فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (4):

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قيل: هم مؤمنو أهل الكتاب، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت.
وقد رجح هذا ابن جرير، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 119] وبقوله تعالى: {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} الآية [القصص: 52 54]. والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب. وقيل الآيتان جميعاً في المؤمنين على العموم. وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير: هدى للمتقين وللذين يؤمنون بما أنزل إليك.
والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: هو القرآن. وما أنزل من قبله: هو الكتب السالفة. والإيقان: إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه، قاله في الكشاف. والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك. والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الدار الاخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الارض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83] وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به، والقطع بوقوعه. وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل؛ تغليباً للموجود على ما لم يوجد، أو تنبيهاً على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} أي يصدقونك بما جئت به من الله، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} إيماناً بالبعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.
والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك.
وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية. فمن ذلك قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] وكقوله: {وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46]، وقوله: {آمن الرسول بما انزل إليه مِن رَّبّهِ والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال: {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} [النساء: 152].

.تفسير الآية رقم (5):

{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً، كأنه قيل: كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل: {أولئك على هُدًى} ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ فيكون متصلاً بما قبله. قال في الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: {على هُدًى} مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه، ونحوه: هو على الحق وعلى الباطل.
وقد صرّحوا بذلك في قوله: جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى انتهى.
وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها: الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام.
قال ابن جرير: إن معنى {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ} على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، و{المفلحون} أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة: الشقّ والقطع، قاله أبو عبيد ويقال: الذي شقت شفته أفلح، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي: وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة، فمعنى {أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزون بالجنة والباقون.
وقال في الكشاف: المفلح الفائز بالبغية، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه. انتهى.
وقد استعمل الفلاح في السحور، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود: «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم». قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور. فكأن معنى الحديث: أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره.
وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب: هم المؤمنون من العرب، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إلى من قبله: هم، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} وقد قدمنا الإشارة إلى هذا، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال: فقال: «ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} إلى قوله: {لْمُفْلِحُونَ} هؤلاء أهل الجنة قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {عظِيمٌ} هؤلاء أهل النار قالوا: ألسنا هم يا رسول الله؟ قال: أجل».
وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث، منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال: «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيّ فقال: يا نبيّ الله إن لي أخاً وبه وجع فقال وما وجعه؟ قال: به لمم، قال: فائتني به، فوضعه بين يديه، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة، وهاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18]، وآية من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ الله} [الأعراف: 54]، وآخر سورة المؤمنين {فتعالى الله الملك الحق} [المؤمنون: 116- 118]، وآية من سورة الجنّ {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} [الجن: 3]، وعشر آيات من أوّل الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و{قل هو الله أحد} [الأخلاص: 1] والمعوّذتين، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ».
وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله.
وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال: من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق.
وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال: «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها، وآية الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث خواتمها أوّلها متصل {للَّهِ مَا في السموات} [البقرة: 284]».
وأخرج سعيد بن منصور، والدارمي، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه.
وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فلا تحبسوه، وأسرعوا به إلى قبره، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة» وقد ورد في ذلك غير هذا.

.تفسير الآيات (6- 7):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير، قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأوّل، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان، وأن وجود ذلك كعدمه. و{سواء} اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله: سواء، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى، كأنه قال: الإنذار وعدمه سواء، كقولهم: تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه: أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة: الستر والتغطية، قال الشاعر:
في ليلة كفر النجوم غمامها

أي: سترها، ومنه سمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار: الإبلاغ والإعلام.
قال القرطبي: واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً.
وقال ابن عباس والكلبي: نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما.
وقال الربيع بن أنس: نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب، والأول أصح، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى.
وقوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} خبر مبتدأ محذوف: أي: هم لا يؤمنون، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل: هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل: لا يؤمنون: أي: هم لا يؤمنون.
وقال في الكشاف: إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. انتهى. والأولى ما ذكرناه، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود.
وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي.
وقال ابن كيسان: إن خبر إن {سواء} وما بعده يقوم مقام الصلة.
وقال محمد بن يزيد المبرّد: {سواء} رفع بالابتداء، وخبره {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} والجملة خبر {إن}. والختم: مصدر ختمت الشيء، ومعناه: التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء، ومنه ختم الكتاب، والباب، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة: الغطاء، ومنه غاشية السرج، والمراد بالختم والغشاوة هنا: هما المعنويان لا الحسيان، أي: لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً، والمغطاة بغطاء مدرك، استعارة أو تمثيلاً، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه.
وقد اختلف في قوله تعالى: {وعلى سَمْعِهِمْ} هل هو داخل في حكم الختم، فيكون معطوفاً على القلوب؟ أو في حكم التغشية، فقيل: إن الوقف على قوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} تامّ، وما بعده كلام مستقلّ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة، وقد قرئ: {غشاوة} بالنصب. قال ابن جرير: يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محلّ {وعلى سمعهم} كقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] وقول الشاعر:
علفتها تبناً وماءً بارداً

وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير والعذاب: هو ما يؤلم، وهو مأخوذ من الحبس والمنع، يقال في اللغة: أعذبه عن كذا: حبسه ومنعه، ومنه عذوبة الماء؛ لأنها حبست في الإناء حتى صفت.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً، وقد كفروا بما عندهم من علمك {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} قال: نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا} [إبراهيم: 28] قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان: أبو سفيان والحكم بن العاص.
وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: {ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} قال: أوعظتهم أم لم تعظهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال: أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون، وجعل على أبصارهم: يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون.
وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج قال: الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وقال: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} [الجاثية: 23]. قال ابن جرير في معنى الختم: والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة، قال: قال رسول الله: «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه، فذلك الران الذي قال الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]».
وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه، والنسائي. ثم قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع، فلا يكون إليها مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو: الختم الذي ذكره الله في قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ} نظير الطبع، والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلها، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ خاتمه، وحلّ رباطه عنها.