فصل: تفسير الآيات (130- 136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (130- 136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}
قوله: {يا أيها الذين آمنوا} قيل: هو كلام مبتدأ للترهيب، والترغيب فيما ذكر؛ وقيل: هو اعتراض بين أثناء قصة أحد. وقوله: {أضعافا مضاعفة} ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا، فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه، ثم يزيدون في أجل الدّين، فكانوا يفعلون ذلك مرّة بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء؛ وأضعافاً حال، ومضاعفة نعت له، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ. قوله: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين} فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم. قال كثير من المفسرين: وفيه أنه يكفر من استحلّ الربا، وقيل: معناه: اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان، فتستوجبون النار، وإنما خصّ الربا في هذه الآية؛ لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله.
وقوله: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول} حذف المتعلق مشعر بالتعميم، أي: في كل أمر، ونهي {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: راجين الرحمة من الله عز وجلّ.
وقوله: {وَسَارِعُواْ} عطف على أطيعوا، وقرأ نافع، وابن عامر {سارعوا} بغير واو، وكذلك في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام، وقرأ الباقون بالواو. قال أبو علي: كلا الأمرين سائغ مستقيم. والمسارعة: المبادرة، وفي الآية حذف، أي: سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات. وقوله: {عَرْضُهَا السموات والارض} أي: عرضها، كعرض السموات، والأرض، ومثله الآية الأخرى {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} [الحديد: 21] وقد اختلف في معنى ذلك، فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات، والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها إلى بعض، فذلك عرض الجنة، ونبه بالعرض على الطول؛ لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض، وقيل: إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة، وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع، والانفساح في غاية قصوى، حسن التعبير عنها بعرض السموات، والأرض مبالغة؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد. والسراء: اليسر، والضراء: العسر.
وقد تقدّم تفسيرهما، وقيل السراء: الرخاء، والضراء: الشدّة، وهو مثل الأول، وقيل: السراء في الحياة، والضراء بعد الموت.
قوله: {والكاظمين الغيظ} يقال: كظم غيظه: أي: سكت عليه، ولم يظهره، ومنه كظمت السقاء: أي: ملأته. والكظامة: ما يسد به مجرى الماء، وكظم البعير جرّته: إذا ردّها في جوفه، وهو عطف على الموصول الذي قبله. قوله: {والعافين عَنِ الناس} أي: التاركين عقوبة من أذنب إليهم، واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا.
وقال الزجاج وغيره: المراد بهم المماليك. واللام في {المحسنين} يجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء، وغيرهم، ويجوز أن تكون للعهد، فيختص بهؤلاء، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق، فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان، أيّ: إحسان كان.
قوله: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} هذا مبتدأ، وخبره {أولئك} وقيل: معطوف على المتقين. والأوّل أولى، وهؤلاء هم: صنف دون الصنف الأوّل ملحقين بهم، وهم التوّابون، وسيأتي ذكر سبب نزولها، والفاحشة وصف لموصوف محذوف، أي: فعلة فاحشة، وهي تطلق على كل معصية.
وقد كثر اختصاصها بالزنا. وقوله: {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} أي: باقتراف ذنب من الذنوب، وقيل: {أو} بمعنى الواو. والمراد ما ذكر، وقيل: الفاحشة الكبيرة، وظلم النفس الصغيرة؛ وقيل غير ذلك. قوله: {ذَكَرُواْ الله} أي: بألسنتهم، أو أخطروه في قلوبهم، أو ذكروا وعده، ووعيده {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} أي: طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة، وفي الاستفهام بقوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره، أي: لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع، والتذلل، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف، والمعطوف عليه.
وقوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} عطف على فاستغفروا، أي: لم يقيموا على قبيح فعلهم.
وقد تقدّم تفسير الإصرار. والمراد به هنا: العزم على معاودة الذنب، وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه. وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، أي: لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه. قوله: {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ} الإشارة إلى المذكورين بقوله: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة}. وقوله: {جَزَآؤُهُمْ} بدل اشتمال من اسم الإشارة. وقوله: {مَغْفِرَةٌ} خبر {مِنْ رَّبِّهِمْ} متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة، أي: كائنة من ربهم. وقوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، أي: أجرهم، أو ذلك المذكور.
وقد تقدّم تفسير الجنات، وكيفية جري الأنهار من تحتها.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم، وزادوا في الأجل، فنزلت: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عطاء؛ قال: كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية، وذكر نحوه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن معاوية بن قرّة؛ قال: كان الناس يتأوّلون هذه الآية: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين}: اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن عطاء بن أبي رباح قال: قال المسلمون: يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَسَارِعُواْ} الآية.
وأخرج ابن المنذر، عن أنس بن مالك في تفسير: {وَسَارِعُواْ} قال: التكبيرة الأولى.
وأخرج ابن جرير من طريق السديّ عن ابن عباس في قوله: {عَرْضُهَا السموات والأرض} مثل ما ذكرناه سابقاً عن الجمهور.
وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق كريب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {الذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاء والضراء}
يقول: في اليسر والعسر {والكاظمين الغيظ} يقول: كاظمين على الغيظ.
وقد وردت أحاديث كثيرة. في ثواب من كظم الغيظ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن النخعي في الآية: قال: الظلم من الفاحشة، والفاحشة من الظلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً، فقرأهما، فاستغفر الله إلا غفر له {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} الآية، وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية [النساء: 110].
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن ثابت البُنَاني؛ قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} الآية.
وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال: بلغني أنه لما نزل قوله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} صاح إبليس بجنوده، وحثا على رأسه التراب، ودعا بالويل والثبور، حتى جاءته جنوده من كل برّ، وبحر، فقالوا: مالك يا سيدنا؟ قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضرّ بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا: وما هي؟ فأخبرهم، قالوا نفتح لهم باب الأهواء، فلا يتوبون، ولا يستغفرون، ولا يرون إلا أنهم على الحق، فرضي منهم بذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، وأهل السنن الأربع، وحسنه النسائي، وابن حبان، والدارقطني في الإفراد، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن السني، والبيهقي في الشعب، والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر، ثم يصلى ركعتين، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} الآية وأخرج البيهقي في الشعب، عن الحسن مرفوعاً نحوه، ولكنه قال: «ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى».
وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} فيسكتون، ولا يستغفرون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} قال: أجر العاملين بطاعة الله الجنة.

.تفسير الآيات (137- 148):

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} هذا رجوع إلى وصف باقي القصة. والمراد بالسنن: ما سنّه الله في الأمم من وقائعه، أي: قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم المكذبة، وأصل السنن جمع سنة: وهي الطريقة المستقيمة، ومنه قول الهذلي:
فَلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنْتَ سِرْتَها ** فَأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها

والسنة: الإمام المتبع المؤتمّ به، ومنه قول لبيد:
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لَهُمْ آباؤُهُم ** وَلِكُلِ قَوْمِ سِنةٌ وإمامُ

والسنة: الأمة، والسنن: الأمم، قاله المفضل الضبي.
وقال الزجاج: المعنى في الآية: أهل سنن، فحذف المضاف، والفاء في قوله: {فَسِيرُواْ} سببية؛ وقيل: شرطية، أي: إن شككتم، فسيروا. والعاقبة: آخر الأمر، والمعنى: سيروا، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا، ثم انقرضوا، فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر. هذا قول أكثر المفسرين. والمطلوب من هذا السير المأمور به هو: حصول المعرفة بذلك، فإن حصلت بدونه، فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والإشارة بقوله: {هذا} إلى قوله: {قَدْ خَلَتْ} وقال: الحسن إلى القرآن: {بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي: تبيين لهم، وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون، أو للجنس، أي: للمكذبين، وغيرهم. وفيه حثّ على النظر في سوء عاقبة المكذبين، وما انتهى إليه أمرهم.
قوله: {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ} أي: هذا النظر مع كونه بياناً فيه هدى، وموعظة للمتقين من المؤمنين، فعطف الهدى، والموعظة على البيان يدل على التغاير، ولو باعتبار المتعلق، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد، فالبيان للمكذبين، والهدى، والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس، فالبيان لجميع الناس مؤمنهم، وكافرهم، والهدى، والموعظة للمتقين وحدهم.
قوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} عزاهم، وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وحثهم على قتال عدوهم، ونهاهم عن العجز، والفشل، ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوّهم بالنصر والظفر، وهي: جملة حالية، أي: والحال أنكم الأعلون عليهم، وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة.
وقد صدق الله وعده، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته؛ وقيل: المعنى: وأنتم الأعلوْن عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر، فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم. وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلق بقوله: {وَلاَ تَهِنُواْ} وما بعده، أو بقوله: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} أي: إن كنتم مؤمنين، فلا تهنوا، ولا تحزنوا، أو إن كنتم مؤمنين، فأنتم الأعلون. والقرح بالضم، والفتح: الجرح، وهما لغتان فيه، قاله الكسائي، والأخفش.
وقال الفراء: هو: بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع: {قرح} بفتح القاف، والراء على المصدر.
والمعنى في الآية: إن نالوا منكم يوم أحد، فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم. وقيل: إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء، فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم، فأصابوا منهم. والأوّل أولى؛ لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه.
وقوله: {وَتِلْكَ الايام} أي: الكائنة بين الأمم في حروبها، والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوّة؛ تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى، كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر، وأُحد، وهو معنى قوله: {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} فقوله: {تِلْكَ} مبتدأ، {والأيام} صفته، والخبر {نداولها} وأصل المداولة: المعاورة، داولته بينهم: عاورته. والدولة: الكرة، ويجوز أن تكون الأيام خبراً، ونداولها حالاً، والأوّل أولى. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} معطوف على علة مقدّرة كأنه قال: نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفاً، أي: ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، أي: فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء، كما علمه علماً أزلياً {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} أي: يكرمهم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد، سمي بذلك؛ لكونه مشهوداً له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه، كالمشاهد للجنة، و{من} للتبعيض، وهم شهداء أحد. وقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جملة معترضة بين المعطوف، والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله.
وقوله: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} من جملة العلل معطوف على ما قبله. والتمحيص: الاختبار. وقيل: التطهير على حذف مضاف، أي: ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل: يمحص: يخلص، قاله الخليل، والزجاج، أي: ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله: {وَيَمْحَقَ الكافرين} أي: يستأصلهم بالهلاك، وأصل التمحيق: محو الآثار، والمحق: نقصها.
قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة، والهمزة للإنكار، أي: بل أحسبتم، والواو في قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} واو الحال. والجملة حالية، وفيه تمثيل كالأوّل، أو علم يقع عليه الجزاء. وقوله: {وَِيَعْلَمَ الصابرين} منصوب بإضمار {أن} كما قال الخليل، وغيره على أن الواو للجمع.
وقال الزجاج: الواو بمعنى حتى، وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر: {ويعلم الصابرين} بالجزم عطفاً على {وَلَمَّا يَعْلَمِ} وقريء بالرفع على القطع، وقيل: إن قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} كناية عن نفي المعلوم، وهو: الجهاد والمعنى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد، والصبر، أي: الجمع بينهما، ومعنى {لَمّا} معنى: {لم} عند الجمهور، وفرّق سيبويه بينهما، فجعل (لم) لنفي الماضي، و(لما) لنفي الماضي والمتوقع.
قوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} هو خطاب لمن كان يتمنى القتال، والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر، فإنهم كانوا يتمنون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك. وقوله: {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} أي: القتال، أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش: {من قبل أن تلاقوه} وقد ورد النهي عن تمني الموت، فلابد من حمله هنا على الشهادة. قال القرطبي: وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات، والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة، فيسألون الصبر على الجهاد، وإن أدّى إلى القتل. قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي: القتال، أو ما هو سبب للموت، ومحل قوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} النصب على الحال، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة، أي: قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم. قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقيل معناه: بصراء ليس في أعينكم علل، وقيل معناه: وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}. سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أُحد صاح الشيطان قائلاً: قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين، حتى قال قائل: قد أصيب محمد، فأعطوا بأيديكم، فإنما هم إخوانكم، وقال آخر: لو كان رسولاً ما قتل، فردّ الله عليهم ذلك، وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل، وسيخلو، كما خلوا، فجملة قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول. والقصر قصر إفراد، كأنهم استبعدوا هلاكه، فأثبتوا له صفتين: الرسالة، وكونه لا يهلك، فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل: هو: قصر قلب. وقرأ ابن عباس: {قد خلت من قبل رسل} ثم أنكر الله عليهم بقوله: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي: كيف ترتدّون، وتتركون دينه إذا مات، أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو، ويتمسك أتباعهم بدينهم، وإن فقدوا بموت، أو قتل، وقيل: الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته، أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل؛ لكونه مجوّزاً عند المخاطبين.
قوله: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} أي: بإدباره عن القتال، أو بارتداده عن الإسلام {فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً} من الضرر، وإنما يضرّ نفسه {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي: الذين صبروا، وقاتلوا، واستشهدوا؛ لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام، ومن امتثل ما أمر به، فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} هذا كلام مستأنف يتضمن الحثّ على الجهاد، والاعلام بأن الموت لابد منه. ومعنى: {بِإِذُنِ الله} بقضاء الله، وقدره، وقيل: إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وسلم، فبين لهم أن الموت بالقتل، أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير محتارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله. وقوله: {كتابا} مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن معناه كتب الله الموت كتاباً. والمؤجل: المؤقت الذي لا يتقدّم على أجله، ولا يتأخر. قوله: {وَمَن يُرِدِ} أي: بعمله {ثَوَابَ الدنيا} كالغنيمة، ونحوها، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا، وإن كان السبب خاصاً {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من ثوابها على حذف المضاف {وَمَن يُرِدِ} بعمله {ثَوَابَ الأخرة} وهو الجنة نؤته من ثوابها، وتضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة {وَسَنَجْزِى الشاكرين} بامتثال ما أمرناهم به كالقتال، ونهيناهم عنه كالفرار، وقبول الإرجاف.
وقوله: {وَكَأَيّن} قال الخليل، وسيبويه: هي، (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، وثبتت معها، فصارت بعد التركيب بمعنى (كم)، وصوّرت في المصحف (نوناً)، لأنها كلمة نقلت عن أصلها، فغير لفظها لتغيير معناها، ثم كثر استعمالها، فتصرّفت فيها العرب بالقلب، والحذف، فصار فيها أربع لغات قريء بها: أحدها: كائن مثل كاعن، وبها قرأ ابن كثير، ومثله قول الشاعر:
وَكَائِن بِالأبَاطِح مِن صَديق ** يراني لَوْ أصِبْتُ هو المُصَابَا

وقال آخر:
وَكائِن رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّج ** يجيءُ أمَامَ الرَّكْب يَرِدْى مُقَنَّعا

وقال زهير:
وَكَائِنُ تَرى مِن مُعْجَبٍ لَكَ شَخْصه ** زَيَادته أوْ نَقْصه فِي التَّكلُمِ

{وكأين} بالتشديد مثل كعين، وبه قرأ الباقون، وهو الأصل. والثالثة: كأين مثل كعين مخففاً. والرابعة كيئن بياء بعدها همزة مكسورة، ووقف أبو عمرو بغير نون، فقال كأي: لأنه تنوين، ووقف الباقون بالنون. والمعنى: كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب {قتل} على البناء للمجهول، وهي قراءة ابن عباس، واختارها أبو حاتم، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون في {قتل} ضمير يعود إلى النبيّ، وحينئذ يكون قوله: {مَعَهُ رِبّيُّونَ} جملة حالية، كما يقال: قتل الأمير معه جيش، أي: ومعه جيش، والوجه الثاني: أن يكون القتل، واقعاً على ربيون، فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى: قتل بعض أصحابه، وهم الربيون.
وقرأ الكوفيون، وابن عامر: {قاتل} وهي قراءة ابن مسعود، واختارها أبو عبيد، وقال: إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل، ولم يقتل، فقاتل أعمّ، وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى. والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن: ما قتل نبيّ في حرب قط، وكذا قال سعيد بن جبير، {والربيون} بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ عليّ بضمها، وابن عباس بفتحها، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب، والربى بضم الراء، وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء، وضمها، وهي الجماعة، ولهذا، فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل: هم الأتباع؛ وقيل: هم العلماء. قال الخليل: الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله، والعبادة، ومعرفة الربوبية.
وقال الزجاج: الربيون بالضم: الجماعات. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} عطف على قاتل، أو قتل. والوهن: انكسار الجدّ بالخوف. وقرأ الحسن: {وهنوا} بكسر الهاء، وضمها. قال أبو زيد: لغتان وهن الشيء يهن، وهناً: ضعف، أي: ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قتل منهم. {وما ضعفوا} أي: عن عدوّهم {وَمَا استكانوا} لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة: الذلة، والخضوع، وقريء: {وما وهنوا وما ضعفوا} بإسكان الهاء، والعين.
وحكى الكسائي {ضعفوا} بفتح العين، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أُحد، وذلّ، واستكان، وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان، ولم يصنع، كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل.
قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} أي: قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول، وقولهم منصوب على أنه خبر كان. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم. وقوله: {إِلاَّ أَن قَالُواْ} استثناء مفرغ: أي: ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون، أو قتل نبيهم: {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} قيل: هي الصغائر. وقوله: {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} قيل: هي الكبائر، والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة، أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحدّ، فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مواطن القتال: {فاتاهم الله} بسبب ذلك {ثَوَابَ الدنيا} من النصر، والغنيمة، والعزة، ونحوها {وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ثواب الآخرة الحسن، وهو نعيم الجنة، جعلنا الله من أهلها.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} قال: تداول من الكفار، والمؤمنين في الخير، والشرّ.
وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال: أوّل ما نزل من آل عمران، {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} ثم أنزل بقيتها يوم أحد.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن في قوله: {هذا بَيَانٌ} يعني: القرآن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يعلون علينا» فأنزل الله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل فلان، فنعى بعضهم لبعض، وتحدّثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين، فوقهم على الجبل، وكانوا على أحد مجنبتي المشركين، وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي فرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا قوّة لنا إلا بك، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر، فلا تهلكهم» وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك {وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ} قال: وأنتم الغالبون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قال: جراح وقتل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} قال: إن يقتل منكم يوم أحد، فقد قتل منهم يوم بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} قال: كان يوم أحد بيوم بدر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، من طريق ابن جريج، عن ابن عباس في قوله: {وَتِلْكَ الأيام} الآية، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً.
وأخرج ابن جريج، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} قال: إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهمّ ربنا أرنا يوماً، كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
وأخرجا عنه في قوله: {وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ} قال: يبتليهم {وَيَمْحَقَ الكافرين} قال: ينقصهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق العوفي عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: ليتنا نقتل، كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبلي فيه خيراً، ونلتمس الشهادة، والجنة، والحياة، والرزق، فأشهدهم الله أحداً، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم. فقال الله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} الآية.
وأخرج ابن المنذر عن كليب قال: خطبنا عمر بن الخطاب، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أحدية، ثم قال: تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فصعدت الجبل فسمعت يهودياً يقول: قتل محمد، فقلت: لا أسمع أحداً يقول: قتل محمد إلا ضربت عنقه، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه، فنزلت هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأوّل، فأنزل الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل}.
وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه.
وأخرج أيضاً عن عليّ في قوله: {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} قال: الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه، فكان عليّ يقول: كان أبو بكر أمير الشاكرين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن مسعود في قوله: {رِبّيُّونَ} قال: ألوف.
وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال: الربة الواحدة ألف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {رِبّيُّونَ} قال: جموع.
وأخرج ابن جرير عنه قال: علماء كثير.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَمَا استكانوا} قال: تخشعوا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} قال: خطايانا.