فصل: تفسير الآيات (18- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 20):

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
قوله: {شَهِدَ الله} أي: بين وأعلم. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء، ويبينه، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبيّن، وقال أبو عبيدة: شهد الله بمعنى قضى، أي: أعلم. قال ابن عطية: وهذا مردود من جهات، وقيل: إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وقوله: {أنه} بفتح الهمزة. قال المبرد: أي: بأنه ثم حذفت الباء، كما في أمرتك الخير، أي: بالخير. وقرأ ابن عباس: {إنه} بكسر الهمزة بتضمين {شهد} معنى (قال). وقرأ أبو المهلب: {شهداء لله} بالنصب على أنه حال من الصابرين، وما بعده، أو على المدح: {والملئكة} عطف على الاسم الشريف، وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا الله. وقوله: {وَأُوْلُواْ العلم} معطوف أيضاً على ما قبله، وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم، وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لابد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله، وشهادة الملائكة، وأولي العلم.
وقد اختلف في أولي العلم هؤلاء من هم؟ فقيل: هم الأنبياء؛ وقيل: المهاجرون، والأنصار، قاله ابن كيسان. وقيل: مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل. وقيل: المؤمنون كلهم، قاله السدي، والكلبي، وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص. وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة؛ لقربهم باسمه، واسم ملائكته، والمراد بأولي العلم هنا: علماء الكتاب، والسنة، وما يتوصل به إلى معرفتهما، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
وقوله: {قَائِمَاً بالقسط} أي: العدل، أي: قائماً بالعدل في جميع أموره، أو مقيماً له، وانتصاب {قائماً} على الحال من الاسم الشريف. قال في الكشاف: إنها حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من الملائكة، وأولي العلم لعدم اللبس، وقيل: إنه منصوب على المدح. وقيل: إنه صفة لقوله: {إِلَهٍ} أي: لا إله قائماً بالقسط، إلا هو، أو هو حال من قوله: {إِلاَّ هُوَ} والعامل فيه معنى الجملة.
وقال الفراء: هو منصوب على القطع؛ لأن أصله الألف، واللام، فلما قطعت نصب كقوله: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52] ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود {القائم بالقسط}. وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} تكرير لقصد التأكيد؛ وقيل: إن قوله: {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} كالدعوى، والأخيرة كالحكم.
وقال جعفر الصادق الأولى وصف، وتوحيد، والثانية رسم، وتعليم. وقوله: {العزيز الحكيم} مرتفعان على البدلية من الضمير، أو الوصفية لفاعل شهد لتقرير معنى الوحدانية.
قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام}.
قرأه الجمهور بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، وقريء بفتح أن. قال الكسائي: أنصبهما جميعاً يعني قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ} وقوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين عند الله الإسلام. قال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان، وإن كانا في الأصل متغايرين، كما في حديث جبريل الذي بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام، ومعنى الإيمان، وصدقه جبريل، وهو في الصحيحين، وغيرهما ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر، وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة. قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود، والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم. قال الأخفش: وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا؟ وقيل اختلافهم في نبوّة عيسى، وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي: بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} فيجازيه، ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله: {فإن الله} مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم، والتهديد لهم.
قوله: {فَإنْ حَاجُّوكَ} أي: جادلوك بالشبه الباطلة، والأقوال المحرّفة، {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} أي: أخلصت ذاتي لله، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان، وأجمعها للحواس، وقيل: الوجه هنا بمعنى: القصد. وقوله: {وَمَنِ اتبعن} عطف على فاعل أسلمت، وجاز للفصل. وأثبت نافع، وأبو عمرو، ويعقوب الياء في {اتبعن} على الأصل، وحذفها الآخرون اتباعاً لرسم المصحف، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع والمراد بالأميين هنا: مشركو العرب. وقوله: {ءأَسْلَمْتُمْ} استفهام تقريري يتضمن الأمر، أي: أسلموا، كذا قاله ابن جرير، وغيره.
وقال الزجاج: {ءأَسْلَمْتُمْ} تهديد، والمعنى: أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام، فهل علمتم بموجب ذلك أم لا؟ تبكيتا لهم، وتصغيراً لشأنهم في الإنصاف، وقبول الحق. وقوله: {فَقَدِ اهتدوا} أي: ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر، وفازوا بخير الدنيا، والآخرة {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن قبول الحجة، ولم يعملوا بموجبها {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: فإنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك، ولست عليهم بمسيطر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر.
وقوله: {والله بَصِيرٌ بالعباد} فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {قَائِمَاً بالقسط} قال: بالعدل.
وأخرج أيضاً، عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير قال: كان حول البيت ستون وثلثمائة صنم لكل قبيلة من قبائل العرب صنم، أو صنمان، فأنزل الله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} الآية، فأصبحت الأصنام كلها قد خرّت، سجداً للكعبة.
وأخرج ابن السني في عمل اليوم، والليلة، وأبو منصور الشحامي في الأربعين، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، والآيتين من آل عمران {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} {قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27] هن معلقات بالعرش ما بينهن، وبين الله حجاب، يقلن: يا ربّ تهبطنا إلى أرضك، وإلى من يعصيك؟ قال الله: إني حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مأواه على ما كان منه، وإلا أسكنته حظيرة القدس، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو، ونصرته منه».
وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً نحوه، وفيه: «لا يتلوكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان منه، وأسكنته جنة الفردوس، ونظرت إليه كل يوم سبعين مرة، وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة».
وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن السني، عن الزبير بن العوام قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فقال: وأنا على ذلك من الشاهدين» ولفظ الطبراني: «وأنا أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم».
وأخرج ابن عدي، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه، والخطيب في تاريخه، وابن النجار عن غالب القطان؛ قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريباً من الأعمش.
فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام، فتهجد من الليل، فمرّ بهذه الآية {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} إلى قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} فقال: وأنا أشهد بما شهد به الله، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي وديعة عند الله، قالها مراراً، فقلت: لقد سمع فيها شيئاً، فسألته فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله: عبدي عهد إليَّ، وأنا أحق من وفيَّ بالعهد أدخلوا عبدي الجنة».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قال: بنو إسرائيل.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يقول: بغياً على الدنيا، وطلب ملكها، وسلطانها. فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {فَإنْ حَاجُّوكَ} قال: إن حاجك اليهود، والنصارى.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، ونحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} قال: اليهود، والنصارى {والأميين} قال: هم: الذين لا يكتبون.

.تفسير الآيات (21- 25):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
قوله: {بآيات الله} ظاهره عدم الفرق بين آية وآية {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} يعني: اليهود قتلوا الأنبياء {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي: بالعدل، وهم الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، قال المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون، فدعوهم إلى الله، فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين، فأمروهم بالإسلام، فقتلوهم. ففيهم نزلت الآية. وقوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبر {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} إلخ، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، وذهب بعض أهل النحو إلى أن الخبر قوله: {أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم} وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن، وإن تضمن اسمها معنى الشرط؛ لأنه قد نسخ بدخول (أن) عليه، ومنهم سيبويه، والأخفش، وذهب غيرهما إلى أن ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول (أن) عليه، ومثل المكسورة المفتوحة، ومنه قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41].
وقوله: {حَبِطَتْ أعمالهم} قد تقدم تفسير الإحباط، ومعنى كونها حبطت في الدنيا، والآخرة أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات، بل عوملوا معاملة أهل السيئات، فلعنوا وحل بهم الخزي، والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء، وهم أحبار اليهود. والكتاب: التوراة، وتنكير النصيب للتعظيم، أي: نصيباً عظيماً، كما يفيده مقام المبالغة، ومن قال: إن التنكير للتحقير، لم يصب، فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذي أوتوا نصيباً منه، وهو التوراة: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به، واعترافهم بوجوب الإجابة إليه، و{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي، والإعراض بسبب {أَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي: مقدار عبادتهم العجل.
وقد تقدم تفسير ذلك: {وَغَرَّهُمْ في دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} هو: ردّ عليهم، وإبطال لما غرهم من الأكاذيب، أي: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه، فإنهم يقعون لا محالة، ويعجزون عن دفعه بالحيل، والأكاذيب {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي: جزاء ما كسبت على حذف المضاف {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة، ولا نقص. والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس.
قال الكسائي: اللام في قوله: {لِيَوْمِ} بمعنى (في)، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم.
وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي عبيدة بن الجراح: قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبياً، أو رجلاً أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر»، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الذين يقتلون النبيين بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} إلى قوله: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أوّل النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهي عن نكاح بنت الأخ، وكان ملك له بنت أخ تعجبه، فأرادها، وجعل يقضي لها كل يوم حاجة، فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة، فقولي حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا، فقالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به، فذبح في طست، فبدرت قطرة من دمه، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه، فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن معقل بن أبي مسكين في الآية قال: كان الوحي يأتي بني إسرائيل، فيذكرون قومهم، ولم يكن يأتيهم كتاب، فيقوم رجال ممن اتبعهم، وصدقهم، فيذكرون قومهم، فيقتلون فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة، نحوه.
وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: {الذين يأمرون بالقسط من الناس}: ولاة العدل.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أتيت يا محمد؟ قال: «على ملة إبراهيم، ودينه، قال: فإن إبراهيم كان يهودياً قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة، فهي بيننا، وبينكم، فأبيا عليه»، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الآية.
أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {نَصِيباً} قال: حظاً {مّنَ الكتاب} قال: التوراة.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في قوله: {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} قال: يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَغَرَّهُمْ في دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} حين قالوا {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} يعني: توفي كل نفس برّ، أو فاجر {مَّا كَسَبَتْ} ما عملت من خير، أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يعني: من أعمالهم.