فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 6):

{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)}
هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى.
وقد تقدّم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء: 2] فبين سبحانه هاهنا أن السفيه، وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه.
وقد تقدّم في البقرة معنى السفيه لغة.
واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم. قال النحاس، وهذا من أحسن ما قيل في الآية.
وقال مالك: هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم، فيفسدوها، وتبقوا بلا شيء.
وقال مجاهد: هم النساء. قال النحاس، وغيره: وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات.
واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين، وهي للسفهاء، فقيل: أضافها إليهم؛ لأنها بأيديهم، وهم الناظرون فيها، كقوله: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61]، وقوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] أي: ليسلم بعضكم على بعض، وليقتل بعضكم بعضاً، وقيل: أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل. وقيل المراد: أموال المخاطبين حقيقة. وبه قال أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وقتادة. والمراد: النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء، والصبيان، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال، ولا يتجنب، وجوه الضرر التي تهلكه، وتذهب به.
قوله: {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} المفعول الأوّل محذوف، والتقدير التي جعلها الله لكم، و{قيما} قراءة أهل المدينة، وأبي عامر، وقرأ غيرهم: {قياماً} وقرأ عبد الله بن عمر: {قواما} والقيام والقوام: ما يقيمك، يقال فلان قيام أهله، وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه، أي: يصلحه، ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياء. قال الكسائي والفراء: قيماً وقواماً بمعنى قياماً، وهو منصوب على المصدر أي: لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم، فتقومون بها قياماً، وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها جمع.
وقال البصريون: قيماً جمع قيمة كديمة وديم، أي: جعلها الله قيمة للأشياء. وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول، وقال: هي مصدر، كقيام وقوام. والمعنى: أنها صلاح للحال، وثبات له، فأما على قول من قال: إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة، فالمعنى واضح. وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى، فالمعنى أنها من جنس ما تقوم به معايشكم، ويصلح به حالكم من الأموال. وقرأ الحسن، والنخعي: {اللاتي جعل} قال الفراء: الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي، والأموال التي، وكذلك غير الأموال، ذكره النحاس.
قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} أي: اجعلوا لهم فيها رزقاً، أو افرضوا لهم، وهذا فيمن تلزم نفقته، وكسوته من الزوجات، والأولاد، ونحوهم. وأما على قول من قال: إن الأموال هي أموال اليتامى، فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا، وتنفقوهم من الأرباح، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم، ويكتسون به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء، وبه قال الجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلاً، واستدل بها أيضاً على وجوب نفقة القرابة، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه. قوله: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قيل: ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وحاطكم، وصنع لكم. وقيل معناه: عدوهم وعداً حسناً قولوا لهم: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه: مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله صاحبه، ونحو ذلك. والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل، ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل، والأولاد، أو مع الأيتام المكفولين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «خيركم خيركم أهله، وأنا خيركم لأهلي» قوله: {وابتلوا اليتامى} الابتلاء: الاختبار.
وقد تقدّم تحقيقه.
وقد اختلفوا في معنى الاختبار، فقيل: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ليعلم بنجابته، وحسن تصرفه، فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح، وآنس منه الرشد، وقيل: معنى الاختبار: أن يدفع إليه شيئاً من ماله، ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله، وقيل: معنى الاختبار: أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية ردّ إليها ما يردّ إلى ربة البيت من تدبير بيتها. والمراد ببلوغ النكاح بلوغ النكاح: بلوغ الحلم كقوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} [النور: 59] ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة.

وقال مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر، والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل، والحيض. قوله: {وابتلوا اليتامى} أي: أبصرتم، ورأيتم، ومنه قوله: {مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29]. قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً، معناه: تبصر. وقيل: هو هنا بمعنى: وجد وعلم، أي: فإن وجدتم، وعلمتم منهم رشداً. وقراءة الجمهور: {رشدا} بضم الراء وسكون الشين. وقرأ ابن مسعود، والسلمي، وعيسى الثقفي بفتح الراء، والشين، قيل: هما لغتان، وقيل: هو بالضم مصدر رشد، وبالفتح مصدر رشد.
واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا، فقيل: الصلاح في العقل والدين، وقيل: في العقل خاصة. قال سعيد بن جبير، والشعبي: إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده، وإن كان شيخاً. قال الضحاك: وإن بلغ مائة سنة. وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر.
وقال أبو حنيفة، لا يحجر على الحرّ البالغ، وإن كان أفسق الناس، وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي، وزفر، وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي: بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلابد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ، وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم.
والمراد بالرشد: نوعه، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله، وعدم التبذير بها، ووضعها في مواضعها.
قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} الإسراف في اللغة: الإفراط، ومجاوزة الحدّ.
وقال النضر بن شميل: السرف التبذير، والبدار المبادرة {أَن يَكْبَرُواْ} في موضع نصب بقوله: {بداراً} أي: لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف، وأكل مبادرة لكبرهم، أو لا تأكلوا لأجل السرف، ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين، ومبادرين لكبرهم، وتقولوا ننفق أموال اليتامى. فيما نشتهي قبل أن يبلغوا، فينتزعوها من أيدينا. قوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى، فأمر الغنيّ بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه، وعدم تناوله منه، وسوّغ للفقير أن يأكل بالمعروف.
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو؟ فقال قوم: هو القرض إذا احتاج إليه، ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وعبيدة السلماني، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، والأوزاعي، وقال النخعي، وعطاء، والحسن، وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور الفقهاء. وهذا بالنظم القرآني ألصق، فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض. والمراد بالمعروف: المتعارف به بين الناس، فلا يترفه بأموال اليتامى، ويبالغ في التنعم بالمأكول، والمشروب، والملبوس، ولا يدع نفسه عن سدّ الفاقة، وستر العورة. والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب، والجدّ، ووصيهما.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية: اليتيم إن كان غنياً، وسع عليه، وعفّ من ماله، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط.
قوله: {فإذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} أي: إذا حصل مقتضى الدفع، فدفعتم إليهم أموالهم، فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم، وقيل: إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل: هو على ردّ ما استقرضه إلى أموالهم، وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد: {وكفى بالله حَسِيباً} أي: حاسباً لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة، أي: كفى الله.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} يقول لا تعمد إلى مالك، وما خولك الله، وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك، أو بنتك، ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم، ورزقهم، ومؤونتهم.
قال: وقوله: {قَياما} يعني: قوامكم من معايشكم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه من طريق العوفي في الآية يقول: لا تسلط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه، ويكسوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: هم بنوك، والنساء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة قال: هم الخدم، وهم شياطين الإنس.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن مسعود قال: هم النساء، والصبيان.
وأخرج ابن جرير، عن حضرمي: أن رجلاً عمد، فدفع ماله إلى امرأته، فوضعته في غير الحق، فقال الله: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير قال: هم اليتامى والنساء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن عكرمة قال: هو مال اليتيم، يكون عندك، يقول لا تؤتوه إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وارزقوهم} يقول: أنفقوا عليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال: أمروا أن يقولوا لهم قولاً معروفاً في البرّ، والصلة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال: عدة تعدونهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: {وابتلوا اليتامى} يعني: اختبروا اليتامى عند الحلم {فإن آنستم} عرفتم {مّنْهُمْ رُشْداً} في حالهم، والإصلاح في أموالهم: {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ، فتحول بينه، وبين ماله.
وأخرج البخاري، وغيره، عن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية في وليّ اليتيم: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدر قيامه عليه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عباس: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} قال بغناه: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قال: يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم، وأخرج ابن جرير عنه قال: هو القرض.
وأخرج عبد بن حميد، والبيهقي، عن ابن عباس قال: إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن، وأخذ من فضل القوت، ولا يجاوزه، وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه، وإن أعسر، فهو في حل.
وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في سننه من طرق عن عمر بن الخطاب قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة وليّ اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، عن ابن عمرو: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذر، ولا متأثل مالاً، ومن غير أن تقي مالك بماله».
وأخرج أبو داود، والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قال: نسختها {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى} [النساء: 10] الآية.

.تفسير الآيات (7- 10):

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}
لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى، وصله بأحكام المواريث، وكيفية قسمتها بين الورثة. وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص. وقوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ} بدل من قوله: {مّمَّا تَرَكَ} بإعادة الجار، والضمير في قوله: {مِنْهُ} راجع إلى المبدل منه. وقوله: {نَصِيباً} منتصب على الحال، أو على المصدرية، أو على الاختصاص، وسيأتي ذكر السبب في نزول هذه الآية إن شاء الله، وقد أجمل الله سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] فبين ميراث كل فرد.
قوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} المراد بالقرابة هنا: غير الوارثين، وكذا اليتامى، والمساكين، شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق، فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها.
وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة، وأن الأمر للندب.
وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] والأوّل أرجح، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أن يقولوا إن أولى القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه. وقالت طائفة: إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة، وهو معنى الأمر الحقيقي، فلا يصار إلى الندب إلا لقرينة، والضمير في قوله: {مِنْهُ} راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: راجع إلى ما ترك. والقول المعروف: هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى.
قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ} هم الأوصياء، كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم. وقالت طائفة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام، وأولاد الناس، وإن لم يكونوا في حجورهم؛ وقال آخرون: إن المراد بهم: من يحضر الميت عند موته، أمروا بتقوى الله، بأن يقولوا للمحتضر قولاً سديداً من إرشادهم إلى التخلص عن حقوق الله، وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقرّبة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله، وإحرام ورثته، كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم، فقراء عالة يتكففون الناس وقال ابن عطية: الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدّم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين.
قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح. قوله: {لَوْ تَرَكُواْ} صلة الموصول، والفاء في قوله: {فَلْيَتَّقُواّ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها. والمعنى: وليخش الذين صفتهم، وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم، وكاسبهم، ثم أمرهم بتقوى الله، والقول السديد للمحتضرين، أو لأولادهم من بعدهم على ما سبق.
قوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى} استئناف يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء، والأوصياء، وانتصاب قوله: {ظُلْماً} على المصدرية، أي: أكل ظلم، أو على الحالية، أي: ظالمين لهم. وقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً} أي: ما يكون سبباً للنار، تعبيراً بالمسبب عن السبب، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية. وقوله: {وَسَيَصْلَوْنَ} قراءة عاصم، وابن عامر بضم الياء على ما لم يسم فاعله. وقرأ أبو حيوة بضم الياء، وفتح الصاد، وتشديد اللام من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى. وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلى هو: التسخن بقرب النار، أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:
لم أكن من جناتها علم الل ** ه وإني لحرّها اليوم صالي

والسعير: الجمر المشتعل.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات، ولا الصغار حتى يدركوا، فمات رجل من الأنصار يقال له: أوس بن ثابت، وترك ابنتين، وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه، وهما عصبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذا ميراثه كله، فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، فأرسل إليهما رسول الله فقال: «لا تحركا من الميراث شيئاً، فإنه قد أنزل عليّ شيء احترت فيه أن للذكر، والأنثى نصيباً»، ثم نزل بعد ذلك: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النساء} [النساء: 127]، ثم نزل: {يُوصِيكُمُ الله في أولادكم} [النساء: 11] فدعا بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أم كلثوم ابنة أم كحلة، أو أم كجَّة، وثعلبة بن أوس، وسويد، وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها، والآخر عم ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي، وتركني وابنته، فلم نورث من ماله، فقال عمّ ولدها: يا رسول الله لا يركب فرساً، ولا ينكى عدواً ويكسب عليها، ولا يكتسب، فنزلت.
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن خطاب بن عبد الله في هذه الآية قال: قضى بها أبو موسى.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في الآية قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عن الحسن، والزهري قالا: هي محكمة ما طابت به أنفسهم.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: يرضخ لهم فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم، فهو قولاً معروفاً.
وأخرج ابن المنذر، عن عائشة أنها لم تنسخ.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن أبي حاتم: أن هذه الآية منسوخة بآية الميراث.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب قال: هي منسوخة.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه في قوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ} قال: هذا في الرجل يحضر الرجل عند موته، فيسمعه يوصي وصية تضرّ بورثته، فأمر الله الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه، ويسدده للصواب، ولينظر لورثته، كما يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة.
وقد روي نحو هذا من طرق.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والطبراني، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي حاتم، عن أبي برزة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً» فقيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «ألم تر أن الله يقول: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً}».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسرى به قال: «نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار، فيقذف في فيّ أحدهم حتى يخرج من أسافلهم، ولهم جؤار، وصراخ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء: {الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}».
وأخرج ابن جرير، عن زيد بن أسلم قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم، ويأكلون أموالهم.