فصل: تفسير الآيات (29- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 31):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)}
الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع، أي: لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله: {عَن تَرَاضٍ} صفة لتجارة، أي: كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. وقوله: {يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29].
واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر كما في الحديث الصحيح: «البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر» وإليه ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وابن عيينة، وإسحاق وغيرهم.
وقال مالك، وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته.
وقد قرئ: {تجارة} بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة.
قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد، وسنن أبي داود وغيرهما.
قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي: القتل خاصة، أو أكل أموال الناس ظلماً، والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة.
وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى: {أَلِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} [النساء: 19] لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً} والعدوان: تجاوز الحدّ. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وقيل: إن معنى العدوان، والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد، كما في قول الشاعر:
وألفى قولها كذباً ومينا

وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص، وقتل المرتد، وسائر الحدود الشرعية، وكذلك قتل الخطأ.
قوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً} جواب الشرط، أي: ندخله ناراً عظيمة: {وَكَانَ ذلك} أي: إصلاؤه النار {عَلَى الله يَسِيراً} لأنه لا يعجزه بشيء. وقرئ: {نصليه} بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش، والنخعي، وهو: على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية.
قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} أي: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها: {نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} أي: ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات.
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر، ثم في عددها، فأما في تحقيقها، فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روي نحو هذا عن الإسفراييني، والجويني، والقشيري، وغيرهم قالوا: والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي: الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كبائر مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.
وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية.
وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة.
وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحدّ، أو صرح بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها، فقيل: إنها سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: غير منحصرة، ولكن بعضها أكبر من بعض، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله: {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} أي: مكان دخول، وهو الجنة: {كَرِيماً} أي: حسناً مرضياً، وقد قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، والكوفيون {مُّدْخَلاً} بضم الميم. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، وكلاهما اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح، عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} قال: إنها محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة، والحسن في الآية قال: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في النور: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ}
[النور: 61] الآية.
وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما البيع عن تراض».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي صالح، وعكرمة في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} قالا: نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء بن أبي رباح نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدي: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} قال: أهل دينكم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً} يعني: متعمداً اعتداء بغير حق: {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} يقول: كان عذابه على الله هيناً.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} في كل ذلك أم في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}؟ قال: بل في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}.
وأخرج عبد بن حميد، عن أنس بن مالك قال: هان ما سألكم ربكم: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: كل ما نهى الله عنه، فهو كبيرة، وقد ذكرت الطرفة: يعني النظرة.
وأخرج ابن جرير، عنه قال: كل شيء عصى الله فيه، فهو كبيرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كل ما وعد الله عليه النار كبيرة.
وأخرج ابن جرير، والبيهقي في الشعب عنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.
وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه: كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد.
وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً، فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس شك شعبة واليمين الغموس».
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمه، فيسبّ أمه» والأحاديث في تعداد الكبائر، وتعيينها كثيرة جداً، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر، فإنه قد جمع، فأوعى.
واعلم أنه لابد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ثم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق، ثم تلا: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم}».
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود قال: إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا، وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها: قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] الآية، وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48، 116] الآية، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ} [النساء: 64] الآية، وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية.

.تفسير الآيات (32- 34):

{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}
قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته، وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهى عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير.
وقد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يتمنى أن يكون به حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار» وقد بوب عليه البخاري: (باب الاغتباط في العلم، والحكم) وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} إلخ، فيه تخصيص بعد التعميم، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أمّ سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال، ولا نغزي، ولا نقاتل، فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت. أخرجه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي، وقد روى نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة. والمعنى في الآية: أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبر عن ذلك المجعول لكل فريق من فريقي النساء، والرجال بالنصيب، مما اكتسبوا، على طريق الاستعارة التبعية شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه. قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب، والعقاب، وللنساء كذلك.
وقال ابن عباس: المراد بذلك: الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى ما ذكرنا. قوله: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} عطف على قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} وتوسيط التعليل بقوله: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} إلخ. بين المعطوف، والمعطوف عليه لتقرير ما تضمنه النهي، وهذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه من فضله، كما قاله جماعة من أهل العلم.
قوله: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} أي: جعلنا لكل إنسان ورثة موالي يلون ميراثه، ف {لكل} مفعول ثان قدّم على الفعل لتأكيد الشمول، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها، أي: ليتبع كل أحد ما قسم الله له من الميراث، ولا يتمنى ما فضل الله به غيره عليه.
وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله بعدها: {والذين عاقدت أيمانكم} وقيل: العكس. كما روى ذلك ابن جرير.
وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله: {والذين عاقدت أيمانكم} قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75] والموالى جمع مولى، وهو: يطلق على المعتق، والمعتق، والناصر، وابن العم، والجار قيل: والمراد هنا: العصبة، أي: ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض. قوله: {والذين عاقدت أيمانكم} المراد بهم موالى الموالاة: كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل، أي: يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية، ثم نسخ بقوله: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وقراءة الجمهور: {عاقدت} وروي عن حمزة أنه قرأ: {عقدت} بتشديد القاف على التكثير، أي: والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف، أو عقدت عهودهم أيمانكم، والتقدير على قراءة الجمهور: والذين عاقدتهم أيمانكم، فآتوهم نصيبهم، أي: ما جعلتموه لهم بعقد الحلف.
قوله: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم تشاركهم فيه النساء؟ فقال: {الرجال قَوَّامُونَ} إلخ، والمراد: أنهم يقومون بالذب عنهنّ، كما تقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله: {قَوَّامُونَ} ليدّل على أصالتهم في هذا الأمر، والباء في قوله: {بِمَا فَضَّلَ الله} للسببية والضمير في قوله: {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} للرجال والنساء، أي: إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة، وغير ذلك من الأمور. قوله: {وَبِمَا أَنفَقُواْ} أي: وبسبب ما أنفقوا من أموالهم، وما مصدرية، أو موصولة، وكذلك هي في قوله: {بِمَا فَضَّلَ الله} و{من} تبعيضية، والمراد: ما أنفقوه في الإنفاق على النساء، وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد، وما يلزمهم في العقل.
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك، والشافعي، وغيرهما.
قوله: {فالصالحات} أي: من النساء {قانتات} أي: مطيعات لله قائمات بما يجب عليهنّ من حقوق الله، وحقوق أزواجهنّ {حفظات لّلْغَيْبِ} أي: لما يجب حفظه عند غيبة أزواجهنّ عنهنّ من حفظ نفوسهنّ، وحفظ أموالهم، و{ما} في قوله: {بِمَا حَفِظَ الله} مصدرية، أي: بحفظ الله. والمعنى: أنهنّ حافظات لغيب أزواجهنّ بحفظ الله لهنّ ومعونته وتسديده، أو حافظات له بما استحفظهنّ من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهنّ بما أوصى به الأزواج في شأنهنّ من حسن العشرة، ويجوز أن تكون {ما} موصولة، والعائد محذوف.
وقرأ أبو جعفر: {بِمَا حَفِظَ الله} بنصب الاسم الشريف. والمعنى بما حفظن الله: أي: حفظن أمره، أو حفظن دينه، فحذف الضمير الراجع إليهنّ للعلم به، و{ما} على هذه القراءة مصدرية، أو موصولة، كالقراءة الأولى، أي: بحفظهن الله، أو بالذي حفظن الله به.
قوله: {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هذا خطاب للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظنّ حدوثه، وقيل المراد: بالخوف هنا العلم. والنشوز: العصيان.
وقد تقدّم بيان أصل معناه في اللغة. قال ابن فارس: يقال: نشزت المرأة: استعصت على بعلها، ونشز بعلها عليها: إذا ضربها وجفاها {فَعِظُوهُنَّ} أي: ذكروهنّ بما أوجبه الله عليهن من الطاعة، وحسن العشرة، ورغبوهنّ، ورهبوهنّ، {واهجروهن في المضاجع} يقال: هجره، أي: تباعد عنه. والمضاجع: جمع مضجع، وهو محل الاضطجاع، أي: تباعدوا عن مضاجعتهنّ، ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها. وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه {واضربوهن} أي: ضرباً غير مبرح. وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر. وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} كما يجب، وتركن النشوز {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: لا تتعرضوا لهنّ بشيء مما يكرهن لا بقول، ولا بفعل، وقيل: المعنى: لا تكلفوهنّ الحبّ لكم، فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: وإن كنتم تقدرون عليهنّ، فاذكروا قدرة الله عليكم، فإنها فوق كل قدرة، والله بالمرصاد لكم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} يقول: لا يتمنى الرجل، فيقول: ليت أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله: {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا} يعني مما ترك الوالدان والأقربون، للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة: أن سبب نزول الآية أن النساء قلن: لو جعل أنصباؤنا في الميراث، كأنصباء الرجال؟ وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليهنّ في الميراث.
وقد تقدم ذكر سبب النزول.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} قال: ليس بعرض الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} قال: العبادة ليس من أمر الدنيا.
وأخرج الترمذي، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل». قال الترمذي: كذا رواه حماد بن واقد، وليس بالحافظ، ورواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح، وكذا رواه ابن جرير، وابن مردويه، ورواه أيضاً ابن مردويه من حديث ابن عباس.
وأخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} قال: ورثة {والذين عاقدت أيمانكم} قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فلما نزلت: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} نسخت، ثم قال: {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصي له.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} قال: عصبة {والذين عاقدت أيمانكم} قال: كان الرجلان أيهما مات، ورثه الآخر، فأنزل الله: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت، وهو المعروف.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه في الآية قال: كان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل يقول: ترثني وأرثك، وكان الأحياء يتحالفون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل حلف كان في الجاهلية، أو عقد أدركه الإسلام، فلا يزيده الإسلام إلا شدّة، ولا عقد ولا حلف في الإسلام»، فنسختها هذه الآية: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وأخرج أبو داود، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي، عنه في الآية قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك في الأنفال: {وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الحسن: أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزل: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أردنا أمراً وأراد الله غيره».
وأخرج ابن مردويه، عن عليّ نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء} يعني أمراء عليهنّ أن تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله {بِمَا فَضَّلَ الله} فضله عليها بنفقته، وسعيه {فالصالحات قانتات} قال: مطيعات {حفظات لّلْغَيْبِ} يعني: إذا كنّ كذا، فأحسنوا إليهنّ.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة {حفظات لّلْغَيْبِ} قال: حافظات للغيب بما استودعهنّ الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهنّ.
وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد قال: {حفظات لّلْغَيْبِ} للأزواج.
وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: تحفظ على زوجها ماله، وفرجها حتى يرجع، كما أمرها الله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} قال: تلك المرأة تنشز، وتستخفّ بحق زوجها، ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها، ويذكرها بالله، ويعظم حقه عليها، فإن قبلت، وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها تشديد، فإن رجعت، وإلا ضربها ضرباً غير مبرح، ولا يكسر لها عظماً، ولا يجرح بها جرحاً {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} يقول: إذا أطاعتك، فلا تتجنى عليها العلل.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس: {واهجروهن في المضاجع} قال: لا يجامعها.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عنه قال: يهجرها بلسانه، ويغلظ لها بالقول، ولا يدع الجماع.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عكرمة نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء: أنه سأل ابن عباس، عن الضرب غير المبرح، فقال: بالسواك، ونحوه.
وقد أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، عن عمرو بن الأحوص: أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هنّ عوان عندكم ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضرباً غير مبرح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}».
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيضرب أحدكم امرأته، كما يضرب العبد؟ ثم يجامعها في آخر اليوم».