فصل: تفسير الآيات (44- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 48):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كلام مستأنف، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين. والنصيب: الحظّ، والمراد: اليهود أوتوا نصيباً من التوراة. وقوله: {يَشْتَرُونَ} جملة حالية، والمراد بالاشتراء: الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه. والمعنى: أن اليهود استبدلوا الضلالة، وهي: البقاء على اليهودية، بعد وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل} عطف على قوله: {يَشْتَرُونَ} مشارك له في بيان سوء صنيعهم، وضعف اختيارهم، أي: لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم، الذي هو سبيل الحق: {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} أيها المؤمنون، وما يريدونه بكم من الإضلال، والجملة اعتراضية {وكفى بالله وَلِيّاً} لكم {وكفى بالله نَصِيراً} ينصركم في مواطن الحرب، فاكتفوا بولايته ونصره، ولا تتولوا غيره، ولا تستنصروه، والباء في قوله: {بالله} في الموضعين زائدة.
قوله: {مّنَ الذين هَادُواْ} قال الزجاج: إن جعلت متلعقة بما قبل، فلا يوقف على قوله: {نَصِيراً} وإن جعلت منقطعة، فيجوز الوقف على {نصيراً} والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون، ثم حذف، وهذا مذهب سيبويه، ومثله قول الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم أيثم ** يفضلها في حسب وميسم

قالوا: المعنى: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها، ثم حذف.
وقال الفراء: المحذوف لفظ من: أي من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: من له، ومنه قول ذي الرمة:
فظلوا ومنهم دمعه سابق له

أي: من دمعه، وأنكره المبرّد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة؛ وقيل إن قوله: {مّنَ الذين هَادُواْ} بيان لقوله: {الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب}. والتحريف: الإمالة والإزالة، أي: يميلونه ويزيلونه عن مواضعه، ويجعلون مكانه غيره، أو المراد: أنهم يتأوّلونه على غير تأويله، وذمهم الله عزّ وجلّ بذلك، لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً، وتأثيراً لغرض الدنيا.
قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي: سمعنا قولك، وعصينا أمرك {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع حال كونك غير مسمع، وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: اسمع لا سمعت، ويحتمل أن يكون المعنى: اسمع غير مسمع مكروهاً، أو اسمع غير مسمع جواباً.
وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أنهم يلوونها عن الحق، أي: يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل الليّ: الفتل وهو منتصب على المصدر، ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله. قوله: {وَطَعْناً في الدين} معطوف على {ليا} أي: يطعنون في الدين بقولهم: لو كان نبياً لعلم أنا نسُّبه، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا} قولك: {وَأَطَعْنَا} أمرك: {واسمع} ما نقول: {وانظرنا} أي: لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} مما قالوه {وَأَقْوَمُ} أي: أعدل، وأولى من قولهم الأوّل، وهو قولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وراعنا} لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب، واحتمال الذم في راعنا {ولكن} لم يسلكوا المسلك الحسن، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم، ولهذا: {لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إلا إيماناً قليلاً، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض.
قوله: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} ذكر سبحانه أوّلاً أنهم أوتوا نصيباً من الكتاب، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد: أنهم أوتوا نصيباً منه؛ لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه، بل حرّفوا وبدّلوا. وقوله: {مُصَدّقاً} منتصب على الحال. والطمس: استئصال أثر الشيء، ومنه {وَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] يقال: نطمس بكسر الميم وضمها لغتان في المستقبل، ويقال: طمس الأثر أي: محاه كله، ومنه {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} [يونس: 88] أي: أهلكها، ويقال: هو مطموس البصر، ومنه: {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أي: أعميناهم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم، وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة، وذهب إلى الآخر آخرون، وعلى الأوّل، فالمراد بقوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} نجعلها قفا، أي: نذهب بآثار الوجه، وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا، وقيل: إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا، والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله: {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا، ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين.
وقال المبرد: الوعيد باق منتظر وقال: لابد من طمس في اليهود، ومسخ قبل يوم القيامة. قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه، قيل المراد باللعن هنا: المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل المراد: نفس اللعنة، وهم ملعونون بكل لسان. والمراد: وقوع أحد الأمرين: إما الطمس، أو اللعن.
وقد وقع اللعن، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل أصحاب السبت. قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: كائناً موجوداً لا محالة، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى أنه متى أراده كان، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}
[يس: 82] قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالوا ثالث ثلاثة. ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين، فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزّ وجلّ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عزّ وجلّ. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة.
وقد تقدّم قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم} [النساء: 31] وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} يعني: يحرفون حدود الله في التوراة، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} قال: تبديل اليهود التوراة {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} قالوا: سمعنا ما تقول ولا نطيعك {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: غير مقبول ما تقول: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} قال: خلافاً يلوون به ألسنتهم {واسمع وانظرنا} قال: أفهمنا لا تعجل علينا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس في قوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} قال: يقولون اسمع لا سمعت.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار اليهود: منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر اليهود اتقوا الله، وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق» فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، وأنزل الله فيهم: {يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} قال: طمسها أن تعمي {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} يقول: نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم، فيمشون القهقري. ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} يقول: عن صراط الحق {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} قال: في الضلالة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: «وما دينه؟» قال: يصلي ويوحد الله، قال: استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل منه ذلك، فأبى عليه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: وجدته شحيحاً على دينه، فنزلت: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.
وأخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن عدّي بسند صحيح، عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: «إنيّ ادّخرت دعوتي، وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عمر قال: لما نزلت: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] الآية قام رجل فقال: والشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.
وأخرج ابن المنذر، عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}.
وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرّم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة.
وأخرج الترمذي، وحسنه عن علي قال: أحبّ آية إلىّ في القرآن {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية.

.تفسير الآيات (49- 55):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيب من حالهم.
وقد اتفق المفسرون على أن المراد: اليهود.
واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم، فقال الحسن، وقتادة: هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا، ونحن كالأطفال. وقيل: قولهم إن آباءهم يشفعون لهم وقيل: ثناء بعضهم على بعض. ومعنى التزكية: التطهير والتنزيه، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية، كمحيي الدين، وعز الدين، ونحوهما. قوله: {بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء} أي: ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده، ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس، وطلب العلوّ والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32]. قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: هؤلاء المزكون لأنفسهم {فَتِيلاً} وهو: الخيط الذي في نواة التمر. وقيل: القشرة التي حول النواة وقيل: هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما، فهو: فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا: الكناية عن الشيء الحقير، ومثله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] وهو: النكتة التي في ظهر النواة. والمعنى: أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى {مَن يَشَآء} أي: لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب. ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من تزكيتهم لأنفسهم، فقال: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} في قولهم ذلك. والافتراء: الاختلاق، ومنه افترى فلان على فلان: أي: رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء: قطعته، وفي قوله: {وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} من تعظيم الذنب، وتهويله ما لا يخفى.
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل، وهم: اليهود.
واختلف المفسرون في معنى الجبت: فقال ابن عباس، وابن جبير، وأبو العالية، الجبت: الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت: الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت: السحر، والطاغوت الشيطان.
وروي عن ابن مسعود أن الجبت، والطاغوت هاهنا كعب بن الأشرف.
وقال قتادة: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.
وروي عن مالك أن الطاغوت: ما عبد من دون الله، والجبت: الشيطان، وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله.
وأصل الجبت الجبس، وهو: الذي لا سير فيه، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب، وقيل: الجبت: إبليس، والطاغوت: أولياؤه. قوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً} أي: يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلاً، أي: أقوم ديناً، وأرشد طريقاً.
وقوله: {أولئك} إشارة إلى القائلين {الذين لَعَنَهُمُ الله} أي: طردهم وأبعدهم من رحمته {وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه. قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} {أم} منقطعة، والاستفهام للإنكار، يعني: ليس لهم نصيب من الملك {فَإذا لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف، أي: إن جعل لهم نصيب من الملك، فإذا لا يعطون الناس نقيراً منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم وقيل: المعنى: بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأوّل، والاستئناف للثاني. وقيل: هي: عاطفة على محذوف، والتقدير: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك، فإذن لا يؤتون الناس نقيراً؟ والنقير: النقرة في ظهر النواة وقيل: ما نقر الرجل بأصبعه، كما ينقر الأرض. والنقير أيضاً: خشبة تنقر وينبذ فيها.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النقير، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير: الأصل، يقال: فلان كريم النقير، أي: كريم الأصل. والمراد هنا: المعنى الأوّل، والمقصود به المبالغة في الحقارة، كالقطمير والفتيل. و(إذن) هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز. قال سيبويه: (إذن) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أوّل الكلام، وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت.
قوله: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم من فضله} أم منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر، أي: بل يحسدون الناس يعني: اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوّة، والنصر، وقهر الأعداء. قوله: {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم} هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه، أي: ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم، وهم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة والملك العظيم. قيل: هو ملك سليمان، واختاره ابن جرير {فَمِنْهُمْ} أي: اليهود {مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} أي: أعرض عنه. وقيل: الضمير في {به} راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم.
وقيل: الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى: فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه، وقيل: الضمير يرجع إلى الكتاب، والأوّل أولى {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} أي: ناراً مسعرة.
وقد أخرج ابن جرير، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: إن اليهود قالوا: إن آباءنا قد توفوا، وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون لنا ويزكوننا، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم، ويقرّبون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، وكذبوا، قال الله: إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له، ثم أنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ}.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن أن التزكية قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] {وقالوا لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111].
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قال: الفتيل: ما خرج من بين الأصبعين. وفي لفظ آخر عنه: هو أن تدلك بين أصبعيك، فما خرج منهما، فهو ذلك.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عنه قال: النقير: النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة. والفتيل: الذي يكون على شق النواة. والقطمير: القشر الذي يكون على النواة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: قال الفتيل الذي في الشق الذي في بطن النواة.
وأخرج الطبراني، والبيهقي في الدلائل عنه قال: قدم حيّي بن أخطب، وكعب بن الأشرف مكة على قريش، فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنتم أهل العلم القديم، وأهل الكتاب، فأخبرونا عنا وعن محمد، قالوا: ما أنتم وما محمد؟ قالوا: ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونصل الأرحام، قالوا: فما محمد؟ قالوا: صنبور: أي: فرد ضعيف، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فقالوا: لا بل أنتم خير منه، وأهدى سبيلاً، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} الآية.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة مرسلاً.
وقد روي عن ابن عباس، وعن عكرمة بلفظ آخر.
وأخرج نحوه عبد بن حميد، وابن جرير، عن السدّي، عن أبي مالك.
وأخرج نحوه أيضاً البيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، عن جابر ابن عبد الله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن عكرمة قال: الجبت، والطاغوت صنمان.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عمر في تفسير الجبت، والطاغوت ما قدّمناه عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت حيّي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت: الأصنام، والطاغوت: الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشية، والطاغوت: كهان العرب.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} قال: فليس لهم نصيب، ولو كان لهم نصيب لم يؤتوا الناس نقيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق، عن ابن عباس قال النقير: النقطة التي في ظهر النواة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتى في تواضع، وله تسع نسوة، وليس له همة إلا النكاح، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} إلى قوله: {مُّلْكاً عَظِيماً} يعني: ملك سليمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: الناس في هذا الموضع النبي خاصة.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة قال: هم: هذا الحيّ من العرب.