب {أعوذ} أي: من شرّ كلّ ما خلقه سبحانه من جميع مخلوقاته، فيعمّ جميع الشرور. وقيل: هو إبليس وذرّيته. وقيل: جهنم، ولا وجه لهذا التخصيص، كما أنه لا وجه لتخصيص من خصّص هذا العموم بالمضارّ البدنية.
وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه، وتقويماً لباطله، فقرءوا بتنوين: {شرّ} على أن: {ما} نافية. والمعنى: من شرّ لم يخلقه. ومنهم عمرو بن عبيد، وعمرو بن عائذ. {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} الغاسق الليل. والغسق الظلمة. يقال غسق الليل يغسق إذا أظلم. قال الفراء: يقال غسق الليل، وأغسق إذا أظلم، ومنه قول قيس بن الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا ** واشتكيت الهمّ والأرقا

وقال الزجاج: قيل لليل غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، والغاسق البارد، والغسق البرد، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوامّ من أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العبث والفساد، كذا قال، وهو: قول بارد، فإن أهل اللغة على خلافه، وكذا جمهور المفسرين ووقوبه: دخول ظلامه، ومنه قول الشاعر:
وقب العذاب عليهم فكأنهم ** لحقتهم نار السموم فأخمدوا

أي: دخل العذاب عليهم. ويقال وقبت الشمس: إذا غابت. وقيل: الغاسق الثريا. وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، وبه قال ابن زيد. وهذا محتاج إلى نقل عن العرب أنهم يصفون الثريا بالغسوق.
وقال الزهري: هو الشمس إذا غربت، وكأنه لاحظ معنى الوقوب، ولم يلاحظ معنى الغسوق. وقيل: هو القمر إذا خسف. وقيل: إذا غاب. وبهذا قال قتادة، وغيره. واستدلوا بحديث أخرجه أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» قال الترمذي: بعد إخراجه حسن صحيح، وهذا لا ينافي قول الجمهور؛ لأن القمر آية الليل، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه، وهكذا يقال في جواب من قال: إنه الثريا. قال ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وقيل الغاسق: الحية إذا لدغت. وقيل الغاسق: كل هاجم يضرّ كائناً ما كان، من قولهم غسقت القرحة: إذا جرى صديدها. وقيل: الغاسق هو السائل، وقد عرّفناك أن الراجح في تفسير هذه الآية هو ما قاله أهل القول الأوّل، ووجه تخصيصه أن الشرّ فيه أكثر، والتحرز من الشرور فيه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. {وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} النفاثات هنّ السواحر، أي: ومن شر النفوس النفاثات، أو النساء النفاثات، والنفث النفخ، كما يفعل ذلك من يرقي ويسحر. وقيل: مع ريق. وقيل: بدون ريق، والعقد جمع عقدة، وذلك أنهنّ كن ينفثن في عقد الخيوط حين يسحرن بها، ومنه قول عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ** وإن يعقد فحقّ له العقود

وقول متمم بن نويرة:
نفث في الخيط شبيه الرقى ** من خشية الجنة والحاسد

قال أبو عبيدة: النفاثات هيّ: بنات لبيد الأعصم اليهودي، سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قرأ الجمهور: {النفاثات} جمع نفاثة على المبالغة. وقرأ يعقوب، وعبد الرحمن بن ساباط، وعيسى بن عمر: {النافثات} جمع نافثة. وقرأ الحسن: {النفاثات} بضم النون. وقرأ أبو الربيع: {النفثات} بدون ألف.
{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسد: تمني زوال النعمة التي أنعم الله بها على المحسود. ومعنى {إذا حسد}: إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه، وحمله الحسد على إيقاع الشرّ بالمحسود. قال عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وقد نظم الشاعر هذا المعنى فقال:
قل للحسود إذا تنفس طعنة ** يا ظالماً وكأنه مظلوم

ذكر الله سبحانه في هذه السورة إرشاد رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة من شرّ كل مخلوقاته على العموم، ثم ذكر بعض الشرور على الخصوص مع اندراجه تحت العموم لزيادة شرّه، ومزيد ضرّه، وهو الغاسق، والنفاثات، والحاسد، فكأن هؤلاء لما فيهم من مزيد الشرّ حقيقون بإفراد كل واحد منهم بالذكر.
وقد أخرج ابن مردويه عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «يا ابن عبسة أتدري ما الفلق؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «بئر في جهنم».
وأخرجه ابن أبي حاتم من قول عمرو بن عبسة غير مرفوع.
وأخرج ابن مردويه عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} هل تدري ما الفلق؟ باب في النار إذا فتحت سعرت جهنم».
وأخرج ابن مردويه، والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} فقال: «هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتتعوّذ بالله منه».
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الفلق جبّ في جهنم» وهذه الأحاديث لو كانت صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان المصير إليها واجباً، والقول بها متعيناً.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الفلق سجن في جهنم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: الفلق الصبح.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: الفلق الخلق.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} وقال: النجم هو الغاسق، وهو الثريا.
وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم من وجه آخر عنه غير مرفوع.
وقد قدّمنا تأويل هذا، وتأويل ما ورد أن الغاسق القمر.
وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ارتفعت النجوم رفعت كل عاهة عن كل بلد».
وهذا لو صح لم يكن فيه دليل على أن الغاسق هو النجم أو النجوم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال: الليل إذا أقبل.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس: {وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} قال: الساحرات.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: هو ما خالط السحر من الرقي.
وأخرج النسائي، وابن مردويه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه».
وأخرج ابن سعد، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني فقال: «ألا أرقيك برقية رقاني بها جبريل؟» فقلت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء فيك مِن شَرّ النفاثات في العقد، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» فرقى بها ثلاث مرّات.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال: نفس ابن آدم وعينه.