فصل: تفسير الآيات (45- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 51):

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}
قوله: {إِذْ قَالَتِ} بدل من قوله: {وإذ قالت} المذكور قبله، وما بينهما اعتراض، وقيل: بدل من {إذ يختصمون} وقيل: منصوب بفعل مقدر. وقيل: بقوله: {يَخْتَصِمُونَ} وقيل: بقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ}.
والمسيح اختلف فيه مماذا أخذ؟ فقيل: من المسح؛ لأنه مسح الأرض، أي: ذهب فيها، فلم يستكن بكن، وقيل: إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء، فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل: لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل: لأنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل: لأن الجمال مسحه، وقيل: لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال: فعيل بمعنى مفعول.
وقال أبو الهيتم: المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة.
وقال ابن الأعرابي: المسيح الصديق.
وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرّب، كما عرّب موشى بموسى. وأما الدجال، فسمي مسيحاً؛ لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل: لأنه يمسح الأرض أي: يطوف بلدانها إلا مكة، والمدينة وبيت المقدس.
وقوله: {عِيسَى} عطف بيان، أو بدل، وهو اسم أعجمي، وقيل: هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه. قال في الكشاف: هو معرّب من أيشوع. انتهى. والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل: ابن مريم مع كون الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب، فنسب إلى أمه. والوجيه ذو الوجاهة: وهي: القوّة والمنعة، ووجاهته في الدنيا النبوّة، وفي الآخرة الشفاعة، وعلوّ الدرجة، وهو: منتصب على الحال من كلمة، وإن كانت نكرة، فهي موصوفة، وكذلك قوله: {وَمِنَ المقربين} في محل نصب على الحال. قال الأخفش: هو: معطوف على {وجيها}.
والمهد: مضجع الصبيّ في رضاعه، ومهدت الأمر: هيأته، ووطأته. والكهل هو: من كان بين سن الشباب، والشيخوخة، أي: يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد، وحال كونه كهلاً بالوحي، والرسالة، قاله الزجاج.
وقال الأخفش، والفراء: إن كهلاً معطوف على وجيهاً. قال الأخفش: {وَمِنَ الصالحين} عطف على وجيهاً، أي: هو من العباد الصالحين. قوله: {أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ} أي: كيف يكون على طريقة الاستبعاد العادي {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} جملة حالية، أي: والحال أنه على حالة منافية للحالة المعتادة من كون له أب {قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} هو: من كلام الله سبحانه. وأصل القضاء الأحكام، وقد تقدّم، وهو هنا الإرادة، أي: إذا أراد أمراً من الأمور {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} من غير عمل ولا مزاولة، وهو تمثيل لكمال قدرته.
قوله: {وَيُعَلّمُهُ الكتاب} قيل هو معطوف على {يُبَشّرُكِ}: أي: إن الله يبشرك وإنّ الله يعلمه، وقيل: على {يَخْلُقُ}: أي: وكذلك يعلمه الله، أو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها.
والكتاب الكتابة. والحكمة العلم، وقيل: تهذيب الأخلاق، وانتصاب رسولاً على تقدير، ويجعله رسولاً، أو ويكلمهم رسولاً، أو وأرسلت رسولاً، وقيل: هو معطوف على قوله: {وَجِيهاً} فيكون حالاً؛ لأن فيه معنى النطق، أي: وناطقاً، قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله: {ورسولاً} مقحمة، والرسول حالاً. وقوله: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمول لرسول؛ لأن فيه معنى النطق كما مر، وقيل: أصله بأني قد جئتكم، فحذف الجار، وقيل: منصوب بمضمر أي: تقول أني قد جئتكم، وقيل: معطوف على الأحوال السابقة. وقوله: {بِئَايَةٍ} في محل نصب على الحال، أي: متلبساً بعلامة كائنة {مّن رَّبّكُمْ}. وقوله: {أَنِى أَخْلُقُ} أي: أصوّر، وأقدّر {لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى، وهي: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} أو بدل من آية، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي: أني، وقريء بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر، {كهيئة الطير} بالتشديد، والكاف في قوله: {كَهَيْئَةِ الطير} نعت مصدر محذوف، أي: أخلق لكم خلقاً، أو شيئاً مثل هيئة الطير.
وقوله: {فَأَنفُخُ فِيهِ} أي: في ذلك الخلق، أو ذلك الشيء، فالضمير راجع إلى الكاف في قوله: كهيئة الطير، وقيل: الضمير راجع إلى الطير، أي: الواحد منه، وقيل: إلى الطين، وقريء: {فيكون طائراً} و{طيراً} مثل تاجر وتجر، وقيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة، فإن له ثدياً، وأسناناً، وأذناً، ويحيض، ويطهر، وقيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه يطير بغير ريش، ويلد، كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير، ولا يبيض، كما يبيض سائر الطيور، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو: يضحك، كما يضحك الإنسان؛ وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل: كان يطير ما دام الناس ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره،
وقوله: {بِإِذُنِ الله} فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عزّ وجلّ لم يقدر على ذلك، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام. قيل: كانت تسوية الطين، والنفخ من عيسى، والخلق من الله عزّ وجلّ. قوله: {وَأُبْرِئ الأكمه} الأكمه: الذي يولد أعمى، كذا قال أبو عبيدة.
وقال ابن فارس: الكمه العمي يولد به الإنسان، وقد يعرض، يقال كمه يكمه كمها: إذا عمي، وكمهت عينه: إذا أعميتها؛ وقيل: الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، وقيل: هو الممسوح العين.
والبرص معروف، وهو بياض يظهر في الجلد.
وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدّة، كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر؛ لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك. قوله: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} أي: أخبركم بالذي تأكلونه، وبالذي تدّخرونه.
قوله: {وَمُصَدّقًا} عطف على قوله: {وَرَسُولاً} وقيل: المعنى: وجئتكم مصدّقاً. قوله: {وَلأِحِلَّ} أي: ولأجل أن أحلّ، أي: جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم من الأطعمة في التوراة، كالشحوم، وكل ذي ظفر، وقيل: إنما أحلّ لهم ما حرّمته عليهم الأحبار، ولم تحرّمه التوراة.
وقال أبو عبيدة: يجوز أن يكون {بعض} بمعنى كلّ، وأنشد:
تَرّاكُ أمكنَةٍ إذَا لم أرْضها ** أو يرْتِبَطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها

قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة؛ لأن البعض، والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرّمته عليهم التوراة، فإنه لم يحلل القتل، ولا السرقة، ولا الفاحشة، وغير ذلك من المحرّمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة، وهي: كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين، ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة، كقول الشاعر:
أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيتَ فاستبق بَعْضنَا ** حَنَانْيك بعضُ الشَّرِ أهوَنُ مِن بَعْضِ

أي: بعض الشرّ أهون من كله. قوله: {بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} هي قوله: {إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ} وإنما كان ذلك آية، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوّته. ويحتمل أن تكون هذه الآية هي: الآية المتقدّمة، فتكون تكريراً لقوله: {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين} الآية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بِكَلِمَةٍ} قال: عيسى هو: الكلمة من الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: المهد: مضجع الصبيّ في رضاعه.
وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل: رجل يقال له جريج كان يصلي، فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها، أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعة، فتعرضت له امرأة، وكلمته، فأبى، فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبوه، فتوضأ، وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين. وكانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابناً لها، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، ثم مرّ بأمة تجرجر، ويلعب بها، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون لها زَنيتِ، وتقول حسبي الله، ونعم الوكيل، ويقولون سرقت، وتقول حسبي الله.
وأخرج أبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يتكلم في المهد إلا عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَيُكَلّمُ الناس في المهد وَكَهْلاً} قال: يكلمهم صغيراً، وكبيراً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الكهل هو من في سن الكهولة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الكهل: الحليم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَيُعَلّمُهُ الكتاب} قال: الخط بالقلم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريح، نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس قال: إنما خلق عيسى طائراً واحداً، وهو الخفاش.
وأخرج ابن جريج، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، من طريق الضحاك، عن ابن عباس؛ قال: الأكمه الذي يولد أعمى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: الأكمه الأعمى الممسوح العينين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل.
وأخرجوا عن عكرمة قالوا: الأكمه: الأعمش.
وأخرج أحمد في الزهد، عن خالد الحذاء قال: كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم: قولوا كذا، فإذا وجدتم قشعريرة، ودمعة، فادعوا عند ذلك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} قال: بما أكلتم البارحة من طعام، وما خبأتم منه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمار بن ياسر قال: {أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ} من المائدة {وَمَا تَدَّخِرُونَ} منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا، ولا يدّخروا، فأكلوا، وادّخروا، وخانوا، فجعلوا قردة، وخنازير.

وأخرج ابن جرير، عن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى، وكان يسبت، ويستقبل بيت المقدس، وقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم، وأضع عنكم من الآصار.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع في الآية: قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرّم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل، والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرّم عليهم الشحوم، فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير، وفي أشياء أخر حرّمها عليهم، وشدّد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة مثله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} قال: ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.

.تفسير الآيات (52- 58):

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}
قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ} أي: علم ووجد: قاله الزجاج.
وقال أبو عبيدة: معنى أحسّ: عرف. وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس: العلم بالشيء. قال الله تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]. والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة. وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل: سمع منهم كلمة الكفر.
وقال الفراء: أرادوا قتله. وعلى هذا، فمعنى الآية: فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال: من أنصاري إلى الله. الأنصار جمع نصير. وقوله: {إِلَى الله} متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: متوجهاً إلى الله، أو ملتجئاً إليه، أو ذاهباً إليه، وقيل: إلى بمعنى مع كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2] وقيل: المعنى: من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل: المعنى: من يضم نصرته إلى نصرة الله. والحواريون: جمع حواري، وحواريّ الرجل: صفوته، وخلاصته، وهو مأخوذ من الحور، وهو البياض عند أهل اللغة، حوّرت الثياب بيضتها، والحواري من الطعام: ما حوّر: أي بيض، والحواري أيضاً الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل نبيّ حواريّ، وحواريي الزبير» وهو في البخاري، وغيره.
وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك، فقيل: لبياض ثيابهم. وقيل: لخلوص نياتهم. وقيل: لأنهم خاصة الأنبياء، وكانوا اثني عشر رجلاً، ومعنى أنصار الله: أنصار دينه ورسله. وقوله: {آمنا بالله} استئناف جار مجرى العلة لما قبله، فإن الإيمان يبعث على النصرة. قوله: {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا.
ومعنى: {بِمَا أَنزَلْتُ} ما أنزله الله سبحانه في كتبه. والرسول عيسى، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: اتبعناه في كل ما يأتي به، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية، ولرسولك بالرسالة. أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم. وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَمَكَرُواْ} أي: الذي أحسّ عيسى منهم الكفر، وهم: كفار بني إسرائيل. ومكر الله: استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون. قاله الفراء، وغيره.
وقال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمى الجزاء باسم الابتداء، كقوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وأصل المكر في اللغة: الاغتيال، والخدع: حكاه ابن فارس، وعلى هذا، فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة. وقيل: مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه {والله خَيْرُ الماكرين} أي: أقواهم مكراً، وأنفذهم كيداً، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب.
قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى} العامل في إذ: مكروا، أو قوله: {خَيْرُ الماكرين} أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك.
وقال الفراء: إن في الكلام تقديماً، وتأخيراً تقديره إني رافعك، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء.
وقال أبو زيد: متوفيك قابضك.
وقال في الكشاف: مستوفي أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم. وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة، كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبري، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله، وقتله الدجال، وقيل: إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار، ثم رفعه إلى السماء، وفيه ضعف، وقيل: المراد بالوفاة هنا النوم ومثله: {وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} [الأنعام: 60] أي: ينيمكم، وبه قال كثيرون. قوله: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي: من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم.
قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} أي: الذين اتبعوا ما جئت به، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً، ومنهم المسلمون، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ، فلم يفرّطوا في وصفه، كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى.
وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم. وقيل: المراد: بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة؛ وقيل: هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل: هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين، كما تفيده الآيات الكثيرة، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل، قاهرة لها مستعلية عليها.
وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته: وبل الغمامة في تفسير: {وَجَاعِل ُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة} فمن رام استيفاء ما في المقام، فليرجع إلى ذلك. والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف، أو بالحجة.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره، وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة. قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم، وتقديم الظرف للقصر {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الدين.
قوله: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} إلى قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} تفسير للحكم.
قوله: {فِى الدنيا والاخرة} متعلق بقوله: فأعذبهم، أما تعذيبهم في الدنيا، فبالقتل والسبي، والجزية، والصغار، وأما في الآخرة، فبعذاب النار. قوله: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: يعطيهم إياها كاملة موفرة، قريء بالتحتية وبالنون. وقوله: {لاَ يُحِبُّ الظالمين} كناية عن بغضهم، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها. قوله: {ذلك} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى، وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده، و{مِنَ الأيات} حال، أو خبر بعد خبر. والحكيم المشتمل على الحكم، أو المحكم الذي لا خلل فيه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} قال: كفروا وأرادوا قتله، فذلك حين استنصر قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: إنما سمُّوا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين.
وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك قال: الحواريون قصارون مرّ بهم عيسى فآمنوا به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: هم أصفياء الأنبياء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الضحاك مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: الحواري الوزير.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة قال: الحواري الناصر.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} قال: مع محمد، وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح عنه قال: {مَعَ الشاهدين} مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي، فيقتل، وله الجنة، فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يقول: مميتك.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن قال: متوفيك من الأرض.
وأخرج الآخران عنه قال: وفاة المنام.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: هذا من المقدّم، والمؤخر أي: رافعك إليّ، ومتوفيك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مطر الوراق قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن وهب قال: توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه، وأخرج ابن عساكر، عنه قال: أماته ثلاثة أيام ثم بعثه، ورفعه.
وأخرج الحاكم، عنه قال: توفى الله عيسى سبع ساعات.
وأخرج ابن سعد، وأحمد في الزهد، والحاكم، عن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وأخرج ابن عساكر، عن وهب مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله تعالى: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} قال: طهره من اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن كفار قومه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} قال: هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته، وملته، وسنته.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله» قال النعمان: من قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل، فإن تصديق ذلك في كتاب الله، قال الله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} الآية.
وأخرج ابن عساكر، عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة، وليس بلد فيه أحد من النصارى، إلا وهم فوق اليهود في شرق، ولا غرب، هم البلدان كلها مستذلون.