فصل: تفسير الآيات (272- 274):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (272- 274):

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
قوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي: ليس بواجب عليك أن تجعلهم مهديين قابلين لما أمروا به ونهوا عنه: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} هداية توصله إلى المطلوب، وهذه الجملة معترضة، وفيها الالتفات، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله، والمراد بقوله: {مّنْ خَيْرٍ} كل ما يصدق عليه اسم الخير كائناً ما كان، وهو متعلق بمحذوف، أي: أيّ شيء تنفقون كائناً من خير، ثم بين أن النفقة المعتدّ بها المقبولة إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله سبحانه، أي: لابتغاء وجه الله. وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: أجره، وثوابه على الوجه الذي تقدّم ذكره من التضعيف.
قوله: {لِلْفُقَرَاء} متعلق بقوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} أو بمحذوف: أي: اجعلوا ذلك للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف: أي: إنفاقكم للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بالغزو، أو الجهاد، وقيل: منعوا عن التكسب لما هم فيه من الضعف {الذين لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرض} للتكسب بالتجارة، والزراعة، ونحو ذلك بسبب ضعفهم. قيل: هم فقراء الصفة. وقيل: كل من يتصف بالفقر، وما ذكر معه. ثم ذكر سبحانه من أحوال أولئك الفقراء ما يوجب الحُنُوّ عليهم، والشفقة بهم، وهو: كونهم متعففين عن المسئلة، وإظهار المسكنة بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء. والتعفف تفعل، وهو بناء مبالغة من عف عن الشيء: إذا أمسك عنه، وتنزّه عن طلبه، وفي: {يحسبهم} لغتان: فتح السين، وكسرها. قال أبو عليّ الفارسيّ: والفتح أقيس؛ لأن العين من الماضي مكسورة، فبابها أن تأتي في المضارع مفتوحة. فالقراءة بالكسر على هذا حسنة، وإن كانت شاذة. و{من} في قوله: {من التعفف} لابتداء الغاية، وقيل: لبيان الجنس. قوله: {تَعْرِفُهُم بسيماهم} أي: برثاثة ثيابهم، وضعف أبدانهم، وكل ما يشعر بالفقر، والحاجة. والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح للمخاطبة، والسيما مقصورة: العلامة، وقد تمد. والإلحاف: الإلحاح في المسئلة، وهو مشتق من اللحاف، سمي بذلك؛ لاشتماله على وجوه الطلب في المسئلة، كاشتمال اللحاف على التغطية. ومعنى قوله: {لا يسألون الناس إلحافاً} أنهم لا يسألونهم ألبتة، لا سؤال إلحاح، ولا سؤال غير إلحاح. وبه قال الطبري، والزجاج، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ووجهه أن التعَفُّفَّ صفةٌ ثابتة لهم لا تفارقهم، ومجرد السؤال ينافيها. وقيل: المراد أنهم إذا سألوا سألوا بتلطف، ولا يلحفون في سؤالهم، وهذا، وإن كان هو الظاهر من توجه النفي إلى القيد دون المقيد، لكن صفة التعفف تنافيه، وأيضاً كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء لا يكون إلا مع عدم السؤال ألبتة.
وقوله: {بالليل والنهار} يفيد زيادة رغبتهم في الإنفاق، وشدّة حرصهم عليه حتى أنهم لا يتركون ذلك ليلاً، ولا نهاراً، ويفعلونه سرّاً وجهراً عند أن تنزل بهم حاجة المحتاجين، ويظهر لديهم فاقة المفتاقين في جميع الأزمنة على جميع الأحوال.
ودخول الفاء في خبر الموصول أعني قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها، وقيل: هي للعطف، والخبر للموصول محذوف، أي: ومنهم الذين ينفقون.
وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة، عن ابن عباس، قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فنزلت هذه الآية: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى قوله: {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} فرخص لهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والضياء عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدّق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير، نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الحنفية، نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: كان أناس من الأنصار لهم نسب، وقرابة من قريظة، والنضير، وكان يتقون أن لا يتصدّقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآية.
وأخرج ابن المنذر، عن عمرو الهلالي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتصدّق على فقراء أهل الكتاب؟ فأنزل الله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء الخراساني قال في قوله: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} قال: إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عمله.
وأخرج ابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ في سَبِيلِ الله} قال: هم أصحاب الصفة.
وأخرج ابن سعد، عن محمد بن كعب القرظي، نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: هم مهاجرو قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم أمروا بالصدقة عليهم.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع في قوله: {الذين أُحصِرُواْ في سَبِيلِ الله} قال: حصروا أنفسهم في سبيل الله للغزو فلا يستطيعون تجارة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: هم قوم أصابتهم، الجراحات في سبيل الله، فصاروا زمني، فجعل لهم في أموال المسلمين حقاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن رجاء بن حيوة في قوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الارض} قال: لا يستطيعون تجارة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ، نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء} قال: دلّ الله المؤمنين عليهم، وجعل نفقاتهم لهم، وأمرهم أن يضعوا نفقاتهم فيهم، ورضي عنهم.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {تَعْرِفُهُم بسيماهم} قال: التخشع.
وأخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع أن معناه تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد: {تَعْرِفُهُم بسيماهم} قال: رثاثة ثيابهم، وثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي تردّه التمرة، والتمرتان، واللقمة، واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، واقرءوا إن شئتم: {لا يسألون الناس إلحافاً}» وقد ورد في تحريم المسئلة أحاديث كثيرة إلا لذي سلطان، أو في الأمر لا يجد منه بدّاً.
وأخرج ابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، والطبراني، وأبو الشيخ، عن يزيد بن عبد الله بن عَرِيب المليكي، عن أبيه، عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت هذه الآية {الذين يُنفِقُونَ أموالهم باليل والنهار} في أصحاب الخيل».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي نحوه قال: فيمن لا يربطها خيلاء، ولا رياء، ولا سمعة.
وأخرج ابن جرير، عن أبي الدرداء نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن حنش الصنعاني أنه سمع ابن عباس يقول في هذه الآية: هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه عن ابن عباس في هذه الآية؛ قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب كانت له أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، ودرهماً سرّاً، ودرهماً علانية. وعبد الوهاب ضعيف، ولكن قد رواه ابن مردويه من وجه آخر، عن ابن عباس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في هذه الآية قال: هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض عليهم في غير سَرَفٍ، ولا إِمْلاقٍ، ولا تبذير، ولا فساد.
وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.

.تفسير الآيات (275- 277):

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
الربا في اللغة: الزيادة مطلقاً، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، وفي الشرع يطلق على شيئين، على ربا الفضل، وربا النسيئة حسبما هو مفصل في كتب الفروع، وغالب ما كانت تفعله الجاهلية أنه إذا حلَّ أجل الدين قال من هو له لمن هو عليه: أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقداراً في المال الذي عليه، وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق، وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوّله.
وقد كتبوه في المصحف بالواو. قال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة، والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع. انتهى.
قلت: وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة، ونحوه، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال، فرسم الكلمة، وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، فما كان في النطق ألفاً كالصلاة، والزكاة، ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذا الألف واواً، أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو: في نطق من ينطق به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا، ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش، ويلزمون به أنفسهم، ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحداً أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها، والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغترّ بما يروى عن سيبويه، ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو؛ لأنه يقول في تثنيته ربوان.
وقال الكوفيون: يكتب بالياء، وتثنيته ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا، ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية، وهم يقرءون: {وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً لّيَرْبُوَاْ في أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عند الله} [الروم: 39] وليس المراد بقوله هنا: {الذين يَأْكُلُونَ الربا} اختصاص هذا الوعيد بمن يأكله، بل هو عام لكل من يعامل بالربا، فيأخذه، ويعطيه، وإنما خص الآكل؛ لزيادة التشنيع على فاعله، ولكونه هو الغرض الأهمّ، فإن آخذ الربا إنما أخذه للأكل. قوله: {لاَ يَقُومُونَ} أي: يوم القيامة، كما يدل عليه قراءة ابن مسعود: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس يَوْمُ القيامة} أخرجه عبد ابن حميد، وابن أبي حاتم، وبهذا، فسره جمهور المفسرين قالوا: إنه يبعث كالمجنون عقوبة له، وتمقيتاً عند أهل المحشر. وقيل: إن المراد تشبيه من يحرص في تجارته، فيجمع ماله من الربا بقيام المجنون؛ لأن الحرص، والطمع، والرغبة في الجمع قد استفزته حتى صار شبيهاً في حركته بالمجنون، كما يقال لمن يسرع في مشيه، ويضطرب في حركاته: أنه قد جُنَّ، ومنه قول الأعشى في ناقته:
وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَي وَكأَنَّها ** ألَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ

فجعلها بسرعة مشيها، ونشاطها كالمجنون. قوله: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} أي: إلا قياماً كقيام الذي يتخبطه، والخبط: الضرب بغير استواء كخبط العشواء، وهو المصروع. والمسّ: الجنون، والأمس: المجنون، وكذلك الأولق، وهو: متعلق بقوله: {يَقُومُونَ} أي: لا يقومون من المسّ الذي بهم {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} أو متعلق ب {يقوم}. وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن الصرع لا يكون من جهة الجنّ، وزعم أنه من فعل الطبائع، وقال: إن الآية خارجة على ما كانت العرب تزعمه من أن الشيطان يصرع الإنسان، وليس بصحيح، وإن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مسّ.
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتخبطه الشيطان؛ كما أخرجه النسائي، وغيره. قوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من حالهم، وعقوبتهم بسبب قولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} أي: أنهم جعلوا البيع، والربا شيئاً واحداً، وإنما شبهوا البيع بالربا مبالغة بجعلهم الربا أصلاً، والبيع فرعاً، أي: إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل، كالبيع بزيادة عند حلوله، فإن العرب كانت لا تعرف رباً إلا ذلك، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} أي: أن الله أحلّ البيع، وحرّم نوعاً من أنواعه، وهو البيع المشتمل على الربا. والبيع مصدر باع يبيع، أي: دفع عوضاً، وأخذ معوّضاً، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب.
قوله: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} أي: من بلغته موعظة من الله من المواعظ التي اشتمل عليها الأوامر، والنواهي، ومنها ما وقع هنا من النهي عن الربا {فانتهى} أي: فامتثل النهي الذي جاءه، وانزجر عن المنهي عنه، وهو معطوف، أي: قوله: {فانتهى} على قوله: {جَاءهُ}. وقوله: {مّن رَّبّهِ} متعلق بقوله: {جَاءهُ} أو بمحذوف وقع صفة لموعظة، أي: كائنة {مّن رَّبّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: ما تقدّم منه من الربا لا يؤاخذ به؛ لأنه فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن تنزل آية تحريم الربا.
وقوله: {أَمْرُهُ إِلَى الله} قيل: الضمير عائد إلى الربا، أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده، واستمرار ذلك التحريم، وقيل: الضمير عائد إلى ما سلف، أي: أمره إلى الله في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل: الضمير يرجع إلى المربي، أي: أمر من عامل بالربا إلى الله في تثبيته على الإنتهاء، أو الرجوع إلى المعصية {وَمَنْ عَادَ} إلى أكل الربا، والمعاملة به {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} والإشارة إلى {من عاد} وجمع أصحاب باعتبار معنى {من} وقيل: إن معنى {من عاد}: هو أن يعود إلى القول: ب {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} وأنه يكفر بذلك، فيستحق الخلود، وعلى التقدير الأوّل يكون الخلود مستعاراً على معنى المبالغة، كما تقول العرب: ملك خالد، أي: طويل البقاء، والمصير إلى هذا التأويل واجب للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار.
قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} أي: يذهب بركته في الدنيا، وإن كان كثيراً، فلا يبقى بيد صاحبه. وقيل: يمحق بركته في الآخرة. قوله: {وَيُرْبِى الصدقات} أي: يزيد في المال الذي أخرجت صدقته، وقيل: يبارك في ثواب الصدقة، ويضاعفه، ويزيد في أجر المتصدّق، ولا مانع من حمل ذلك على الأمرين جميعاً. قوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي: لا يرضى؛ لأن الحبّ مختص بالتوّابين، وفيه تشديد، وتغليظ عظيم على من أربى حيث حكم عليه بالكفر، ووصفه بأثيم للمبالغة، وقيل: لإزالة الاشتراك، إذ قد يقع على الزراع، ويحتمل أن المراد بقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ} من صدرت منه خصلة توجب الكفر، ووجه التصاقه بالمقام أن الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا كفار.
وقد تقدم تفسير قوله: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى آخر الآية.
وقد أخرج أبو يعلى من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} قال: يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام، إلا كما يقوم المتخبط المنخنق: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} وكذبوا على الله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ومن عاد فأكل الربا: {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في الآية قال: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر من وجه آخر عنه أيضاً في قوله: {لاَ يَقُومُونَ} قال: ذلك حين يبعث من قبره.
وأخرج الأصبهاني في ترغيبه، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شفتيه ثم قرأ: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس}» وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا، منها من حديث عبد الله بن مسعود، عند الحاكم وصححه، والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» ومن حديث أبي هريرة مرفوعاً، عند ابن ماجه، والبيهقي بلفظ: «سبعون باباً» وورد هذا المعنى مع اختلاف العدد عن عبد الله بن سَلاَم، وكعب، وابن عباس، وأنس.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع في الآية قال: يبعثون يوم القيامة، وبهم خَبَل من الشيطان، وهي في بعض القراءات: «لا يقومون يوم القيامة». يعني قراءة ابن مسعود المتقدم ذكرها.
وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقرأهنّ على الناس، ثم حرّم التجارة في الخمر».
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن عمر بن الخطاب: أنه خطب، فقال: إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وأخرج البخاري، وغيره، عن ابن عباس أنه قال: آخر آية أنزلها الله على رسوله آية الربا.
وأخرج البيهقي في الدلائل، عن عمر مثله.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في الربا الذي نهى الله، عنه قال: كان أهل الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين، فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه.
وأخرج أيضاً، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه أيضاً، وزاد في قوله: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} قال: يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا، فانتهى عنه: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} يعني: فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم: {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} يعني بعد التحريم، وبعد تركه إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل {وَمَنْ عَادَ} يعني في الربا بعد التحريم، فاستحله بقولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} يعني لا يموتون.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، من طريق ابن جريج، عن ابن عباس في قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} قال: ينقص الربا {وَيُرْبِى الصدقات} قال: يزيد فيها، وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «من تصدق بعْدل تمرة من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل الله إلا طيباً، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يُرْبَيها لصاحبها، كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل».
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني من حديث عائشة نحوه.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً. وفي حديث عائشة، وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات}.
وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتصدّق بالِكْسَرة تربو عند الله حتى تكون مثل أحد» وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.