فصل: تفسير الآيات (59- 63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (59- 63):

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}
تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة، وهو كونه لا أمّ له: كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه، وأعظم عجباً، وأغرب أسلوباً. وقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} جملة مفسرة لما أبهم في المثل، أي: أن آدم لم يكن له أب، ولا أم، بل خلقه الله من تراب. وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأنّ آدم خلق من غير أب، وأمّ. قوله: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي: كن بشراً، فكان بشراً. وقوله: {فَيَكُونُ} حكاية حال ماضية، وقد تقدّم تفسير هذا.
وقوله: {الحق مِن رَّبّكَ} قال الفراء: هو مرفوع بإضمار هو.
وقال أبو عبيدة: هو استئناف كلام، وخبره قوله: {مِن رَبّكَ} وقيل: هو فاعل فعل محذوف، أي: جاءك الحق من ربك. قوله: {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس، أي: لا يكن أحد منكم ممترياً، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون النهي له لزيادة التثبيت؛ لأنه لا يكون منه شك في ذلك.
قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} هذا وإن كان عاماً، فالمراد به الخاص، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران، كما سيأتي بيانه، ويمكن أن يقال هو على عمومه، وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته، وضمير {فيه} لعيسى؛ والمراد بمجيء العلم هنا: مجيء سببه، وهو: الآيات البينات، والمحاجة: المخاصمة، والمجادلة. وقوله: {تَعَالَوْاْ} أي: هلموا، وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك: تعال ننظر في هذا الأمر. قوله: {نَدْعُ أَبْنَاءنَا} إلخ اكتفى بذكر البنين عن البنات، إما لدخولهن في النساء، أو لكونهم الذين يحضرون. مواقف الخصام دونهن، ومعنى الآية: ليدع كل منا ومنكم أبناءه، ونساءه، ونفسه إلى المباهلة. وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين، كما سيأتي. قوله: {نَبْتَهِلْ} أصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن، وغيره، يقال بهله الله، أي: لعنه، والبهل: اللعن. قال أبو عبيد، والكسائي: نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك، ومنه قول لبيد:
فِي كُهُول سَادَةٍ مِنْ قَوْمِه ** نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيهم فابْتَهَلْ

أي: فاجتهد في هلاكهم. قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا.
قوله: {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين} عطف على نبتهل مبين لمعناه {إِنَّ هَذَا} أي: الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى {لَهُوَ القصص الحق} القصص التتابع، يقال: فلان يقص أثر فلان، أي: يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع، بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره، وزيادة {من} في قوله: {مِنْ إِلَهٍ} لتأكيد العموم، وهو ردّ على من قال بالتثليث من النصارى.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث حذيفة: أن العاقب، والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا نلاعنه، فوالله لئن كان نبياً، فلاعننا لا نفلح أبداً نحن، ولا عقبنا من بعدنا، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلاً أميناً، فقال: «قم يا أبا عبيدة» فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، وأنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل، فقال: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ} إلى آخر الآية.
وقد رويت هذه القصة على وجوه، عن جماعة من التابعين.
وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل، عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب، والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، فقال: «كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام» قالا فهات. قال: «حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير». قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه، وأقرّا له، فقال: والذي بعثني بالحق لو فعلا، لأمطر الوادي عليهما ناراً. قال جابر: فيهم نزلت: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وأبناءكم} الآية. قال جابر: {أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ، وأبناءنا الحسن، والحسين، ونساءنا فاطمة. ورواه أيضاً الحاكم، من وجه آخر عن جابر وصححه، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن نلاعنك؟ وأخرج مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، عن سعد بن أبي وقاص: قال لما نزلت هذه الآية: {قُلْ تَعَالَوْاْ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي».
وأخرج ابن عساكر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا} الآية، قال: فجاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعليّ، وولده.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج، عن ابن عباس: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نجتهد.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الإخلاص» يشير بأصبعه التي تلي الإبهام، «وهذا الدعاء»، فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال، فرفع يديه مدّاً.

.تفسير الآية رقم (64):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}
قيل: الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية. وقيل: ليهود المدينة، وقيل: لليهود والنصارى جميعاً، وهو: ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض؛ لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسواء: العدل. قال الفراء: يقال في المعنى العدل: سوى، وسواء، فإذا فتحت السين مددت، وإذا ضممت، أو كسرت قصرت. قال زهير:
أرونيّ خُطَّةً لا ضَيْم فيها ** يُسَوِّيَّ بيننا فيها السَّوَاءُ

وفي قراءة ابن مسعود: {إلى كلمة عدل بيننا وبينكم} فالمعنى: أقبلوا إلى ما دعيتم إليه، وهي: الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، وقد فسرها بقوله: {أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهو: في موضع خفض على البدل من كلمة، أو رفع على إضمار مبتدأ، أي: هي ألا نعبد، ويجوز أن تكون {أن} مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها، وفي قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح، وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله، فحلل ما حللوه له، وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك، فقد اتخذ من قلده ربا، ومنه {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله} [التوبة: 31] وقد جوّز الكسائي، والفراء الجزم في {وَلاَ نُشْرِكَ} {ولا يتخذ} على التوهم. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عما دعوا إليه: {فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، عن ابن عباس قال: حدّثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين، و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى قوله: {بأنا مسلمون}».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية، فأبوا عليه، فجاهدهم حتى أقرّوا بالجزية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة: {إلى كَلِمَةٍ سَوَاء} قال: عدل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله؛ ويقال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم، وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلوا لهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا} قال: سجود بعضهم لبعض.

.تفسير الآيات (65- 68):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}
لما ادّعت كل واحدة من طائفتي اليهود، والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم، وأبان بأن الملة اليهودية، والملة النصرانية إنما كانتا من بعده. قال الزجاج: هذه الآية أبين حجة على اليهود، والنصارى أن التوراة، والإنجيل نزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب. انتهى. وفيه نظر، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة، وذكر شريعة موسى، والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدّمة، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة.
وقد اختلف في قدر المدّة التي بين إبراهيم وموسى، والمدّة التي بين موسى، وعيسى. قال القرطبي: يقال: كان بين إبراهيم، وموسى ألف سنة، وبين موسى، وعيسى ألفا سنة. وكذا في الكشاف. قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي: تتفكرون في دحوض حجتكم، وبطلان قولكم.
قوله: {تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} الأصل في ها أنتم: أأنتم أبدلت الهمزة الأولى هاء؛ لأنها أختها كذا قال أبو عمرو بن العلاء، والأخفش. قال النحاس: وهذا قول حسن. وقرأ قنبل: {هَأَنْتُمْ} وقيل: الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها، أي: ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم، وفي {هؤلاء} لغتان المدّ، والقصر. والمراد بما لهم به علم: هو ما كان في التوراة، وإن خالفوا مقتضاه، وجادلوا فيه بالباطل، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه. وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ، كما في حديث: «من ترك المراء، ولو محقاً، فأنا ضمينه على الله يبيت في ربض الجنة» وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن لقوله تعالى: {وجادلهم بالتى هي أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هي أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ونحو ذلك، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة. قوله: {والله يَعْلَمُ} أي: كل شيء، فيدخل في ذلك ما حاججوا به.
وقد تقدّم تفسير الحنيف. قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس} أي: أحقهم به، وأخصهم للذين اتبعوا ملته، واقتدوا بدينه {وهذا النبى} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، أفرده بالذكر تعظيماً له، وتشريفاً، وأولويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية {والذين ءامَنُواْ} من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانياً، فنزل فيهم: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ في إبراهيم} الآية.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية: {هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} يقول فيما شهدتم، ورأيتم، وعاينتم: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} يقول فيما لم تشهدوا، ولم تروا، ولم تعاينوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدّي، في الآية قال: أما الذي لهم به علم، فما حرّم عليهم وما أمروا به، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: يعذر من حاجّ بعلم، ولا يعذر من حاجّ بالجهل.
وأخرج ابن جرير، عنه عن الشعبي، في قوله: {مَا كَانَ إبراهيم} قال: أكذبهم الله، وأدحض حجتهم.
وأخرج أيضاً عن الربيع مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه.
وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدّثني ابن غنم؛ أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فذكر قصتهم معه، وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص إنهم يشتمون عيسى، وهي قصة مشهورة؛ ثم قال: فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالمدينة: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبيّ ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي خليل ربي، ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس} الآية».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحكم بن ميناء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبيّ المتقون، فكونوا أنتم سبيل ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال، وتلقوني بالدنيا تحملونها، فأصدّ عنكم بوجهي، ثم قرأ عليهم: {إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} الآية».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في الآية قال: كل مؤمن وليّ إبراهيم ممن مضى، وممن بقي.