فصل: تفسير الآية رقم (259):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (259):

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
قوله: {أَوْ كالذى} {أو} للعطف حملاً على المعنى، والتقدير: هل رأيت كالذي حاجّ، أو كالذي مرّ على قرية؟ قاله الكسائي، والفراء.
وقال المبرد: إن المعنى: ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ ألم تر من هو كالذي مرّ على قرية، فحذف قوله من هو.
وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة، واختار آخرون أنها إسمية. والمشهور أن القرية هي بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها، وقيل: المراد بالقرية: أهلها. وقوله: {خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي: ساقطة على عروشها، أي: سقط السقف، ثم سقطت الحيطان عليه، قاله السُّدِّيُ، واختاره ابن جرير، وقيل: معناه خالية من الناس، والبيوت قائمة، وأصل الخواء الخلوّ، يقال خوت الدار وخويت تخوى خواء- ممدود- وخوياً، وخويا: أقفرت، والخواء أيضاً: الجوع لخلوّ البطن عن الغذاء، والظاهر القول الأوّل بدلالة قوله: {على عُرُوشِهَا} من خوى البيت إذا سقط، أو من خوت الأرض إذا تهدمت، وهذه الجملة حالية: أي: من حال كونها كذلك. وقوله: {أنّى يُحْيِي هذه الله} أي: متى يحيي، أو كيف يحيي، وهو استبعاد لإحيائها، وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء، وتقديم المفعول لكون الاستبعاد ناشئاً من جهته لا من جهة الفاعل. فلما قال المارُّ هذه المقالة مستبعداً لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها، والسكون فيها ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه {فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: ليس يدخل شكّ في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله، عن إحياء موتاها.
وقوله: {مِاْئَةَ عَامٍ} منصوب على الظرفية. والعام: السنة أصله مصدر كالعوم سمي به هذا القدر من الزمان. وقوله: {بَعَثَهُ} معناه: أحياه. قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} هو استئناف كأنّ سائلاً سأله ماذا قال له بعد بعثه؟ واختلف في فاعل قال؛ فقيل: هو الله عزّ وجل، وقيل: ناداه بذلك ملك من السماء، قيل: هو جبريل، وقيل: غيره، وقيل: إنه نبيّ من الأنبياء. قيل: رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند أنْ أماته الله، وعمر إلى عند بعثه. والأول أولى لقوله فيما بعد {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا} وقرأ ابن عامر، وأهل الكوفة إلا عاصماً {كَمْ لبثت} بإدغام الثاء في التاء لتقاربهما في المخرج. وقرأ غيرهم بالإظهار، وهو أحسن لبعد مخرج الثاء من مخرج التاء. و{كم} في موضع نصب على الظرفية، وإنما قال: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بناء على ما عنده، وفي ظنه، فلا يكون كاذباً، ومثله قول أصحاب الكهف: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين: «لم تَقُصر ولم أنس» وهذا ما يؤيد قول من قال: إن الصدق ما طابق الاعتقاد، والكذب ما خالفه. وقوله: {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} هو: استئناف أيضاً كما سلف: أي: ما لبثت يوماً، أو بعض يوم بل لبثت مائة عام.
وقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة، وهو عدم تغير طعامه، وشرابه مع طول تلك المدّة. وقرأ ابن مسعود: {وهذا طعامك وشرابك لم يتسنه} وقرأ طلحة ابن مصرِّف {وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة}.
وروى عن طلحة أيضاً أنه قرأ: {لم يسَّن} بإدغام التاء في السين، وحذف الهاء. وقرأه الجمهور بإثبات الهاء في الوصل، والتسنه مأخوذ من السنة أي: لم تغيره السنون، وأصلها سنهة، أو سنوة من سنهت النخلة، وتسنهت: إذا أتت عليها السنون، ونخلة سنا أي: تحمل سنة، ولا تحمل أخرى، وأسنهت عند بني فلان: أقمت عندهم، وأصله يتسنا سقطت الألف للجزم، والهاء للسكت. وقيل: هو من أسن الماء: إذا تغيَّر، وكان يجب على هذا أن يقال يتأسن من قوله: {حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26، 33] قاله أبو عمرو الشيباني.
وقال الزجاج: ليس كذلك؛ لأن قوله: {مَّسْنُونٍ} ليس معناه متغير، وإنما معناه مصبوب على سنَّه الأرض. وقوله: {وانظر إلى حِمَارِكَ} اختلف المفسرون في معناه، فذهب الأكثر إلى أن معناه: انظر إليه كيف تفرّقت أجزاؤه، ونخرت عظامه، ثم أحياه الله، وعاد كما كان.
وقال الضحاك، ووهب بن منبه: انظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء بعد أن مضت عليه مائة عام، ويؤيد القول الأول قوله تعالى: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ ننشزها} ويؤيد القول الثاني مناسبته لقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} وإنما ذكر سبحانه عدم تغير طعامه، وشرابه، بعد إخباره أنه لبث مائة عام، مع أن عدم تغير ذلك الطعام، والشراب لا يصلح أن يكون دليلاً على تلك المدة الطويلة، بل على ما قاله من لبثه يوماً، أو بعض يوم لزيادة استعظام ذلك الذي أماته الله تلك المدة، فإنه إذا رأى طعامه، وشرابه لم يتغير مع كونه قد ظنّ أنه لم يلبث إلا يوماً، أو بعض يوم زادت الحيرة، وقويت عليه الشبهة، فإذا نظر إلى حماره عظاماً نخرة تقرّر لديه أن ذلك صنع من تأتي قدرته بما لا تحيط به العقول، فإن الطعام، والشراب سريع التغير.
وقد بقي هذه المدّة الطويلة غير متغير، والحمار يعيش المدة الطويلة.
وقد صار كذلك {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]. قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ} قال الفراء: إنه أدخل الواو في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} دلالةً على أنها شرط لفعل بعدها؛ معناه: ولنجعلك آية للناس، ودلالة على البعث بعد الموت جعلنا ذلك. وإن شئت جعلت الواو مقحمة زائدة. قال الأعمش: موضع كونه آية هو أنه جاء شباباً على حاله يوم مات، فوجد الأبناء، والحفدة شيوخاً.
قوله: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} قرأ الكوفيون، وابن عامر بالزاي، والباقون بالراء.
وروى أبان عن عاصم: {نَنْشُرها} بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وضم الشين، والراء.
وقد أخرج الحاكم وصححه، عن زيد بن ثابت؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ: {كيف ننشزها} بالزاي. فمعنى القراءة بالزاي نرفعها، ومنه النشر: وهو المرتفع من الأرض: أي: يرفع بعضها إلى بعض. وأما معنى القراءة بالراء المهملة، فواضحة من أنشر الله الموتى أي: أحياهم، وقوله: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي: نسترها به كما نستر الجسد باللباس، فاستعار اللباس لذلك، كما استعاره النابغة للإسلام، فقال:
فَالْحَمْدُ للهِ إِذ لَمْ يَأتِنِي أَجَلي ** حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالاَ

قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي: ما تقدّم ذكره من الآيات التي أراه الله سبحانه، وأمره بالنظر إليها، والتفكر فيها: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء. قال ابن جرير: المعنى في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه. {قَالَ أَعْلَمُ} وقال أبو علي الفارسي معناه: أعلم أن هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته. وقرأ حمزة، والكسائي: {قَالَ أَعْلَمُ} على لفظ الأمر خطاباً لنفسه على طريق التجريد.
وقد أخرج عبد بن حيمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عليّ في قوله: {أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ} قال: خرج عزير نبيّ الله من مدينته، وهو شاب، فمرّ على قرية خَرِبة، وهي خاوية على عروشها، فقال: {أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه} فأوّل ما خلق الله عيناه، فجعل ينظر إلى عظامه ينضم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فقيل له: {كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} فأتى مدينته.
وقد ترك جاراً له إسكافاً شاباً، فجاء، وهو شيخ كبير.
وقد روي عن جماعة من السلف أن الذي أماته الله عزير، منهم ابن عباس عند ابن جرير، وابن عساكر، ومنهم عبد الله بن سلام عند الخطيب، وابن عساكر، ومنهم عكرمة، وقتادة، وسليمان، وبريدة، والضحاك، والسديّ عند ابن جرير، وورود عن جماعة آخرين أن الذي أماته الله هو نبيّ اسمه أرمياء، فمنهم عبد الله بن عبيد بن عمير، عند عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ومنهم: وهب بن منبه، عند عبد الرزاق، وابن جرير، وأبي الشيخ.
وأخرج ابن إسحاق عنه أيضاً أنه الخضر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن رجل من أهل الشام أنه حزقيل.
وروى ابن كثير، عن مجاهد أنه رجل من بني إسرائيل. والمشهور القول الأوّل،
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {خَاوِيَةٍ} قال: خراب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: {خَاوِيَةٍ} ليس فيها أحد.
وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: {على عُرُوشِهَا} سقوفها.
وأخرج ابن جرير، عن السديّ قال: ساقطة على سقوفها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: {لَبِثْتُ يَوْمًا} ثم التفت فرأى الشمس، فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
وأخرج عنه أيضاً قال: كان طعامه الذي معه سلة من تين، وشرابه زقّ من عصير.
وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} قال: لم يتغير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير قال: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم ينتن.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ} مثل ما تقدّم عن الأعمش، وكذلك أخرج مثله أيضاً عن عكرمة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كَيْفَ نُنشِزُهَا} قال: نخرجها.
وأخرج ابن جرير، عن زيد بن ثابت قال: نحييها.

.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
قوله: {وَإِذْ} ظرف منصوب بفعل محذوف، أي: اذكر وقت قول إبراهيم، وإنما كان الأمر بالذكر موجهاً إلى الوقت دون ما وقع فيه مع كونه المقصود لقصد المبالغة؛ لأن طلب وقت الشيء يستلزم طلبه بالأولى، وهكذا يقال في سائر المواضع الواردة في الكتاب العزيز بمثل هذا الظرف. وقوله: {رَبّ} آثره على غيره لما فيه من الاستعطاف الموجب لقبول ما يرد بعده من الدعاء. وقوله: {أَرِنِى} قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب، وإنما أراد رؤية العين، وكذا قال غيره، ولا يصح أن يراد الرؤية القلبية هنا؛ لأن مقصود إبراهيم أن يشاهد الإحياء لتحصل له الطمأنينة، والهمزة الداخلة على الفعل لقصد تعديته إلى المفعول الثاني، وهو الجملة: أعني قوله: {كَيْفَ تُحْىِ الموتى} وكيف: في محل نصب على التشبيه بالظرف، أو بالحال، والعامل فيها الفعل الذي بعدها. وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} عطف على مقدر أي: ألم تعلم، ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء حتى تسألني إراءته؟ {قَالَ بلى} علمت، وآمنت بأنك قادر على ذلك، ولكن سألت ليطمئن قلبي باجتماع دليل العيان إلى دلائل الإيمان.
وقد ذهب الجمهور إلى أن إبراهيم لم يكن شاكاً في إحياء الموتى قط، وإنما طلب المعاينة لما جُبلت عليه النفوس البشرية من رؤية ما أخبرت عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الخبر كالمعاينة» وحكى ابن جرير، عن طائفة من أهل العلم أنه سأل ذلك؛ لأنه شك في قدرة الله. واستدلوا بما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، وغيرهما من قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» وبما روى عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن عندي آية أرجى منها. أخرجه عنه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، ورجح هذا ابن جرير بعد حكايته له. قال ابن عطية: وهو عندي مردود، يعني: قول هذه الطائفة، ثم قال: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أحق به، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى أن لا يشك. فالحديث مبني على نفي الشكّ عن إبراهيم. وأما قول ابن عباس: هي أرجى آية، فمن حيث أن فيها الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا، وليست مظنة ذلك. ويجوز أن نقول هي أرجى آية لقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} أي: أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير، وبحث، قال: فالشك يبعد على من ثبت قدمه في الإيمان فقط، فكيف بمرتبة النبوة، والخلة؟ والأنبياء معصومون من الكبائر، ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعاً، وإذا تأملت سؤاله عليه السلام، وسائر الألفاظ للآية لم تعط شكاً، وذلك أن الاستفهام ب {كيف} إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل، والمسئول نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا، ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله.
وقد تكون {كيف} خبراً، عن شيء شأنه أن يستفهم، عنه بكيف نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟ وهي في هذه الآية استفهام، عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرّر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون، عن إنكاره بالاستفهام، عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدُعَّ: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه. فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدل، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه. فلما كان في عبارة الخليل هذا الاشتراك المجازي خلص الله له ذلك، وحمله على أن بين له الحقيقة، فقال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} فكمل الأمر، وتخلص من كل شيء، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قال القرطبي: هذا ما ذكره ابن عطية، وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك، فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث.
وقد أخبر الله سبحانه أن أنبياءه، وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل: فقال: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء: 65].
وقال اللعين: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] وإذا لم يكن له عليهم سلطنة، فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها، واتصال الأعصاب، والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فقوله: {أَرِنِى كَيْفَ} طلب مشاهدة الكيفية. قال الماوردي: وليست الألف في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} ألف الاستفهام، وإنما هي ألف إيجاب، وتقرير، كما قال جرير:
ألَستُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ** وَأنْدَى العَالَمين بُطونَ رَاحِ

والواو واو الحال، و{تؤمن}: معناه إيماناً مطلقاً دخل فيه فضل إحياء الموتى، والطمأنينة: اعتدال، وسكون.
وقال ابن جرير: معنى: {لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} ليوقن. قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير} الفاء جواب شرط محذوف أي: إن أردت ذلك فخذ، والطير: اسم جمع لطائر كركب لراكب، أو جمع، أو مصدر، وخص الطير بذلك، قيل: لأنه أقرب أنواع الحيوان إلى الإنسان، وقيل: إن الطير همته الطيران في السماء، والخليل كانت همته العلوّ، وقيل: غير ذلك من الأسباب الموجبة لتخصيص الطير. وكل هذه لا تسمن، ولا تغني من جوع، وليس إلا خواطر أفهام، وبوادر أذهان لا ينبغي أن تجعل وجوها لكلام الله، وعللاً لما يرد في كلامه، وهكذا قيل: ما وجه تخصيص هذا العدد، فإن الطمأنينة تحصل بإحياء واحد؟ فقيل إن الخليل إنما سأل واحداً على عدد العبودية، فأعطى أربعاً على قدر الربوبية، وقيل: إن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تتركب أركان الحيوان، ونحو ذلك من الهذيان.
قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرئ بضم الصاد، وكسرها أي: اضممهنّ إليك، وأملْهُنّ، واجمعهن، يقال: رجل أصور: إذا كان مائل العنق، ويقال: صار الشيء يصوره: أماله. قال الشاعر:
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّا في تَلَفِتُّنا ** يَوْمَ الفِرَاقِ إلى جِيَرانِنا صُورُ

وقيل: معناه قطعهنّ. يقال صار الشيء يصوره، أي: قطعه، ومنه قول توبة بن الحميِّر:
فَأَدْنَتَ لي الأَسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُها ** بِنَهْضِى وَقَد كَادَ اجْتِماعِي يَصُورُهَا

أي: يقطعها، وعلى هذا يكون قوله: {إِلَيْكَ} متعلقاً بقوله: {خُذ}. وقوله: {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} فيه الأمر بالتجزئة؛ لأن جعل كل جزء على جبل تستلزم تقدّم التجزئة. قال الزجاج: المعنى، ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً، والجزء: النصيب. وقوله: {يَأْتِينَكَ} في محل جزم على أنه جواب الأمر، ولكنه بُنِي لأجل نون الجمع المؤنث. وقوله: {سَعْيًا} المراد به: الإسراع في الطيران، أو المشي.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس قال: إن إبراهيم مرّ برجل ميت زعموا أنه حبشي على ساحل البحر، فرأى دواب البحر تخرج، فتأكل منه، وسباع الأرض تأتيه، فتأكل منه، والطير يقع عليه، فيأكل منه، فقال إبراهيم عند ذلك: ربّ، هذه دواب البحر تأكل من هذا، وسباع الأرض، والطير، ثم تميت هذه فتبلى، ثم تحييها، فأرني كيف تحيي الموتى؟ {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} يا إبراهيم أني أحيي الموتى؟ {قَالَ بلى} يا ربّ {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} يقول: لأرى من آياتك، وأعلم أنك قد أجبتني، فقال الله: خذ أربعاً من الطير، واصنع ما صنع، والطير الذي أخذ: وز، ورأل، وديك، وطاوس، وأخذ نصفين مختلفين: ثم أتى أربعة أجْبُل، فجعل على كل جبل نصفين مختلفين، وهو قوله: {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءاً} ثم تنحى ورءوسها تحت قدميه، فدعا باسم الله الأعظم، فرجع كل نصف إلى نصفه، وكل ريش إلى طائره، ثم أقبلت تطير بغير رءوس إلى قدميه تريد رءوسها بأعناقها، فرفع قدميه، فوضع كل طائر منها عنقه في رأسه، فعادت كما كانت.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه.
وأخرج أيضاً، عبد بن حميد، وابن المنذر، عن الحسن، نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج أنها كانت جيفة حمار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {ولكن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} يقول: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطير} قال: الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال الأربعة من الطير: الديك، والطاوس، والغراب، والحمام وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس: {قصرهنّ} قال: قطعهنّ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال: هي بالنبطية: شققهن.
وأخرجا عنه أنه قال: {فَصُرْهُنَّ} أوثقهنّ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: وضعهن على سبعة أجبل، وأخذ الرءوس بيده، فجعل ينظر إلى القطرة تلقي القطرة، والريشة تلقي الريشة حتى صرن أحياء ليس لهن رءوس، فجئن إلى رءوسهن، فدخلن فيها.